هناك شيء ليس على ما يرام ما بين كوسوفو والبوسنة، وتحديداً ما بين الألبان والبشانقة. ويبدو الآن ان تداخل الجغرافيا والتاريخ والثقافة والسياسة الذي استمر عدة قرون بين الطرفين وصل إلى مفترق طرق في التسعينات بسبب التطورات الجديدة التي عصفت بيوغوسلافيا السابقة، وأوصلت الأحوال إلى ما هي عليه. ولا بد من التوضيح ان العلاقات بين الطرفين ترابطت بقوة خلال الحكم العثماني الطويل الذي دام أكثر من أربعة قرون، وذلك لإعتبارات عدة. فالعثمانيون وصلوا إلى البوسنة منذ منتصف القرن الخامس عشر من خلال كوسوفو، كما أن ولاية البوسنة ضمت خلال القرن السادس عشر حتى مطلع القرن السابع عشر جزءاً من شمال كوسوفو حول زفتشان ومتروفيسا الغنية بالثروات المعدنية. وهكذا تحولت المنطقة الواصلة بين كوسوفو والبوسنة، أو ما سيُعرف لاحقاً بالسنجق، خصوصاً ناحية نوقي بازار، إلى منطقة تداخل اثني - ثقافي بعد انتشار الإسلام الذي سيجمع بين الطرفين. ويشار إلى أن الإسلام انتشر وتحول إلى دين الغالبية لدى شعبين فقط في البلقان، الألبان والبشانقة، وهو ما قرّب بينهما وباعدهما عن بقية شعوب البلقان بسبب الموقف من الحكم العثماني. وهكذا لا يعد من المستغرب ان البشانقة قاوموا بضراوة الاحتلال النمسوي للبوسنة في 1878، وبرزت بينهم حركة قوية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تطالب بعودة مظلة الخلافة العثمانية، كما أنه اندلعت في البانيا الوسطى ثورة مسلحة خلال 1914-1915 بعد إعلان الاستقلال عن الدولة العثمانية وتنصيب الأمير ف. فيد الألماني أميراً على البانيا تطالب أيضاً بسيادة الخليفة. ومع تشكيل "مملكة الصرب والكروات والسلوفيين" يوغوسلافيا لاحقاً في 1918 لم يجد الألبان في كوسوفو والبشانقة في البوسنة انفسهم لا في اسم الدولة الجديدة ولا في واقعها السياسي، إذ مورست عليهم الضغوط القوية لتغيير دينهم وقوميتهم ودفعهم للهجرة خارج يوغوسلافيا. وهكذا اضطر أكثر من ربع مليون ألباني وبشناقي إلى الهجرة إلى تركيا خلال 1918-1939 على اعتبار انهم من "الأتراك"! ومع انفراط يوغوسلافيا خلال الحرب العالمية الثانية 1941-1945 افترق موقتاً الطرفان، إذ ضُمت معظم كوسوفو إلى ألبانيا، بينما ضُمت معظم البوسنة إلى "دولة كرواتيا المستقلة". ومع انبعاث يوغوسلافيا من جديد عام 1945، التي أغرت الألبان والبشانقة بدعوتها إلى المساواة بين شعوب يوغوسلافيا السابقة، دخل الطرفان في معاناة جديدة. فالألبان في كوسوفو، الذين كانوا قد وُعدوا بحق تقرير المصير والاختيار بين البانيا ويوغوسلافيا حصلوا بالكاد على حكم ذاتي محدود ضمن صربيا. أما البشانقة فوجئوا بعدم الاعتراف بهم كشعب وبعدم الاعتراف بالبوسنة كجمهورية/ وحدة قومية للبشانقة على نمط الجمهوريات الأخرى في يوغوسلافيا كصربيا ومكدونيا... الخ، بل جمهورية تعيش فيها عدة شعوب ليس من بينها الشعب البشناقي. وهكذا تعرض الطرفان مرة أخرى إلى ضغوط مختلفة لدفعهم إلى الهجرة خارج يوغوسلافيا. وعلى نمط ما حدث في السابق، هاجر خلال 1945-1966 أكثر من ربع مليون الباني وبشناقي إلى تركيا ضمن مؤامرة صمت على هذا النزيف البشري من "يوغوسلافيا الاشتراكية" إلى "تركيا المتخلفة". ومع انعطاف 1966، وتحديداً مع التخلص من حكم الأجهزة التي كانت لا ترتاح لوجود المسلمين في يوغوسلافيا، برزت يوغوسلافيا أخرى تتميز بمشاركة قوية للبشانقة والألبان بعد ان تم الاعتراف بالبشانقة كشعب في 1971 وبعد أن تم توسيع الحكم الذاتي للألبان في كوسوفا خلال 1968-1971. وهكذا تمثلت هذه المرحلة بوصول البشانقة والألبان للمرة الأولى إلى أعلى المراكز في يوغوسلافيا جمال بيديتش رئيس الوزراء خلال 1971-1977، ورئيف دزداريفيتش وزير الخارجية وسنان حساني رئيس الجمهورية خلال 1986-1987. وكان من الطبيعي ان يتبلور في ذلك الوقت تقارب ألباني - بشناقي على مختلف المستويات، خصوصاً في مواجهة الموجة القومية الصربية التي برزت بقوة بعد وفاة تيتو 1980، التي حاولت أن تعيد إلى صربيا ما خسرته في كوسوفو والبوسنة. فقد بنت الايديولوجية القومية الصربية صعودها الجديد على ادعاء ان صربيا خسرت بعد 1966 كوسوفو والبوسنة التي كانت تدعي أنها امتداد لصربيا التاريخية/ المقدسة، إذ كانت تتمتع هناك بنفوذ قوي بواسطة أجهزة الحزب والمخابرات، وذلك باسم التحول الديموقراطي الذي منح الغالبية الألبانية في كوسوفو والغالبية البشناقية في البوسنة للمرة الأولى الدور الرئيسي في السلطة. وهكذا مع صعود ميلوشيفيتش إلى السلطة مع هذه الموجة القومية الصربية القوية خلال 1986-1987، ودعوته إلى "توحيد صربيا" و"توحيد الصرب"، بدأ الشعور بالخطر لدى الألبان والبشانقة وغيرهما. وفعلاً نجح ميلوشيفيتش خلال 1988-1989 في تحريك الشارع الصربي، ومع تغيير قيادة الجبل الأسود وإلغاء الحكم الذاتي في كوسوفا وفويفودينا بدا أنه قطع منتصف الطريق نحو هدفه في إحكام السيطرة على يوغوسلافيا. لذلك أخذت الجمهوريات الأخرى سلوفينياوكرواتيا والبوسنة تخشى على نفسها وتستعد للاستقلال عن يوغوسلافيا. وهكذا بعد اعلان الاستقلال اندلعت الحرب بسرعة في سلوفينيا واستمرت طويلة في كرواتيا وتحولت إلى مأساة في البوسنة، وخلال سنوات الحرب/ المأساة في البوسنة 1992-1994 تشكل نوع من الاحباط البشناقي نتيجة لموقف الألبان في كوسوفو. كان البشانقة يتوقعون ويتمنون ان يصعد الألبان موقفهم ضد صربيا حتى تنشغل بجبهتين في وقت واحد كوسوفو والبوسنة. لكن الزعيم الألباني الجديد إبراهيم روغوفا، الذي كان انتخب رئيساً لجمهورية كوسوفو المعلنة من طرف واحد في 1992، عارض بقوة التوجه نحو العمل المسلح، ودعا باستمرار إلى النضال السلمي فقط، وذلك لقناعات البانية وتطمينات غربية بحل المشكلة في كوسوفو بعد التوصل إلى حل في البوسنة. ولكن مع التوصل إلى اتفاق دايتون في 1995 بدأ الوضع يتوتر في كوسوفو ويتجه نحو التصعيد. وكانت السلطات الصربية بعد إلغاء الحكم الذاتي في 1989 تحاول باستمرار تضخيم "التعددية القومية" في كوسوفو لتغطية الطابع الألباني الغالب 90 في المئة من السكان. لذلك أخذت تعتمد على الأقليات الموجودة الأتراك والغجر والبشانقة في إدارة الأقليم مع تغييب الغالبية الألبانية. ولا شك في أن المتعاونين من هذه الأقليات مع النظام الصربي الذي فرض نفسه بعد إلغاء الحكم الذاتي، استفادوا كثيراً من هذا الوضع الذي استمر حتى التدخل الأطلسي والانسحاب الصربي من كوسوفو. ومن ناحية أخرى، كان يُلاحظ خلال أسابيع التدخل الأطلسي/ التهجير الصربي للألبان، ان الموقف الرسمي للحكومة البوسنوية لم يكن قوياً كما كان يتوقعه الألبان، ما خلّف شيئاً في نفوس الألبان. ومع عودة الألبان الذين هجروا خلال التعسف الصربي والتدخل الأطلسي، بدأ يتفجر عنف جديد في الاقليم ضد الصرب وضد الأقليات الأخرى المتهمة بالتعاون مع الصرب خلال 1989-1999، وبغض النظر عن تعاون الأفراد مع النظام القائم، حين أخذوا يهاجرون بدورهم باتجاه البوسنة نتيجة لتعرضهم للمضايقات المختلفة، ومع وصول هؤلاء البشانقة إلى البوسنة في الشهور والأسابيع الأخيرة، أخذت تتراكم المشاعر في النفوس، ودفعت هذه بمثقف بشناقي معروف كان يعيش في بريشتينا ويتعاطف مع الألبان إلى التعبير عن استغرابه لعدم تمييز الألبان الآن البشناق عن الصرب في كوسوفو. ويبدو ان مشاعر الاستغراب أو الاستهجان في البوسنة لما يحصل في كوسوفو تزايدت في الأيام الأخيرة حتى خصص تلفزيون البوسنة والهرسك الرسمي مناقشة لهذه المشكلة في أمسية 9/10/1999 شارك فيها شفكو الوميروفيتش رئيس مجلس هلسنكي لحقوق الإنسان من البوسنة والدكتور سلوبودان اينيتش من بلغراد. وتحدث الوميروفيتش بمرارة عن وضع البشانقة في كوسوفو في اعتبارهم ضحية للصراع القومي بين الطرفين هناك الألبان والصرب، إذا لم يسلم البشانقة من الضغوط عليهم حين كان الصرب يتولون السلطة ولم يسلموا أيضاً من تصفية الحساب حين أصبح الألبان في مركز القوة. ومع ان الوميروفيتش يضخم من عدد البشانقة في كوسوفو أكثر من مئة ألف، بينما هم حوالى خمسين ألفاً حسب الاحصاءات الرسمية، إلا أنه يشير إلى أن معظم البشانقة اضطروا إلى الهجرة من كوسوفو خلال الشهور الأخيرة حوالى 40 ألفاً. أما د. انيتيش المعارض بطبيعة الحال لنظام ميلوشيفيتش، فأوضح منذ البداية أنه ليس ضد استقلال كوسوفو. ولكنه ركز على أن مفهوم الاستقلال عند الألبان لا يعني فقط استقلال كوسوفو عن صربيا، وإنما يعني أيضاً أنه لا مكان فيها لغير الألبان، أي لا للصرب ولا للبشانقة. ومع أن الوميروفيتش أشاد بموقف الزعامة السياسية هاشم ثاتشي والدينية نعيم ترنافا للألبان في كوسوفو التي تدين بقوة العنف الموجه ضد البشانقة، إلا أنه من الواضح أنه في ظل غياب سلطة واحدة تتولى تطبيع الوضع على الأرض، لا يمكن السيطرة على الممارسات الفردية الألبانية التي توجه ضد عائلات بشناقية في الأطراف خارج المدن وتساهم بدورها في تصعيد التوتر بين الطرفين، الذي هو ليس لصالح الطرفين لا في كوسوفو ولا في البوسنة، لأن قولبة البلقان لم تنته بعد. * مدير معهد بيت الحكمة، جامعة آل البيت، الأردن.