يظن البعض ان السجال الدائر في لبنان حول وجود الجيش السوري يتجاوزه، الى ما هو أبعد منه، ويتعلق بالنظام السياسي القائم الذي أنتجه "اتفاق الطائف" في عام 1989، وكرس للمرة الأولى، منذ استقلال لبنان عام 1943، تحقيق المناصفة بين المسيحيين والمسلمين على صعيدي المجلس النيابي والحكومة. ويعتقد هذا البعض ان "اتفاق الطائف" ما هو إلا تسوية سياسية تتعدى إنهاء حال الحرب الى تثبيت حد أدنى من الاستقرار السياسي الذي ينم عن وجود رغبة في تحقيق الوفاق الوطني الذي يبدو في الوقت الحاضر انه أخذ يتعرض الى اهتزاز يستدعي التوقف امام اسبابه أكانت ظاهرة أم خفية. ولم يكن تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيار مايو 2000 سوى "القشة التي قصمت ظهر البعير" فسلطت الأضواء من دون سابق إنذار على الوجود العسكري السوري كمدخل للحديث عن التدخلات السياسية في اللعبة الداخلية. وأحدث السجال توازناً في الرعب السياسي والإعلامي، يفترض ان يتراجع تدريجاً بعدما اخترق السقف المرسوم له، وبات يحتاج الى مداخلات فوق العادة لضبطه، لاسيما ان من تابع السجال عن كثب لا يحتاج الى التفكير ملياً ليكتشف اننا اصبحنا شئنا أم أبينا، امام اجواء سياسية وطائفية مكهربة تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن الأجواء التي سادت الساحة اللبنانية عشية اندلاع الحرب الأهلية في 13 نيسان ابريل 1975. ومع ان البطريرك الماروني بطرس صفير بدأ يتحاشى منذ عودته من زيارته الراعوية الى الولاياتالمتحدة وكندا الحديث مباشرة عن الوجود العسكري السوري، ويستعيض عن مطالبته بذلك بتطبيق "اتفاق الطائف" الذي ينص على إعادة انتشار الجيش السوري فإنه في المقابل يركز على ضرورة تحقيق الحرية والسيادة والاستقلال وكأنه عازم على عدم سحب هذه المسألة الخلافية من التداول. ويقف الى جانب البطريرك صفير على هذا الصعيد، قوى سياسية متعارضة تلتقي على بعض القضايا وتتعارض حول بعضها الآخر، وتتطلع الى تنظيم "انتفاضة" سياسية في موازاة القوى الحليفة لسورية التي تلتقي مع اركان الدولة في رفضها البحث في ملف الوجود العسكري السوري. ولكن الإصرار على عدم فتح الملف لا يلغي احتمالات البحث في مواضيع تتناول علاقة دمشق بالقوى السياسية اللبنانية من حليفة ومعارضة. وفي هذا السياق اعتبرت مصادر سياسية ان التركيز من قبل المعارضة على تطبيق اتفاق الطائف على رغم وجود قوى معارضة له، يحول دون اللعب على التناقضات وصولاً الى تسليط الأضواء على نقاط الخلاف، مشيرة الى أنها نجحت في تحقيق نقلة نوعية على طريق التخفيف من حدة السجال، الذي سرعان ما يعود الى نقطة الصفر من جراء التراشق الإعلامي الذي تشهده الساحة الداخلية. فالبطريرك صفير الذي يرعى كل هذه القوى المعارضة يرفض ان ينوب عنهم في فتح حوار غير مشروط، رغبة منه في عدم تكرار اللعبة التي أسقطته في انتخابات الرئاسة الأولى عام 1990 في متاهة الخيارات واستجاب لها بالتقدم بلائحة من خمسة مرشحين لانتخابات الرئاسة التي سبقت توافق سورية والإدارة الأميركية على ترشيح النائب مخايل الضاهر الذي لم يكتب له النجاح وبالتالي الوصول الى سدة الرئاسة الأولى. ولفتت المصادر السياسية الى ان البطريرك صفير يبقى قوياً شرط ان لا يطلب منه ان ينوب عن القوى السياسية في طرح ورقة عمل، مؤكدة ان هذا يتعارض أيضاً مع تحوله الى مرجعية سياسية من دون ان يمارس السياسة ما أفسح في المجال امام شخصيات سياسية وحزبية وقيادات روحية من الرد عليه. إضافة الى ان دوره يقتصر على من يستطيع فتح ملف الوجود السوري، من دون ان يقوى لاعتبارات خارجية الولوج الى ما يريده اذا لم تتوافر المعطيات الاقليمية والدولية التي يبدو انها ليست قائمة في المدى المنظور. وأشارت المصادر الى أن المطالبة بإنهاء الوجود العسكري السوري في لبنان لا تلقى استجابة اقليمية ودولية. وقالت إن الذين يتحركون تحت هذه اللافتة يدركون قبل غيرهم مدى حاجتهم الى التأييد الخارجي، الذي هو الآن، وإن كان مفقوداً، فلا بد من التأسيس له، من خلال فرض واقع سياسي جديد يمكن ان يلقى عطفاً في حال شهدت المنطقة تطورات دراماتيكية استدعت الضغط على لبنان ومن خلاله على سورية. وربما يكون الوضع في الجنوب المدخل الرئيسي لاستقدام التدخل الخارجي، وذلك في حال تدهور الوضع الأمني بتزايد عمليات المقاومة تحت عنوان العمل لتحرير مزارع شبعا المحتلة، لكن لا يبدو في الأفق المنظور ان الساحة الجنوبية غير معرضة لتشهد التبدلات المرجوة، لا بل ان هناك رغبة في السيطرة على الموقف حتى إشعار آخر. فالانفراج قد يتأخر لكن الانفجار غير مسموح به. إلا أن اللافت دخول "حزب الله" من خلال الخطاب الذي ألقاه امينه العام السيد حسن نصر الله لمناسبة ذكرى العاشر من محرم على خط السجال السياسي ولينضم إليه لاحقاً العشرات من الوزراء والنواب المتحالفين مع سورية، إضافة الى مفتي الجهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني، بينما ينظر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بقلق الى ما يدور من تجاذب سياسي خرج عن ما هو مألوف، وبات ينذر الحياة السياسية بعواقب وخيمة إذا ما استمر تطييف المواقف. وإذا كان جنبلاط يدعو الى خفض مستوى السخونة السياسية فهو يعتبر ان البديل يكون في إطلاق حوار هادئ وعقلاني بغية تصحيح ما يعتري العلاقات اللبنانية - السورية من خلل، مع تقديره الضمني بأن الموجات الطائفية لا تولد إلا الخطاب الطائفي. وعلى خط آخر، فإن رؤساء الجمهورية اميل لحود والمجلس النيابي نبيه بري والحكومة رفيق الحريري يعتقدون - حسب أوساطهم - أن الرد على الحملات التي تستهدف الوجود السوري امر طبيعي، وتعزو هذه الأوساط السبب في الدرجة الأولى الى أن الفريق المعارض أخذ يتصرف على أن صمت البعض عن الرد عليهم يعني الموافقة الضمنية على ما تطرحه. ورأت الى أنه كان لا بد من الرد ليس لتحقيق التوازن فحسب وإنما لإشعارهم ان العلاقات بين البلدين لا تبحث في مثل هذه الأجواء وباتت الضرورة تستدعي تراجع حدة السجال ليبدأ الحوار الموضوعي. فالسجال على موضوع الوجود السوري بقي حتى الآن في الاطار السياسي، وإن ظهر أحياناً في سياق التشنج الطائفي. فهناك قوى سياسية من طوائف ومذاهب مختلفة وقفت في اتجاهات متعاكسة لا صلة لها بالطائفية والمذهبية. الى ذلك هناك قوى طالبت بالحوار والتفاهم خوفاً على اقتصاد لبنان وحرصاً على تشجيع الاستثمار لإطلاق عجلة الدولة واستكمال مشروع اعادة الاعمار. حتى أن أوساط الرؤساء الثلاثة تحث البطريرك صفير على التوجه الى دمشق اثناء زيارة البابا يوحنا بولس الثاني لها وتعتبر أن زيارته ضرورية لأنها تسهم في تهدئة الخواطر من جهة وفي تحقيق أول اتصال مباشر بين بكركي والقيادة السورية. وتغمز هذه الأوساط من قناة العماد ميشال عون الذي يتابع حملته ضد سورية لمنع وصول الزيارة التي من شأنها ان تضعف حضوره بين صفوف المعارضة، وتشكل له إحراجاً في حال حصولها. ولم يغفل أحد المراجع الرسمية من حسابه ان بعض المعارضة يراهن منذ الآن على احتمال قلب موازين القوى المحلية، مؤكداً ل"الحياة" ان التسوية المترتبة على "اتفاق الطائف" قابلة للتطوير الى الأمام وأن من يعتقد بأن الظروف مواتية لتحسين شروطه في التسوية سيكتشف انه على خطأ، ومن يدرك ذلك، فليجرب ما يتطلع إليه، ونحن من جانبنا لا نعترض على إعادة النظر في "الطائف" شرط ان يتحمل الطرف الآخر مسؤولية مباشرة حيال ما ستقود إليه التعديلات من متغيرات. وأضاف: إذا كان المقصود إعادة النظر في التمثيل السياسي، فلا نرى من مشكلة لكن لا بد ان نسأل هؤلاء عن مدى استعدادهم لتحمل المسؤولية في حال تقرر تطبيق النظام الديموقراطي الحقيقي تشبهاً بما هو قائم في الدول الأوروبية لا سيما أن لبنان يستعد للدخول الى نظام الشراكة الأوروبية قبل حلول الصيف. وتابع: ان الحكومة الحالية تضم وزراء مقربين جداً من البطريرك صفير وإذا كانت الدعوة الى تغيير الحكومة تهدف الى المجيء بوزراء يمثلون المعارضة التيار الوطني الحر - الموالي للعماد عون فإن هذا التيار لا يعترف بالطائف ولم ينفك عن الدعوة للإطاحة به. ولفت الى أن وجود ملاحظات على أداء سورية في لبنان، قد يكون مطروحاً للبحث لكن ليس بهذه الطريقة التي يتوخون منها قلب الأوضاع رأساً على عقب، مؤكداً ان تطبيق "الطائف" يتطلب أيضاً الإسراع في تشكيل الهيئة الوطنية المكلفة إعداد المرحلة التحضيرية لإلغاء الطائفية السياسية وكنا أول من تريث بتشكيلها، استجابة للمخاوف التي لا تزال قائمة لدى فريق من المسيحيين الذين يستشعرون من حين لآخر ان هناك من يحاول استضعافهم أو السعي لإلغاء دورهم في الحياة السياسية. وشدد المرجع اللبناني على وجوب التعقل بعيداً عن المبارزة في تسجيل المواقف التي تؤدي الى تشنج الأجواء السياسية وإلى مزيد من الاحتقان الذي لا يعالج إلا بالحوار، معتبراً ان البعض يتصرف وكأن انسحاب إسرائيل من الجنوب باستثناء مزارع شبعا المحتلة انهى أزمة الشرق الأوسط ولم يعد من مبرر للوجود السوري. لكن أوساط المعارضة تعتبر ان طرح مسألة الوجود ضرورية لتصحيح الخلل في التوازن السياسي ووقف المداخلات في التفاصيل. والبدء بصوغ قانون انتخاب جديد يؤمن المساواة والعدالة على نحو يحفظ صحة التمثيل النيابي. وعليه فإن إثارة الوجود السوري ما هو إلا عنوان لإعادة فتح ملف النظام السياسي استدراكاً من المعارضة لما يحمله قانون الانتخاب الجديد من شوائب على رغم تعهد الرئيس الحريري امام المجلس النيابي في جلسة الثقة، وبالنيابة عن الحكومة بأنه سيضع قانوناً عادلاً خلافاً للقانون الحالي الذي اجريت الانتخابات على أساسه. لذلك فإن السجال سينتهي عاجلاً أم آجلاً الى توفير فسحة تتسع للجميع لبدء حوار متوازن يعيد تجديد الحياة السياسية على قاعدة عدم التفريط ب"اتفاق الطائف" الذي هو في حاجة الآن الى تعويم ليبقى الاتفاق الناظم للعلاقة بين الطوائف في ظل غياب الأحزاب السياسية وعدم قدرتها على لعب دور حواري فاعل بعد ان عجزت عن اجراء مراجعة نقدية تستفيد بواسطتها من تجاربها السابقة والأخطاء التي وقعت أو أوقعت فيها ولم تنجح حتى الساعة من ان تستفيق من كبوتها السياسية المديدة. حتى ان الذين اعترضوا على طرح بكركي وبينهم عدد من القيادات السياسية الاسلامية لم يذهبوا في اعتراضاتهم الى حدود اقفال باب النقاش، بل حرصوا على افساح المجال امام حوار يتناول كل ما هو مطروح على الساحة المحلية. ختاماً لا بد من التأكيد بأن استحضار اجواء الحرب في المعنى السياسي للكلمة ستبقى مجرد مرحلة عابرة، يصعب على أي طرف الخوض فيها، وأن التهويل بحصولها، يصطدم بوجود عوائق تحول دون الولوج إليها أبرزها عدم وجود قرار دولي بإثارة مشكلة جديدة في لبنان إضافة الى افتقادها لجمهورها الذي جربها وأقسم بعدم تكرارها، ناهيك من ان الدولة لا تسمح بتمادي الأطراف في إثارة المناخات المتوترة، وهذا من أولى واجباتها، تماماً كواجباتها في رعاية حوار يتجاوز أهل الفريق الواحد، الى كل الأفرقاء الذين يتطلب منهم إبداء مرونة تحول دون طلب المستحيل وتكتفي بطرح ما هو قابل للتنفيذ خصوصاً إذا كان يتعلق بتصويب الممارسة السياسية وبحماية الطائف من سوء التطبيق كشرط لتجديد التسوية السياسية، علماً أن ليس لسورية من مصحلة - وهذا ما تعترف به، وبالتالي ترفضه - بأن تتحول الى طرف داعم لهذا الفريق ضد الآخر. وكان الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد على حق عندما أورد في خطاب القسم مقطعاً من خطابه خصصه للوضع في لبنان وللعلاقة الثنائية وتعهداً بتصحيح ما يعتريها من خلل، لتصبح النموذج الذي يحتذى به في العلاقات السورية مع سائر الدول العربية.