يجلس جيوزيبي على اريكته خلف النافذة المطلة على مدينة تونس القديمة متأملاً قوافل الغادين والرائحين في الاسواق العربية. هناك في الدور الثاني من القصر العتيق الذي لا يدل شكله الخارجي على انه احد الانجازات المعمارية الفخمة للبنائين الطليان يسكن الشيخ ذو السادسة والتسعين من العمر والذي يعتبر اكبر معمر بين الجالية الايطالية التي استقرت في تونس قبل قرن من الآن. لكن غالبية الطليان عادوا الى الضفة الشمالية للمتوسط بعد استقلال البلد باستثناء مئات اختاروا قضاء بقية حياتهم في المدينة التي ألفوها. في هذه الايام التي تتزامن مع مرور مئة سنة على الهجرة الايطالية الكثيفة الى تونس يتهافت الصحافيون على الحديث مع جيوزيبي كونه يرمز الى أكبر جالية أوروبية سكنت البلد. اذ كان الطليان أكثر عدداً من الفرنسيين على رغم ان الانتداب كان فرنسياً. وهم استطاعوا الاندماج سريعاً في المجتمع وتخصصوا في أعمال تعتمد على المهارات خصوصاً البناء وتصليح السيارات، فيما سيطر اليهود الطليان الآتون من مدينة ليفورنا على عالم الصيرفة والتجارة. وصارت هناك سوق تجارية تحمل اسمهم الى اليوم في مدينة تونس القديمة. يعتدل جيوزيبي الأنيق في جلسته ويتذكر في ألم ما حدث للطليان في تونس بعد الحرب العالمية الثانية عندما اتهمت اكثريتهم بالخيانة وتأييد المحور. أسرته خسرت عقاراتها التي انتزعها منها السيناتور الفرنسي كولونا أحد أبرز وجوه "المتنفذين" مثلما يسميهم حتى الآن، والذين فتحت حملة المطاردة شهيتهم للاستيلاء على ممتلكات الطليان. يتنهد جيوزيبي وتعود علامة الارتياح الى وجهه عندما يتذكر انه استطاع استعادة القصر الصغير ذي الطبقتين والذي ما زال محافظاً على طابعه العتيق مثلما كان قبل نصف قرن وكأن أهله ما زالوا يقيمون في أرجائه الفسيحة. بيت غاريبالدي غير بعيد عن سكن جيوزيبي وعلى تخوم "باب الجزيرة" احدى بوابات تونس التاريخية يقع قصر ايطالي آخر هو "بيت غاريبالدي" الذي سكن فيه زعيم الوحدة الايطالية في القرن الماضي ثم صار اليوم بعد ترميمه وتحديثه قصراً للثقافة تقام فيه المعارض الفنية والندوات والفعاليات الثقافية. في كل شارع من شوارع المدينة الأوروبية خارج الاسوار ترك الطليان بصماتهم على الاشكال الهندسية التي منحوها للعمارات والبنايات اضافة الى تأثيراتهم الظاهرة في لغة التخاطب التي أدمجت فيها كلمات ايطالية كثيرة. يتحدر جيوزيبي من مدينة ليفورنا، لكنه لا يحب العودة اليها واجمل مكان يعشقه في الدنيا هو هذا البرزخ القريب من "باب البحر" بين مدينة تونس العربية والمدينة الحديثة حيث تتجمع الخانات الأوروبية القديمة التي تطورت لاحقاً الى مكاتب للسفارات وابرزها السفارة البريطانية المطلة على باب البحر. ولعل ميزة الجالية الايطالية هي كونها الوحيدة التي ما زالت تصدر صحيفة اسبوعية بلغتها يعود صدورها الى اكثر من أربعين سنة هي "كورييري دي تونيزي" والتي تعتبر الصحيفة الايطالية الوحيدة التي ما زالت تصدر في العالم العربي. وجمعت أخيراً المسؤولة في الصحيفة سيلفيا فينزي شهادات لشخصيات عامة ايطالية من عالم الفن والسياسة والمال والاعمال عاشت في تونس طيلة القرن الماضي واصدرتها في كتاب يروي قصة الجالية التي منحت ابعاداً جديدة للصراع القديم بين روما وقرطاج. وعلى مدى الشهرين الماضي والجاري تقام في تونس لقاءات اكاديمية وفنية وثقافية في ذكرى مرور مئة عام على وصول المهاجرين الطليان الى تونس بينها عروض لكتب ولوحات وقطع اثرية ومخطوطات اسلامية آتية من جزيرة صقلية. يحكي قصر جيوزيبي روائع الهندسة الايطالية العريقة برخامه المنحوت وبلاطه الموشى والسيراميك الذي يغطي جدرانه وفوانيسه ونجفاته المقتبسة من عصر النهضة الايطالي ما يعكس الثراء الذي كانت تعيش فيه الاسرة التي انتقل بعض ابنائها من المحاماة الى تجارة الخشب والحديد وظلوا يمارسونها الى الستينات. اما نجلاه فيقيم احدهما في ميلانو والثاني في باريس حيث يعملان في قطاع المال، فيما يصر هو على البقاء هنا. "انه البلد الذي امضيت فيه كامل عمري ولن استطيع التكيف مع بيئة اخرى" قال جيوزيبي ل"الحياة" موضحاً انه لم يغادر تونس سوى لدراسة القانون في روما ايام الشباب وعاد اليها سريعاً بعد التخرج. كأنما يصر على ان يبقى قطعة من التاريخ تحكي قصص المهاجرين الطليان والمالطيين واليونانيين الذين اتوا الى تونس في القرنين الماضيين من الضفة الشمالية للمتوسط ولم يتبق منهم اليوم سوى... بعض المعالم.