للإحصاء في يوغوسلافيا تاريخ "سياسي" وهو ما يجعل كل احصاء بما احتواه من مستجدات سياسية يدخل في "تاريخ يوغوسلافيا". ويثير الإحصاء الجديد في نيسان ابريل المقبل منذ الآن بعض الإشكاليات التي هي من تراكمات الإحصاءات السابقة. كانت العادة جرت منذ تأسيس يوغوسلافيا 1918 أن ينظم فيها إحصاء كل عشر سنوات. الأول في 1921 والثاني في 1931، ولم يتم الإحصاء الثالث في 1941 بسبب الاجتياح الألماني/ الإيطالي للبلاد. ومع التحول نحو النظام الفديرالي الجمهوري في 1945 جرى بسرعة تنظيم أول إحصاء في 1948 وأعيد ثانية في 1953، ثم عاد تنظيم الإحصاءات في مطلع كل عقد جديد في 1961، وبدأت المفاجآت بعد ذلك في احصاء 1971 وفي إحصاء 1981، ولم يتم احصاء 1991 بسبب اندلاع الحرب وانهيار يوغوسلافيا، ويأتي الآن إحصاء 2001 في وضع لا تسيطر فيه الدولة على كامل حدودها ولا يرغب كل السكان بالاشتراك فيه. والمهم هنا في هذه الإحصاءات الجانب السياسي وليس الفني، وتحديداً مدى تسييس هذه الإحصاءات ومدى تمثيلها للتغيرات السياسية التي تحدث في يوغوسلافيا من عقد الى عقد. فالمطبخ السياسي في المركز هو الذي يقرر عادة عدد شعوب يوغوسلافيا وما هي المسميات التي تطلق على الأقليات الموجودة قومية، أقلية دينية، جماعة اثنية الخ. وإذا أخذنا في الاعتبار أن يوغوسلافيا فشلت في أن تتحول الى دولة/ أمة واحدة كما كان الطموح بسبب التنازع بين اجزاء "الأمة" المنتظرة الصرب والكروات والسلوفين. فقد كان المسلمون الغائب الأكبر في الإحصاءين الأولين 1921 و1931 على رغم انهم كانوا يشكلون 12 في المئة من سكان الدولة الجديدة آنذاك، وهكذا حرم البشانقة من التعبير عن انفسهم كشعب نظراً للتنازع الصربي - الكرواتي، إذ كان كل طرف يحاول أن يجذب البشانقة الى البوتقة القومية الصربية أو الكرواتية في الإحصاء لدعم موقفه في الصراع الدائر. ومن ناحية أخرى لم يعترف المطبح السياسي في المركز بالألبان كشعب مع أن حدود 1918 قسمت الألبان بالتساوي تقريباً بين ألبانيا ويوغوسلافيا ولا كأقلية قومية لكي لا تطالب بحقوقها القومية بحسب المعاهدة التي وقعتها حينئذ يوغوسلافيا مع عصبة الأمم لحماية الأقليات بل تم الاعتراف بهم كمسلمين فقط. بعد الحرب العالمية الثانية وتولي الحزب الشيوعي السلطة، جاء إحصاء 1948 على عجل ليكشف عن شعب جديد المكدونيون بعد الاعتراف بمكدونيا جمهورية فديرالية، ويصر على نفي شعب موجود البوشناق على رغم الاعتراف بالبوسنة جمهورية فديرالية. وكان من عيوب هذا الإحصاء دخول البوشناق تحت خانة مهينة "غير محددين من الناحية القومية"، واستمر هذا الوضع في إحصاء 1961، الذي تم أيضاً في أجواء غير مريحة بالنسبة للمسلمين في يوغوسلافيا. ولكن هذا الموقف السياسي في التعامل مع المسلمين، تغير فجأة بعد 1966 مع إزاحة "الرجل الثاني" في الدولة الكسندر رانكوفيتش الذي حُمِّل مسؤولية كل التجاوزات التي كانت تحدث ضد المسلمين في يوغوسلافيا. وهكذا قرر المطبخ السياسي في المركز الاعتراف بالبوشناق كشعب والسماح لهم بالتعبير عن ذلك في إحصاء 1971 مع بروز مشكلة اسم هذا الشعب. كانت هناك اعتراضات صربية - كرواتية على الاسم التاريخي البوشناق للخشية من تمثيل "البشانقة" لكل البوسنة بمن فيها من صرب وكروات، لذلك تفتق الذهن السياسي عن اسم جديد: مسلم بالميم الكبيرة Muslim لتمييزه عن مسلم بالميم الصغيرة muslim الذي يعني كل مسلم في يوغوسلافيا بغض النظر عن اثنيته. وهكذا كشف إحصاء 1971 عن اسم جديد وليس عن شعب جديد كما كان يقال، لأن هذا الشعب موجود قبل يوغوسلافيا. وأدى هذا الإحصاء، الذي جرى في ظروف مواتية للمسلمين الذين شاركوا فيه بحماسة كبيرة للمرة الأولى، الى انعطاف مهم لكشفه عن وجود "غالبية" قومية في البوسنة، إذ برز البوشناق بقوة خلال السبعينات سواء في البوسنة أو في يوغوسلافيا عموماً. وبشكل مشابه كشف إحصاء 1971 عن غالبية ألبانية كبيرة في كوسوفو 7،73 في المئة مما مهد لانعطاف آخر، إذ أخذ الألبانيون يبروزن بقوة على المسرح السياسي في كوسوفو وفي يوغوسلافيا عموماً. وجرت حينئذ 1971- 1974 التعديلات الدستورية المهمة التي حولت كوسوفو الى وحدة فيديرالية متساوية مع الجمهوريات الأخرى، مما سمح لألبان كوسوفو في الوصول الى المسرح السياسي في يوغوسلافيا فاضل خوجا نائباً للرئيس تيتو في 1978. وجاء إحصاء 1981، الأول في غياب تيتو، ليكشف اكثر عن "النمو السكاني" الألباني في جنوب يوغوسلافيا، إذ أصبح الألبان غالبية كبيرة في كوسوفو 5،77 في المئة ويماثلون من حيث العدد الشعوب الأخرى في يوغوسلافيا البوشناق والسلوفين، ولكن بقي عليهم ان يقتنعوا أنهم "أقلية قومية" على رغم انهم أكثر عدداً من شعوب أخرى في يوغوسلافيا كالمكدونيين والمونتنغريين. وعلى رغم "بلاغة" المطبخ السياسي الذي اخذ يقسم يوغوسلافيا الى "شعوب مكونة" و"قوميات" إلا أن هذا الموقف أثار لدى الشباب الذين يمثلون الغالبية الساحقة في المجتمع الألباني الفتي مشاعر الغبن التي تحولت الى حركة قوية تطالب بالمساواة مع الشعوب والجمهوريات الأخرى في يوغوسلافيا. وعوضاً عن "المساواة" المطلوبة جاء صعود ميلوشيفيتش الى السلطة في 1987 ليعيد الأمور الى نقطة الصفر بعد إلغاء الحكم الذاتي الواسع لكوسوفو في 1989. تفاقم الوضع السياسي في كل يوغوسلافيا بعد ذلك نتيجة مخاوف الجمهوريات الأخرى من سياسة ميلوشيفيتش الجديدة صربيا الكبرى وبدأ تفكك يوغوسلافيا في الوقت الذي كان فيه المعهد الفديرالي للإحصاء يقوم بالإعداد لإحصاء 1991. وفي الواقع جاء هذا الإحصاء في وقت لم تعد فيه شعوب راغبة بالاستمرار في يوغوسلافيا، ولذلك فقد جاء شاهداً سياسياً على انهيار الحكم اليوغوسلافي. والآن، بعد عشر سنوات من الحروب والمآسي التي لم تعرف يوغوسلافيا مثلها منذ تأسيسها، يأتي إحصاء 2001 ليثير الكثير من التساؤلات والإشكاليات. فهناك الآن إصرار على إجراء هذا الإحصاء في يوغوسلافيا على رغم الظروف غير المناسبة نظراً للدافع السياسي الواضح الذي يتمثل في توق بلغراد للاستمرار بيوغوسلافيا في حدودها الحالية، بإجراء هذا التقليد إحصاء في مطلع كل عقد. والسؤال لماذا هذا الإصرار على رغم عدم الاستعداد الفني لذلك، إذ كشف المدير السابق للمعهد الفديرالي للإحصاء سرجان بوغوسافليتش عن ان الكثير من الكوادر تركوا هذا المعهد منذ 1990 ولم يبق فيه إلا أولئك الذين خدموا أهواء ميلوشيفيتش مجلة "سفيتلوست" البلغرادية المستقلة عدد 10- 17/2/1002. ويزيد من شبهة هذا الإصرار عدم استعداد الألبان في كوسوفو للمشاركة في هذا الإحصاء. فالألبان كانوا قاطعوا الانتخابات "اليوغوسلافية" التي أوصلت كوشتونيتسا الى الحكم، وأكدوا عدم استعدادهم للمشاركة في أي إحصاء "يكشف" وجودهم في يوغوسلافيا الحالية قبل الانتخابات المقبلة في الصيف إضافة الى المحادثات المنتظرة مع بلغراد حول مستقبل العلاقة بين كوسوفو وصربيا. ويلاحظ ان توقيت هذا الإحصاء يأتي في الشهر المحدد للانتخابات التشريعية في الجبل الأسود، التي ستكون بمثابة استفتاء حول الاستقلال أو عدمه عن يوغوسلافيا. ولذلك كان من الأفضل للإحصاء أن يأتي في ظروف أخرى بعد ان يتم الاتفاق بين صربيا والجبل الأسود حول العلاقة بين الطرفين. الى هذا برزت الآن مشكلة جديدة في صربيا، ألا وهي الاعتراف أو عدمه بوجود البوشناق في صربيا نفسها، وتحديداً في إقليم السنجق في غرب صربيا. فنتيجة التداخل بين السنجق والبوسنة خلال الحكم العثماني الطويل عاش الصرب في البوسنة كما عاش البوشناق في السنجق الى جوار الصرب. وكان المطبخ السياسي في بلغراد، كما رأينا، رأى أن يعترف بالبوشناق كشعب تحت اسم جديد المسلمون بالميم الكبيرة، وأخذت بهذا يوغوسلافيا الحالية بعد تأسيسها في 1992، ولكن بعد استقلال البوسنة واسترداد الاسم التاريخي للشعب هناك البوشناق وسقوط ميلوشيفيتش برزت الآن حركة قوية في السنجق يطالب فيها "المسلمون" ان يتم الاعتراف باسمهم القومي في الإحصاء الجديد، أي البوشناق. وكانت المحكمة الدستورية العليا في صربيا فاجأت العهد الديموقراطي الجديد في نهاية كانون الثاني يناير بقرار تلغي فيه القانون الأساسي لمحافظة توتين في السنجق نسبة البوشناق/ المسلمين 98 في المئة لأنه ورد فيه أن "البوشناق يمثلون الغالبية" وأشير فيه الى وجود "اللغة البوسنوية". وكان العهد الديموقراطي الجديد قد بادر في سابقة هي الأولى من نوعها الى تعيين بوشناقي مسلم من إقليم السنجق في الحكومة الصربية الجديدة راسم لياتيش يعبر عن السياسة الجديدة للحكومة ازاء الأقليات انظر مقابلته مع "الحياة" عدد 15/11/2000. إلا أن هذا الوزير وضع الحكومة الصربية الآن في موقف صعب حين هدد بانسحابه من الحكومة إذا لم توافق على تغيير اسم شعبه من "مسلم" الى "بشناقي" في استمارات الإحصاء الجديد مجلة "سيفتلوست" عدد 10- 17/2/2001. الى ذلك تعج صربيا بالمهجرين من كل جانب نتيجة للحروب والمآسي التي جلبها ميلوشيفيتش لشعبه. فهناك مئات الألوف من الذين هاجروا الى صربيا من كوسوفو ومكدونيا والبوسنة وكرواتيا وسلوفينيا وحتى من الجبل الأسود. وهؤلاء صرب مضى على وجودهم سنوات في صربيا، وهم قد يسجلون هنا في هذا الإحصاء وقد يسجلون ثانية في الإحصاء اللاحق في مواطنهم الأصلية. وفيما يتعلق بالجبل الأسود مونتنغرو فإن خانة "مونتنغري" تثير الإشكال بالنسبة للعلاقة الحالية والمستقبلية ما بين صربيا والجبل الأسود. فهناك تقديرات بوجود 150 ألف مونتنغري في صربيا هناك من يهدد بطردهم في حال الاستقلال بينما هناك تقديرات تتحدث عن 300 ألف صربي من أصل مونتنغري. وهناك سؤال عن حق هؤلاء بالمشاركة في الاستفتاء على استقلال الجبل الأسود عن صربيا. إن كل هذه الملاحظات تصب في خانة واحدة يفترض ان تضاف الى الخانات ال34 في استمارة الإحصاء الجديد، الذي لن يكون أفضل من الإحصاءات "السياسية" السابقة التي اشتهرت بها يوغوسلافيا". * مدير معهد بيت الحكمة، جامعة آل البيت - الأردن.