أصبح المفكر والناقد تزفيتان تودوروف من أبرز الأسماء في السجال العالمي القائم حالياً حول قضايا مثيرة كالعولمة والعلاقة بين الغرب والشرق، والبنيوية وسواها... هنا قراءة في ظاهرة هذا المفكّر البلغاري الجذور. غداة زيارته القاهرة يتحول الكثير من النقاد ومنظري الأدب في السنوات الأخيرة الى ما يسمى في المعرفة المعاصرة "تاريخ أنظمة الفكر"، وهشو حقل من حقول المعرفة الانسانية يعالج اشكال الممارسات المختلفة بصفتها خطابات تكشف عن قوانين ومعايير تحكم تصرف البشر وتتمتع بمنطقها الداخلي بعيداً من رغبات الأفراد ورغباتهم الشخصية. ويستفيد المهتمون بهذا الحقل المعرفي من أنواع النصوص جميعها، أدبية كانت أو غير أدبية، ويركزون على فكرة "الأرشيف" الذي يعثرون فيه على المادة التي يرتكز اليها خطابهم وتنصب عليها تحليلاتهم. ولا شك في أن المفكر الفرنسي الراحل ميشال فوكو كان في طليعة الذين احدثوا ثورة في حقل دراسات الخطاب وطوروا مفهوم "تاريخ انظمة الفكر" في الدراسات المعاصرة. قد يكون هذا المناخ الذي اوجده فوكو وحواريوه، في كل ركن من أركان الكرة الأرضية، هو الذي دفع واحداً في حجم المنظر الأدبي، وأحد أعلام البنيوية في الستينات والسبعينات، تزفيتان تودوروف لينتقل من حقل الدراسات الأدبية وعالم الشكلانيين والبنيويين الى مجال دراسات الخطابات وتحولات الأفكار بعد ان كان لا يرى في النصوص سوى الدوال وقوانين اللغة والشكل والنوع الأدبي. حضر تودوروف من بلغاريا الى فرنسا عام 1983 ولم يكن بلغ حينذاك الأربعة والأربعين من عمره هو من مواليد صوفيا عام 1939. وتعرف في أروقة السوربون التي لم تكن تعترف بموضوع "النظرية الأدبية" بصفتها حقلاً من حقول دراسة الانسانيات على جيرار جينيت الذي اقترح عليه ان يتابع دروس رولان بارت في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية. وأهّله قربه من بارت في منتصف الستينات أن يساهم في الكتابة لمجلة Communications الشهيرة والتي احدثت تأثيراً بالغاً في حقل الدراسات الادبية في الستينات. وبين مقالاته البارزة، التي نشرها في المجلة عام 1964، مقالة في عنوان "وصف الدلالة في الأدب" درس فيها مستويات التحليل البنيوي المختلفة مشدداً على ان الشكل في التحليل البنيوي يفوق في الأهمية دراسة المحتوى. واتبع تودوروف الشاب تلك المقالة بمقالة ثانية نشرها في المجلة نفسها عام 1966 في عنوان "أنماط السرد الأدبي". ونحن نقع في تلك المقالة على التأثيرات الأولى لعمل الشكلانيين الروس في مسيرة تودوروف النقدية. يكرر تودوروف في المقالة، ولأكثر من مرة، أن "وصف العمل الأدبي يهدف الى التعرف على معنى عناصره الأدبية"، وان "وظيفة الناقد هي تأويل هذه العناصر". لكن حجر الأساس في تفكير تودوروف في هذه المرحلة يتمثل في ربطه بين كشوف الشكلانيين الروس، الذين تأمل في عملهم في كتابه "نظرية الأدب: نصوص الشكلانيين الروس" وهو كان اصدره عام 1965، وعمل اللساني السويسري فردينان دي سوسير اذ يشير في مقالته المذكورة الى ان المعنى ذو طبيعة "علائقية"، والى ان معنى عمل ادبي بعينه يشتق من علاقته بأعمال ادبية اخرى في التاريخ الأدبي. ويشير تودوروف، في ضربه الأمثلة، الى ان معنى رواية غوستاف فلوبير "مدام بوفاري" يتحدد حين نقابلها بالميراث الرومانطيقي الذي سبقها اذ لا طائل من البحث عن معنى نهائي للعمل الأدبي خارج هذا السياق من العلاقة بين النصوص. في السنوات التي تلت اصدر تودوروف عدداً من الكتب الاساسية التي تتفاوت عناوينها بين "مقدمة في الشعرية" و"شعرية النثر" و"نظريات الرمز" و"الرمزية والتأويل" وصولاً الى كتابه المفصلي "العجائبي: مقاربة بنيوية لنوع ادبي". وأسس عام 1970، بالاشتراك مع المنظر البنيوي جيرار جينيت والناقدة النسوية هيلين سيكسو، مجلة "بويتيك" الشعرية التي احدثت تأثيراً كبيراً في حقل الدراسات الأدبية في فرنسا. وهو في كل كتبه السابقة يؤمن بأن "على التحليل البنيوي للسرد ان يتخذ من التحليل اللساني نموذجاً له" يحاكيه ويحاول تتبع خطواته، ولم يكن المضمون، او المحتوى بلغة نقاد الواقعية، يحتل جانباً ذا بال من تفكير تودوروف. ففي كتابه "العجائبي..." يحدد الناقد البلغاري الأصل ثلاثة مظاهر اساسية للعمل الأدبي هي: المظهر اللفظي أي وحدات الجمل التي تكون النص، والمظهر النحوي أي العلاقات التي تقوم بين العناصر البنيوية للعمل، والمظهر الدلالي أي ثيمات النص أو محتواه. لكنه من بين هذه المظاهر جميعاً يركز على المظهر النحوي لاعتقاده بوجود "نحو كوني" عابر للغات يمكننا تتبعه في النصوص جميعها بغض النظر عن لغات كتابتها. ومن ثم فإن تودوروف يطلق على بحثه "نحوية النصوص السردية" عنوان "علم السرد" Narratology محاولاً ايجاد اسس عامة ترتكز اليها "نظرية الأنواع". وهو يجادل في كتابه "العجائبي..."، بلغة سويسرية واضحة، بأن ما يميز نوعاً أدبياً عن آخر هو اختلافه عن الأنواع الأخرى ذات العلاقة. في السنوات الأولى من الثمانينات بدأ تودوروف رحلة جديدة في عمله الثقافي متأملاً الأفكار والمفاهيم وباحثاً في الأحداث ومنعطفات التاريخ عن المعاني وصيغ الوجود التي تحكم الفعل البشري وتقرر طبيعة العلاقات التي تقوم بين الأعراق والثقافات والأفراد. ولعل كتابيه "غزو أميركا: سؤال الآخر" 1982، و"نحن والآخرون" 1989، وقد ترجم الى الانكليزية عام 1993 في عنوان "التنوع الانساني" ان يكشفا عن هذا التحول الأساسي في مسيرته كناقد ومنظر ومؤرخ للأفكار. في "غزو أميركا: سؤال الآخر" يحلل تودوروف الوثائق الخاصة باكتشاف كولومبوس أميركا عام 1492 ليكشف عن العلاقات بين الأوروبيين والهنود الحمر، بين الذات والآخر، والهوية والاختلاف. ويؤكد تودوروف ان كولومبوس نظر الى الآخر بعيون ثقافته ومن ضمنها ثقافته الدينية وتحيزات هذه الثقافة اذ رأى في الهنود مجرد كائنات ذات طبيعة بهيمية تصلح لأن تكون "عبيداً" للأوروبيين. لكن الأطروحة الأساسية للكتاب تتمثل في الكشف عن الدور الكبير الذي لعبته العلامات وتأويل هذه العلامات - اللغة وأشكال التواصل - في العلاقة بين الاسبان وشعب الآزتيك في زمن الغزو. ويجادل تودوروف في هذا السياق ان هيرناندو كورتيز استطاع التغلب على الآزتيك لاستفادته من معرفة ثقافة الآزتيك، وعاداتهم وتقاليدهم ورؤيتهم الدينية للعالم، التي حصلها من القراءة والملاحظة. أما شعب الآزتيك فقد هزم لأنه كان يمتلك رؤية غير مرنة للحاضر، ورأى في وصول الاوروبيين الى ارضه مجرد نذير شؤم. وقد مكنت رؤية الآزتيك الاسطورية للعالم كورتيز من اقناعهم بأنه "إله" هبط لكي يقودهم الى ارضهم الموعودة حيث خدعهم واستخدمهم كعمال وقضى على اعداد كبيرة منهم. ويستنتج تودوروف ان معرفة كورتيز بثقافة الآزتيك لم تمنعه من المساهمة في تدمير هذه الثقافة والقضاء على اصحابها لأن الاسبان ما كانوا مهتمين بالآخرين بل بالذهب الموجود في ارضهم. أما في كتابه التالي "نحن والآخرون" فإن تودوروف يتفحص ثيمات من نوع: العِرق، الأمة، الكوني والعجيب في كتابات عدد من الكتّاب الفرنسيين مثل كلود ليفي شتراوس، ومونتين، وغوبينو، ورينان، وتوكفيل، وشاتوبريان، وأنطونان آرتو، وآخرين. وما يلفت انتباه تودوروف في مواقف الكتّاب الفرنسيين هو تأرجحهم بين الموقف المركزي العرقي، في النظر الى الاعراق والأقوام والثقافات غير الأوروبية حيث يعامَل الآخر بوصفه مجرد موضوع، والنسبية في النظر الى الآخر بوصفه كل شيء أو لا شيء على الاطلاق!. يبدو من سياق العرض السابق لأفكار تودوروف ومنجزه النقدي والمعرفي ان ثمة قطعاً في مسيرته المعرفية. لكن المدقق في ما كتبه سيجد ان هناك خيطاً واضحاً يتطور في عمله ويوجهه نحو الانتقال من التحليل الشكلي - البنيوي الى حقل مغاير تماماً يهتم بالمعنى وأنظمة الخطاب والأفكار الكبرى ما يجعله يقف في مواجهة جماعات ما بعد الحداثة التي تمقت الحديث عما تسميه "الحكايات الكبرى" للتاريخ وتفضل عليها "الحكايات الصغيرة" للأفراد والجماعات. وينتمي هذا التطور في تفكيره الى جذوره الاوروبية الشرقية والى تأثيرات الفيلسوف والمنظر الأدبي الروسي ميخائىل باختين الذي كان لتودوروف الفضل في نقل بعض من اعماله المجهولة الى اللغة الفرنسية ومن ثم الى اللغة الانكليزية. وقد لاحظت عندما ترجمت كتابه "ميخائيل باختين: المبدأ الحواري"، في بداية تسعينات القرن الماضي، ان عدداً من الافكار الرئىسية التي يطورها تودوروف في كتاباته اللاحقة تنتسب في الحقيقة الى حواره الممتع مع المنظر الروسي، ورغبته في ان يكون وسيطاً بين فكر باختين وقارئه. في "ميخائيل باختين: المبدأ الحواري" صدر بالفرنسية عام 1981، ويمكن القارئ ان يراجع ترجمتي لهذا الكتاب الصادرة في طبعتها الثانية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996، وهو مقدمة طويلة وضعها تودوروف لترجمته عدداً كبيراً من النصوص المجهولة لباختين ويستعلم عن مصادره الاساسية، ولكنه لا يقيم حواراً معه. انه يعطيه حق الكلام، من خلال الاقتباسات والتضمينات، لكي يقدمه للقارئ الاوروبي الغربي من دون تدخل حقيقي. وما يهمنا في سياق استعراض تطور فكر تودوروف نفسه هو التشديد على الدور الذي لعبه ميخائىل باختين في تحولات الناقد الفرنسي، البلغاري الأصل، من التحليل البنيوي الصارم، الذي يهتم بالعلامات اللغوية والسياقات الداخلية للنصوص، الى الاهتمام بما يتجاوز دائرة هذا التحليل: من المعنى والعلاقات الانسانية والخطابات والحوارية وعلاقة الذات بالآخر، والتنوع الانساني. ففي كتاب "المبدأ الحواري" يعثر تودوروف على ملهمه الحقيقي الذي يمثل حلقة وصل بين كتابات تودوروف، المتأثرة بالشكلانيين الروس، وكتاباته التالية التي تهتم بشواغل البشر اليومية وأشكال العلاقات التي تنشأ بينهم. وقد كان باختين نفسه امتداداً لمنجز الشكلانيين الروس وعدواً عنيداً لهم، ما يجعل استلهام تودوروف لعمله ذا طبيعة اشكالية معقدة. من الاستعراض السابق يبدو استغراب الكثيرين من تحولات تودوروف وقد حل الرجل ضيفاً على القاهرة قبل ايام قليلة اذ حاضر فيها عن "حقوق الانسان" و"حق التدخل" نتاج عدم اطلاع على تطور تفكيره بالأدب والنظرية الأدبية والانسانيات بعامة، فهو ما انتقل بصورة مفاجئة من افكار الشكلانيين والبنيويين الى الاهتمام بما يشكل نقيضاً فعلياً لها، بل انه تدرج في خياراته المعرفية عبر حواره مع فكر الناقد الكندي نورثروب فراي ثم اقامته حواراً ممتعاً مع ميخائىل باختين الذي يركز في كتاباته على مفهومي "الآخر" و"الحوارية"، وهما مفهومان يقيمان في اساس اعمال تودوروف الاخيرة. ولعل هذا التحول في فكره وهو تحول متدرج لا ينقل فيه تودوروف البندقية من كتف الى كتف كما يتصور البعض ان يكون ملهماً لعدد من النقاد العرب الذين يقفزون من تيار نقدي الى آخر من دون ان نرى في عملهم النقدي ما يؤشر الى منطق داخلي يستوجب تحولاً في خياراتهم النقدية والفكرية.