نادراً ما يتبع مغادرة مسؤول سياسي رفيع المنصب كتاب وافٍ عن حقبة توليه زمام الأمور بالسرعة والتفصيل اللذين يميزان كتاب الرئيس سليم الحص "للحقيقة والتاريخ" الصادر بعد أقل من ستة أشهر على تركه الحكم. فحجم الكتاب كبير، ويقع النص، من دون الملحقات، في أكثر من ثلاثمئة صفحة مرصوصة، ويتميز في المضمون، كما في الاسلوب، بغنى وترفع فكري ولغوي يضعانه على مستوى دولي في أدبيات السيرة السياسية. ومن الواضح أن سليم الحص دأب منذ أول رئاسته الحكومة في كانون الأول ديسمبر 1998 أن يرافق نشاطه اليومي بردح من الوقت يكرسه للكتابة، فالأحداث دقيقة التواريخ، منها ما يأتي تفصيله في ساعات اليوم والليل. كما أن الميزة الأخرى التي يمكن القارئ أن يستشفها هي محاولة الرئيس الحص، عن طريق مثل هذه الكتابة المنتظمة، إلقاء بُعد تأملي على عمله اليومي، يحميه من تلاطم الأحداث في وقت لا يتيسر للحكومة اللبنانية المجال الكافي للسيطرة عليها. فيكتشف القارئ صعوبة اتخاذ القرار المناسب والحفاظ على التماسك المبدئي، الذي يفخر الرئيس الحص به عن جدارة في نهجه المختلف عن معهود الحياة السياسية اللبنانية، وهو النهج المتصل باسمه منذ ثلاثة عقود. وليس من موضوع يتحاشى الكتاب أن يتناوله بجرأة ووضوح، فيجعل الحديث العام ملازماً للحديث الخاص، خلافاً للشرخ المستشري بينهما في منطقتنا العربية. ويجد القارئ تفاصيل مطنبة عن موقف الرئيس الحص من قضية التنصت، وإقراره بالتضارب الذي حدث في الحكومة من جراء تناقضات أقوال المسؤولين فيها، كما الحرج الدستوري الذي تبع ادلاء وزير الداخلية بموافقته على تنفيذ عقوبة الإعدام نيابة عن رئيس الوزراء عند غياب الرئيس الحص في زيارة رسمية إلى الخارج، أو التفاصيل المتعلقة بتدخلات الحكومة السورية في تركيب اللوائح النيابية وتسمية الوزراء. ولكل هذه المحطات الدقيقة الثلاث تفاصيل توضّح هنا للمرة الأولى، وبشكل صريح وشجاع، تقابل القناعة المبدئية بضرورة تحديد التنصت في إطار قانوني صارم تخضع إليه أجهزة الأمن اللبنانية، في المحطة الأولى، والايمان بعدم جدوى وعدم أخلاقية عقوبة الإعدام في المحطة الثانية، وضرورة الحفاظ على السياسة اللبنانية في الشأن الداخلي على أعلى المستويات ضد امتهانها لدى عدد من المسؤولين اللبنانيين والسوريين على السواء. والأمثلة كثيرة في الكتاب لمثل هذه المحطات، يلاحظ فيها القارئ الذي عاشها في السنتين الماضيتين الجهود الثابتة للرئيس الحص في محاولة تطويع قراراته لقناعاته في شتى المجالات، شارحاً في كل منها للمواطن صعوبة الخيار والعناصر التي تفسّر اتخاذه موقفاً معيناً في اتجاه أو آخر في عين عاصفة الطارئ اليومي. فالكتاب مشوق داع إلى التأمل، يفاجئ القارئ باستمرار بخاطرة غير معهودة في الأوساط اللبنانية، فمثلاً، مقابل مودة عميقة تجاه رئيس الجمهورية، إلحاح الرئيس الحص على اعتبار السلالية العائلية آفة لا بد من معالجتها في النظام الديموقراطي. وبعض المسائل الأساسية "للحقيقة والتاريخ" لا تزال ملحة إلى اليوم، ولا بد لسليم الحص من أن يدلو بدلوه فيها، تكملة لمسيرة مشرفة عشنا بعضها في مسعانا الخاص لديه أدى إلى اعطائه أولوية استثنائية لطلب منظمة العفو الدولية فتح مكتبها الاقليمي في بيروت. وقد يكون هذا الاندفاع لإقرار المكتب - الذي نسجّل للتاريخ موقفاً صادقاً لوزير الداخلية ازاءه - أهم ما سيبقى مؤسساتياً للبنان في عهد وزارة سليم الحص. ومن المسائل التي لا تزال ملحة ثلاث في الصدارة: في القضية اللبنانية، لا سيما الشق الاقتصادي منها، يكون مفيداً مرافقة الرئيس الحص وتعليقه على الخطة التي انتهجتها الحكومة، وهي الخطة التي لا تبدو مختلفة عن تلك التي اعتنقتها الحكومة السابقة في ظلّ رئاسته. والمسألة الثانية اقليمية، تتعلق بمواقفه من اجتياح الكويت. ويشير الرئيس الحص في الكتاب في أربعة مواضع مختلفة عن تقدير الحكومة الكويتية لمبادرته، من بين الزعماء العرب جميعاً، على شجب الغزو العراقي للكويت. وأيامنا هذه عادت "الحالة العراقية - الكويتية" عقبة أساسية أمام عمل عربي فعال، في ظل التآكل الاجتماعي المستمر في يوميات الشعب العراقي، فلا بد للرئيس الحص من توضيح مواقفه في الوضع الحاضر، في ظل ما عرف عنه من الصدق والمناقبية، فيُلهم العرب بما قد يساعدهم على تخطي هذه المأساة المستمرة. وفي المسألة الثالثة، وهي العلاقة مع سورية، فقد كنا قد اتممنا هذه المراجعة للكتاب عندما أطل الرئيس الحص على لبنان والعالم بموقفه المبدئي على ضرورة إعادة انتشار القوات السورية عملاً باتفاق الطائف. وقد كسر هذا الموقف المبدئي النزعة الطائفية المتنامية في هذا الموضوع ورفع مستوى النقاش إلى الحيز المطلوب وطنياً له. وإذا كانت الآفة المزمنة في بلادنا تتمثل في الشرخ بين الحديث الخاص والحديث العام، فإنه لا بد من أصوات شجاعة، كالتي يطلقها سليم الحص في كتابه في قضية شائكة غدت مصيرية للبنان وسورية على السواء. هذا الانفتاح على صراحة نادرة، تضاف إليه المتعة التي يوفرها للقارئ، يمثل الكتاب شهادة مهمة للمؤرخ في هذه الحقبة الدقيقة من تاريخ الجمهورية اللبنانية الثانية، لما فيه من مزيج بين البعدين العملي والنظري، موفراً صوتاً صادقاً ورزيناً في عين العاصفة. * محامٍ، بروفيسور في القانون، جامعة القديس يوسف، لبنان.