لا شك في أن ميخائيل باختين هو واحد من كبار المنظّرين والمفكرين في عصرنا، فاسمه يتردد بصورة مستمرة في الدراسات التي تتناول أموراً متعلقة بالنوع الروائي، أو اللسانيات، أو الطبيعة الحوارية للممارسات الإنسانية، أو التمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، أو نظرية الأدب. وعلى رغم مرور ما يزيد على خمسة وثلاثين عاماً على رحيله، فإن حضور الفيلسوف والمنظر الأدبي الروسي، الذي ما زال عمله النقدي والكتب التي ألّفها أو شارك في صياغتها (أو أنه على الأقل كان ملهماً لأطروحاتها) مدار بحث وتساؤل، يزداد في زمن يشحب فيه التركيز على الجوانب الشكلية في الأعمال الأدبية والفنية ويعاد فيه الاعتبار الى الفاعلية والمشاركة الإنسانية. هكذا تبدو الأفكار الأساسية لباختين، أي تلك التي تتعلق بمفهوم الحوارية، والطبيعة الهجينة للعلامة اللغوية، ونفي الثنائية عن العلاقة بين العلامة اللغوية والدلالة، ومفهوم النوع الأدبي الذي يتحول ويتبدل عبر العصور، وصياغته البارعة لمفهوم الأنا والآخر (حيث لا تتعرف الأنا على ذاتها إلا من خلال الآخر)، وكأنها تكتسب معاني جديدة في ضوء التحولات العميقة التي أصابت جسد النظرية والعلوم الإنسانية في السنوات الأخيرة، بعدما هدأت اندفاعة أفكار ما بعد الحداثة التي شككت في مفهوم الحقيقة ونظّرت لمفاهيم اللعب اللغوي وتجاور المتناقضات في عالم سيّال يصعب فيه التحقق من أي حقيقة أو وجود عياني للأشياء والأفكار. في سياق شحوب هذه الأفكار، وتراجع النزعات البنيوية والتفكيكية، في الفكر النقدي والفلسفة الغربيين، يطل باختين، وتنظيراته التي تبدو وكأنها الترياق الفعلي الذي يمكن أن يداوي سموم الشكلية ونظريات ما بعد الحداثة التي تجرد الإنسان من فاعليته الوجودية والسياسية. إن باختين، الذي يؤثر فكره في تيارات متباعدة من الفلسفة والفكر النقدي، مثل ما بعد البنيوية وما بعد الماركسية والنسوية والنقد الثقافي ونظرية التلقي والنظرية الثقافية، يستعاد الآن في حلة جديدة تجعل منه ملهم نقد ديموقراطياً تزول فيه الحدود بين التيارات النظرية. يصلح باختين، من هذا المنظور، لكي يستخدم كجسر واصل بين الرؤى والتنظيرات المتفارقة حول معنى الأدب وعلم اللغة وفلسفة الفعل الإنساني ومفهومي الآنا والآخر والحدود التي تفصل بين الأنواع، وسلسلة لا تنتهي من المعاني التي ينطوي عليها عمله، أو أن دارسيه ومن يتأثرون بخطاه يسبغونها على عمله. من هذه الزاوية يمكن أن نفهم الدراسات التي صدرت حوله خلال السنوات العشرين الأخيرة والتي تصل بين رؤاه النظرية والنقد الثقافي، أو المقاومة الثقافية، أو دراسات الكتاب المقدس، أو عدم وجود كلمة فصل في تحديد معنى العلوم الإنسانية، أو ما تضيفه نظرية باختين من معانٍ جديدة على العمل الكلاسيكي، أو دراسته للكرنفال في كتابه «رابليه وعالمه» التي تفتح طريقاً غير مطروقة في دراسة الثقافة الشعبية، كما أنها تصور لنا قدرة الجموع الشعبية على مقاومة السلطة وتقويضها من خلال لغة الكرنفال والطبيعة الاحتفالية غير الرسمية التي ينطوي عليها الكرنفال خصوصاً، والثقافات الشعبية عموماً. لكن أهم ما يعد به عمل باختين لا يتصل بقدرته على أن يلهم كل هذه التيارات النظرية والثقافية، ونجاحه في أن يكون صالحاً للاستعمال في علوم ومعارف مختلفة، بدءاً من نظرية الرواية وانتهاء بالطب النفسي، هو البعد الديموقراطي الإنساني المدني الذي يحررنا من أوهام السلطة وطبيعتها الإطلاقية المستبدة الخانقة. لا شيء يحد الطاقة الإنسانية المبدعة الخلاقة، يقول عمل باختين، لكن هذه الطاقة ذات طابع جماعي، تفاعلي، حواري، لا يكف عن التخلق والتغير. هنا تكمن رسالة عمل باختين، التي تشدد على الآخر والتواصل الإنساني وتفاعل الثقافات والهوية المتحولة القابلة دوماً للتهجين. إن عمل باختين هو الوصفة العلاجية المناسبة لهذا العصر الذي صعدت فيه سياسات الهوية، بصورة مروعة، مؤدية إلى نشوب حروب تستند إلى الصراعات العرقية والطائفية والمذهبية التي أخذت في طريقها أرواح مئات الآلاف من البشر. لقد سعى باختين، إضافة إلى تأسيس ما يمكن أن نسميه علم الجمال «الديموقراطي»، إلى إعادة النظر في مفهوم الهوية بالحديث عن «هويات» لا هوية واحدة، مشدداً على استحالة أن يحتضن الفرد، أو الثقافة، أو الأمة، هوية صافية غير ملوثة بالهويات الكثيرة المتعددة، التي لا حصر لها، والتي تتشكل من الحوار المستمر الذي يجرى عبر اللغة، ومن خلال الذاكرة المخصبة لكل علامة لغوية، وكذلك في اللقاء الذي لا ينقطع بين المتلفظين. لا تورث الهوية، بل تتشكل من خلال التفاعل مع الآخرين، أي في عملية حوارية متواصلة تجعل الهوية في حالة تبدل مستمر. ويمكن أن نستخلص من هذه الرؤية النظرية (التي يناقشها باختين في بحثه لمفهوم الحوارية في روايات دستويفسكي، وفي تطويره لعلم اللغة عبر اللساني، أي الذي يتجاوز التلفظ الفردي ليضعه في دائرته الاجتماعية الأوسع، وكذلك من خلال صكه لمصطلح الكرونوتوب، أي النوع الزماني المكاني، وكذلك من تفريقه بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية) أن في إمكاننا استخدام باختين في حملة الهجوم على سياسات الهوية التي حاربها إدوارد سعيد بشدة، سواء في كتاباته أو في الحوارات التي أجريت معه. ولعلنا نعثر في هذا المفصل من عمل المنظّر الروسي، أي في ما يتعلق بمفهوم الهوية، على نقطة التقاء إدوارد سعيد وميخائيل باختين. إذا كانت هذه هي وعود عمل باختين، والدروس التي يمكن أن نستقيها منه، سواء على صعيد النظرية أو التفاعل والمشاركة الإنسانيين، وسياسات الهوية، وإشاعة التسامح بين البشر، فما الذي اجتذب الباحثين والدارسين العرب في فكر باختين وكتاباته؟ علينا للإجابة عن هذا السؤال أن ننتبه الى أننا لم نترجم الكثير من أعمال باختين، حتى الأساسي منها، إلى العربية. فما نقل إلى العربية، وفق علمي، لا يتجاوز كتابه عن دستويفسكي، ومقالته عن «الخطاب الروائي»، وكتاب «الماركسية وفلسفة اللغة»، المنسوب إلى فولوشينوف وبعض الدراسات المتفرقة حول الملحمة والرواية. لكن كتابي «الفرويدية»، المنسوب إلى فولوشينوف، و «المنهج الشكلي في الدراسة الأدبية»، المنسوب إلى ميدفيديف، وكذلك «رابليه وعالمه»، ودراسته عن غوته، إضافة إلى بعض دراساته التي اكتشفت في أخريات أيامه أو بعد وفاته، لم تترجم إلى العربية حتى هذه اللحظة. لكن رغم عدم حضور عدد من نصوص باختين الأساسية، والمركزية في مسيرته الفلسفية الفكرية والنظرية النقدية، في العربية، فإن ثمة تأثيراً واضحاً لتنظيراته، خصوصاً تلك الخاصة بالرواية، في النقد العربي الراهن، وفي الدراسات والرسائل الجامعية، ما يجعل نقد الرواية العربية مصبوغاً برؤية باختين للرواية بوصفها نوعاً غير قابل للاكتمال، نوعاً له جذور غائرة في تاريخ السرد والكتابة في الوقت الذي يمتلك هذا النوع الهجين، القابل للتهجين بصورة مستمرة، قدرة خلاقة على الاستفادة من الأنواع الأدبية والفنية، اللفظية وغير اللفظية، ما يجعله شاباً ونضراً على الدوام. لكن ما يغيب من باختين، في النقد والثقافة العربيين، هو الأنثروبولوجيا الفلسفية الواعدة التي تؤطر رؤيته المفتوحة للكائن والعالم، أي ما يتصل بالآفاق المترامية التي تفتحها صياغته لمفهوم الحوارية، خصوصاً أن باختين لم يستخدم هذا المفهوم بوصفه وسيلة شكلية لتصنيف الأعمال الروائية، مشدداً على حوارية النوع الروائي في مقابل أحادية الأنواع الشعرية (أو مونولوجيتها). لقد سعى باختين إلى فحص مفهوم الحوارية من خلال تحليل الأساليب الروائية، ملقياً ضوءاً ساطعاً على حوارية روايات دوستويفسكي. لكن الغاية الفعلية، أو الاستراتيجية المقيمة في انشغاله بالحوارية في الرواية، تتمثل في التشديد على حوارية العالم والعلاقات بين البشر. من هنا، فإن ترجمة بقية كتب باختين ودراساته وشذراته ضرورية لاستلهام ما يحفل به نصه النقدي - الفلسفي من أفق إنساني، تعددي، ديموقراطي، ومقاوم كذلك للسلطة الباطشة. يبدو هذا ضرورياً لإدراك الأبعاد المتعددة، العميقة والخلاقة، التي ينطوي عليها عمل باختين الذي جرى تضييقه في أفقه العربي إلى مجرد نظرية خاصة بالرواية تمكن النقاد من تصنيف الأعمال الروائية وقراءة التعددية الأسلوبية فيها. ليس هذا سوى الجزء الظاهر من عمل باختين، فجبل الجليد الغاطس في معظمه تحت الماء ينطوي على وعود أعظم بكثير من تلك التي نبصرها في جزئه الذي نشاهده فوق السطح. أخيراً أريد أن أشير إلى أمر يتصل بهذه الترجمة، الأثيرة إلى نفسي، والتي تجمع ناقدين ومفكرين مؤثرين في مسيرتي النقدية، أقصد ميخائيل باختين وتزفيتان تودوروف. لقد ترجمت هذا الكتاب مرتين على الأقل، أقصد أنني عدّلت في الطبعتين الثانية والثالثة على نص الترجمة الأولى، وها أنا أعيد النظر في هذه الطبعة ليغدو الأسلوب أكثر نصاعة، والترجمة أكثر وضوحاً. لا أدري في أي مواضع الكتاب فعلت ذلك. لكنني وجدت نفسي مسوقاً لفعل ذلك، من دون أن أغيّر في المعاني والمرامي التي قصد إليها باختين ومحاوره تودوروف. إنها ترجمة في حالة تحول، كما هو عمل باختين ونظريته وفكره. وها أنا أجعل من نفسي محاوراً ثالثاً لكل من تودوروف وباختين، فعسى أن يكون هذا الحوار ناجحاً ومثيراً لتفكّر خلاق في ما يمكن أن يلهمه عمل باختين للنقد والفكر العربيين في زمان الثورات العربية التي تخض العالم القديم وتهوي بسلطاته المستبدة فاتحة الآفاق أمام عالم عربي حر ديموقراطي. (هذه مقدمة الطبعة الرابعة من ترجمة كتاب «ميخائيل باختين: المبدأ الحواري» لتزفيتان تودوروف التي تصدر قريباً).