أول الكلام: من شعر التي يأتي هواها "شآميا"/سهام الشعشاع: - وجَمدتُ في نصف المسافة اقتفي أثر الرياحْ حلم تمهّل في المجيء حلم بقامته المديدة يقتفي وجهاً لذاكرة قديمهْ قلق ووجهان التقت عيناهما سراً وذئب النار يكمن للزهور وللهوى!!
تُذري العواصف بالنخيل، لكنَّ عمق الأرض يحتضن الجذور... وإن سار الانسان وحده أيضاً، فالفضاءات الجديدة تنبعث من مشاعر متجذِّرة تنتعش بالحنين والذكريات، وتلك المساءات التي تُلفّع القلب! وهكذا يتذكَّر ويُصور: الصديق العزيز جداً الى نفسي في رسالة هذا "الأربعاء" المبلَّلة بدمع الشجون والأصداء... فكتب لنا:
العزيز/ أبو وجدي: صباح الجمعة... كان صباحاً فريداً في حزنه، فلقد اصطحبني صديق قديم الى الحي الذي عشت فيه ردحاً من الزمان في مكة ليفاجئني ببقايا أحجار اسمنتية تجاورها ورشة عمل خرسانية، وبناء وتكسير، واضافة وإلغاء... كانت الأحجار بقايا ذلك البيت الذي تركناه ملقى على الطريق ذات يوم: حاجة واضطراراً، على رغم عشقنا وولهنا لتراب ذلك الطريق الذي كنت أحس بخجل كبير حين أضع حذاء تجاه حرية أولاد الجيران/ الحفاة المتحررين بلا حدود! لقد اختفى البيت والطريق، واختفى معه السير العذب لباطن القدم، بل واختفت لذة الحرية... هدموا ذلك البيت كان يتكأكأ كغيره من البيوت المكَّاوية/ بعضه على بعض، بحجة الحاجة، وكأنَّ الحاجة صارت أم العمارة... كنت أقف متأملاً أنقاض تلك الدار كصياد الصور، أرسم إطاراً جديداً لهذا المكان والزمان، أحاول بلقطات صغيرة أن استعيد المستحيل، وأتذكر: كيف كنا نجتمع في ذلك البيت على مائدة الحب ثلاث مرات في اليوم، أتذكر ذلك وكأنه حلم قديم لم يعد ممكناً الآن... ما زلت اشاهد دكة أبي العتيقة التي لها رائحة القِدَم، والتي كان يفوق عمرها عمر أبي، أرنو الى الباب الذي تركناه يتكئ على مفاصله: يتحول الى صفيح من الألمنيوم الصقيل لا روح فيه ولا حياة، مقاوماً رغبة دفينة في دفع ذلك الباب بيدي علَّني أجد ما تركته من العمر في الداخل... قد تكون كل الأشياء التي حدثت داخل ذلك البيت عادية وبسيطة إلا انها حفرت خطوطاً عميقة في الذاكرة... ثلاثة أجيال تعاقبت داخل ذلك البيت عندما كان البيت يعني: الحكمة، والفهم، والحماية والأمان، والحنان، وعندما كانت للبيوت والطرق حرماتها... صحيح ان حياتنا في تلك الأيام كانت أصعب، لكني كلما نظرت للخلف أرى أن علاقتنا الانسانية كانت أعمق وأدفأ!! وقفت هناك أشاهد بقايا ذلك البيت، والشارع الذي شهد أجمل سنوات العمر... أحاول القبض على آخر نسمة طيبة اختلطت بالماء المرشوش على الأسمنت الطازج، وأسترق السمع لآخر صوت لجار قديم من أطياب القوم... كنت أحاول ان استجمع كل ذلك قطرة قطرة على رغم انني في داخلي أريد البحر كله سنوات ثرية بالأحلام والأوهام لطفل بسيط من أبناء قاع ذلك المجتمع المكَّاوي: الفقير مادياً والغني بما عداه... وسألت الدار: ولِمَ الرحيل الآن يا دار؟! لتجيبني: يا بنيَّ... لقد أردت ان أطرح وجهة نظري في هذه الحياة التي تعيشونها، فأحلت نفسي للمعاش... لقد قررت الابتعاد عن مُربَّع لا يعكس أخلاق آبائكم وأجدادكم، فقد عجزت عن الثبات أمام كل هذه الخيوط الاجتماعية الممزَّقة، ومشاهدة كل هذه المشاعر والعلاقات التي تطحن أمامي كل يوم... لقد أحسست أنني عبء على زمانكم، ولم أعد استطيع ان أستمر في تمثُّل السعادة... لا مكان لي في هذا العالم الغريب، فالقبيح الأخلاقي تجاوز قامتي!! وفركت عيني بظهر كفي محاولاً ترتيب عواطفي المتفرقة وذكرياتي قبل ان أعود من جديد مع جياد بقية عباد الله الوحشية على صفحة هذه الحياة، التي أصبحت كالنقود المعدنية التي مرّ عليها قطار بسرعة وقسوة... لا قيمة لها!!