لا أحد يستطيع إنكار الطابع "الطلياني" العنيف والمتميز الذي يرتديه الصراع الاجتماعي والسياسي المحتدم في بلد السباكيتي والزلازل السياسية والمافيا، الا انه حين تقترب لحظات الفرح، فإن قلوب الايطاليين تتفتح على مداها، وهم الآن يحتفلون بكل مكابرة بالعيد المئوي لرحيل "شيخ" فن الأوبرا الموسيقار جوزيبه فيردي الذي يصادف مثل هذا اليوم 27 كانون الثاني يناير 1901. احتل فيردي دائماً مكانة مرموقة في قلوب الايطاليين الى حد جعلهم يفرشون الشارع الذي كان يقيم فيه في مدينة ميلانو بالقش لتخفيف ضوضاء العربات والحافلات أثناء مرضه بعد ان بلغ ال87، وعندما نقل جثمانه الى المقبرة تحول موكب الجنازة الى تظاهرة مشى فيها اكثر من 250 ألفاً، وتمت مراسم الدفن على أنغام رائعته "نبوخذ نصر" بقيادة الموسيقار ارتورو توسكانيني الذي أدار كورس مؤلف من 800 منشد. ويحيي الايطاليون ومعهم الأوروبيون هذه الذكرى بعروض اوبرالية، وإقامة معارض تشكيلية ومسرحية وعشرات الندوات والمحاضرات لموسيقيين من أنحاء العالم. وكان فيردي خلال النصف الثاني من القرن ال19 سيد الأوبرا من دون منازع، نظراً الى غزارة التأليف، وجودة الأعمال التي ركز من خلالها على الانفعالات الموسيقية العذبة ذات المسحة الشعبية والتي تميزت بادماج أعماله الاوبرالية بالروائع الروائية والشعرية والمسرحية العالمية، وبالأساطير التي استقاها من أحداث التاريخ القديم وشخصياته الشهيرة، كما هي الحال في "نبوخذ نصر" 1842 و"يوم ملكي" 1840 التي تعتبر مرثية لزوجته جوزبينا ستربوني، و"القرصان" 1848 و"القدس" 1867 و"ماكبث" 1847 و"عطيل" 1887 و"الملك لير" 1887 وغيرها من الروائع التي تجاوزت الثلاثين عملاً أوبرالياً. واشتهرت اوبرا عايدة التي استقاها من تأملاته العميقة للفنون الفرعونية في مصر، وتنهل من التاريخ الفرعوني موضوعاً له، وهي قدمت للمرة الأولى في القاهرة عام 1869 بمناسبة افتتاح دار الأوبرا الجديد في عهد الخديوي اسماعيل الذي استعان بفيردي الذي كانت شهرته تغطي عالم الموسيقى ليسلمه المخطوط الآثاري الذي عثر عليه الفرنسي اوغست مارتا في وادي النيل في منتصف القرن ال19. والمخطوطة التي ترجمت عن الفرعونية أولاً الى العربية ومنها الى الايطالية، عبارة عن ملف قصصي صغير جداً يتألف من أربع صفحات يحكي قصة عايدة، وهي فتاة قروية ابنة رجل فقير يعمل في دار رجل ثري ويقع ابنه في غرامها. كما لمع اسم فيردي في عالم النضال السياسي، وكان من أبرز المطالبين بالوحدة الوطنية التي كان يناضل من أجلها موحد البلاد غاريبالدي وتوجت بقيام ايطاليا الموحدة عام 1870 وهو اصبح نائباً في أول برلمان ايطالي أثناء فترة توقف خلالها عن التأليف الموسيقي استمرت أربعة أعوام.