جورج بوش خرج ببلاده من بروتوكول كيوتو ومن العمل بالتزاماته، مع ان الولاياتالمتحدة تتسبب بربع التلوّث العالمي. الخطوة تعبّر، بالطبع، عن مصالح كبار داعمي بوش في معركته الرئاسية. وهم رموز في قطاعات النفط والتصنيع والتعدين عُيّن بعضهم سفراء لواشنطن في الخارج. لكنها تعبّر ايضاً عن مزاج انعزالي قليل الاكتراث بالعالم فيما هو يتعولم على نحو غير مسبوق. وهذا ما لم يكتمه بوش الذي يعترف بعالمية واحدة هي: الامتداد العسكري كونياً من دون محكمة عالمية لمرتكبي الجرائم ضد الانسانية. هكذا لم يكتم ميله الذي نفّذه حين لخّص بيروقراطية واشنطن المعنية بالديموقراطيات والحريات واوضاع الاقليات كونياً، فدمج بعض وظائفها وألغى بعضها الآخر. وفي هذا استجابت سياسة سيد الأبيض بعض مطاليب الشعوب والأديان والتحرر الوطني: فالذين قالوا إن اميركا تتحدى خصوصياتنا الحضارية والقومية، وانها تدخلية تمس بسيادات دولنا، كلهم ارتاحوا. فلا تدخل ولا من يتدخلون الا حيث ثمة "مصلحة أميركية" مباشرة وصريحة وعارية. وارتاح معهم الذين لم يطيقوا دور كلينتون الاسرائيلي - الفلسطيني. فالأمر اليوم بيننا وبين شارون وجهاً لوجه، ولا تحتاج واشنطن الا للتدخل في الأممالمتحدة... لمصلحة اسرائيل طبعاً. والأمر يندرج هنا في خانة "المصلحة الأميركية" التي لن تستطيع أية قمة عربية ان تنافس الدولة العبرية عليها. ومنذ البداية فات الذين عبّروا عن فرحتهم ببوش، وبالغوا في العداء لكلينتون، ان الرئيس الحالي يستطيع الوقوع على نقاط تلاقٍ كثيرة بين "مصلحة اميركا" و"مصلحة اسرائيل". ف"مكافحة الارهاب" تحتل، في الوعي الانعزالي والتبسيطي للجمهوريين، موقعاً متقدماً. انها أبرز ترجمات العالمية العسكرية والأمنية، وأمتن جسور الربط بين اميركا الجمهورية والعالم، وخصوصاً بينها وبين شارون وما يتصل بسجلّه ك"مكافح ضد الارهاب". ويمكن مراجعة مقالة وليم سافاير قبل ايام: فالمعلّق المعروف بهواه الليكودي اسرائيلياً والجمهوري أميركياً، وجد ان اهم ما جمع الزعيمين في قمتهما الاخيرة بواشنطن التوفيق بين صيغة الصاروخ الدفاعي وصيغة صاروخ آرو. التقدم على جبهة الأمن أولاً. وهذا معطوف على التراجع في مسائل الديموقراطية وحقوق الانسان وتشجيع المنظمات غير الحكومية، أي اضعاف الروابط الكونية غير العسكرية كلها. وفهم كهذا ل"المصلحة الأميركية" لا يسرّ أحداً كما يسرّ شارون الذي يمضي فتكاً بالشعب الفلسطيني. لكنه معطوف ايضاً على ادراك جامد لصورة العالم كما ارتسمت في الحرب الباردة. فمن لم يصر أمة - دولة بعد لن يصير، ولن تتحمّل واشنطن تبعة واعباء تصييره. وباستثناء حالات تندرج في "المصلحة الأميركية"، كالعراق، كل تعامل مع الدولة خير من التعامل مع المعارضة. حتى في العراق يمكن ان ينطبق المبدأ بحذف "الأكراد" و"الشيعة" وبقاء "المعارضة الوطنية"! وفي روسيا لا تعني المشكلة مع بوتين اهتماماً بالشيشان الا في حدود عَرَضية بحتة. فالوجهة الأغلب مواكبة التحول الغربي العام في كوسوفو ومقدونيا، ولو من دون تورّط مباشر: والتحول هو الانتقال من تأييد "الثوار" الألبان الى تأييد "الدولتين" الصربية والمقدونية. ويسهّل هذا سقوط ميلوشيفيتش بوصفه العقبة والحَرَج، ومن ثم توقيفه. في الشرق الاوسط قد ينشأ خلاف مع اسرائيل، الا انه بين "دولتين"، وهما حليفتان تعريفاً. اما الفلسطينيون فخارج الدولة، او قبلها. كذلك لا مكان للضغط على الحلفاء وازعاجهم في سبيل الديموقراطية والتعدد وحقوق الانسان. عسكر تركيا وتونس يمكن ان يفرحوا، وحكام كثيرون من اصدقاء واشنطن ازعجتهم سنوات كلينتون. ولأن الغباء يملك أيضاً ثقافته، فالكتاب الجديد الذي يشي بهوى المرحلة أعدّه لورنس هاريسون وصموئيل هانتنغتون الشهير، وعنوانه "الثقافة تهمّ: كيف تكيّف القيمُ التقدمَ الانساني؟". الكتاب لم يصدر بعد لكنه يحظى بضجيج واسع في بيئة المحافظين، ويبدو من العروض التي تناولته ان فكرته هي التالية: إن بعض الثقافات أقدر من غيرها بما لا يُقاس على خلق التقدم والحرية والعدل. الفكرة تذكّر حتماً ب"صراع الحضارات"، كما تردّ على ضجيج السنوات الماضية عن النسبية الثقافية. ودائماً التطرف مدعاة لتطرف مضاد، والعكس بالعكس. أما في السياسة فترجمة ذلك ان واشنطن ستلجم التقدم في العالم بدل المساعدة عليه، ثم تقول للآخرين انهم لا يملكون شروط التقدم.