بعد ثلاث روايات وست مجموعات قصصية وسبعة كتب في النقد الأدبي وثلاثة كتب فكرية، قدمها محمد كامل الخطيب خلال ربع قرن 1974-1999 يأتي كتابه "وردة للمختلف". وتبدو بجلاء افادة الخطيب في كتابه "وردة للمختلف" من بحثه في التراث النهضوي العربي، وتحديداً "مؤتمر المثقفين السوريين واللبنانيين" الذين عقد في بيت يوسف الهراوي في معلقة زحلة ربيع عام 1934، وفي التحول الذي تبع هذا المؤتمر، والانقسام الكبير بين التيار القومي والتيار الشيوعي. ويذكر انه سبق مؤتمر زحلة مؤتمر "عصبة العمل القومي" في قرنايل عام 1933، بعده اقامت العصبة والحزب الشيوعي السوري اللبناني مؤتمر زحلة، وقام سليم خياطة 1909-1965 بكتابة وثائقه، وشارك فيه ميشيل عفلق وصلاح البيطار وجميل صليبا وكامل عياد ومنير سليمان وسواهم من سورية، ومن لبنان: سليم خياطة والياس القرعوني ومصطفى العريس ويوسف خطار الحلو وسواهم. وأطلق هذا المؤتمر نداءات وشعارات الاتحاد العربي واتحاد الجمهوريات العربية والولايات العربية المتحدة، وكان أهم قراراته الدعوة الى فصل الدين عن الدولة. يثبت الخطيب نص الكراس الذي أصدره مؤتمر زحلة تحت عنوان "في سبيل الوحدة العربية" ثم يثبت نص الكراس الذي صدر في بغداد عام 1936 تحت عنوان "في سبيل تحرر الشرق العربي". ومن المقارنة بين الوثيقتين يجلو الخطيب التغير الذي طرأ في موقف الشيوعيين من مسألتي الأمة والوحدة، ابتداءً من تبديل عنوان وثيقة مؤتمر زحلة، الى الشعوب في البلاد العربية بدلاً من الشعب العربي، ابن الشرق العربي بدلاً من العربي، قضية الشرق العربي بدلاً من القضية العربية. بل ان الوثيقة البغدادية قالت بأمم الشرق العربي، ثم دعت في خاتمتها الى تصحيح كلمة أمم بكلمة شعوب، كما حذفت انتقاد وثيقة مؤتمر زحلة لمن يسعون الى قومية عراقية مستقلة، وأضافت بنداً يدعو الى تحرير المرأة. تحت وطأة الانسجام مع خط الكومنترن، تحولت وثيقة "مؤتمر زحلة"، تعبيراً عما يدعوه الخطيب بالخطأ التاريخي وبالانقلاب الذي سيتواصل ويتعمق في تقديم خالد بكداش لكتاب "طرائق الاستقلال 1939"، مما سيعمق الصراع بين التيارين القومي والشيوعي. كما سيتوالى الصراع والانقسام والانقلاب داخل كل تيار تأسيساً على مسألتي القومية والاشتراكية. وما يخص التيار الشيوعي، يعاين الخطيب تحت عنوان "التغيير ولهذه الأسباب" ما قبل وما بعد المفصل التاريخي الذي يمثله "مؤتمر زحلة"، كما يوضح الفهم الماركسي لمسألتي الأممية والتبعية، في كتابات الرعيل المؤسس: يوسف ابراهيم يزبك 1901-1982 صاحب كتاب "النفط مستبد الشعوب 1934"، ورئيف خوري 1912-1967 الذي ساجل قسطنطين زريق في كتابه "معالم الوعي القومي 1941"، والعراقي عبدالفتاح ابراهيم صاحب كتاب "على طريق الهند 1935"، والفلسطيني بندلي صليبا الجوزي 1971-1942 صاحب كتاب "من تاريخ الحركات الفكرية في الاسلام" وسواهم. بالانقلاب الذي عبر عنه تحول وثيقة "مؤتمر زحلة" الى "وثيقة بغداد"، تراجع هذا الجيل الماركس المبدع، وسيطرت الستالينية، وبدأ التفكير التابع يفرغ الفكر الشيوعي العربي من اي كتاب أو مفكر له أهمية أو اعتبار، الى ان يأتي جيل كتابة اخرى، ماركسية لا شيوعية، لأنها من خارج الأحزاب، سوى نموذج مهدي عامل، وكما تمثل مؤلفات الياس مرقص وياسين الحافظ. وكان الأولى بالخطيب هنا ألا يغفل بوعلي ياسين، كما كان الأولى به أيضاً ألا يغفل التزامن بين تعريق - من عراق - وثيقة مؤتمر زحلة وهتاف خالد بكداش بالأمة السورية، وبين أطروحات أنطون سعادة وحزبه. يقدم الخطيب لهذا الشطر من كتابه افتقاد التقليد الديموقراطي الذي كان في صحافة عصر النهضة: المناظرة والحوار وتداخل الجمهور، وبالتالي شيوع التخوين على لسان التيار القومي، والتكفير على لسان التيار الاسلامي، والتحريف على لسان التيار الشيوعي. ويجسد الخطيب دعوته الى اعادة الاعتبار للمناظرة والحوار في مجادلته لمحمد جابر الانصاري ولعلي حرب. ومع الأول تحت عنوان التعادلية، الوسطية، التوفيقية يبدأ بتتبع نشوء اللحظة التوفيقية في الفكر البشري، وصولاً الى تعبيراتها لدى توفيق الحكيم وزكي نجيب محمود وعبد الحميد حسن. ويرى ان الأنصاري في كتابه الفكر العربي وصراع الأضداد 1996 كشف بدقة عن الجذر التوفيقي للناصرية وللبعث ولأنطون سعادة ويتخوف الخطيب من ان تؤدي التوفيقية التي يقترحها الأنصاري، كأي توفيقية، الى جمع أسوأ ما في طرفين، ويرى ان التوفيقية تطور معاق، وقد تكون خضوعاً للمتطلبات السياسية، أكثر منها اتجاهاً فكرياً. أما مع علي حرب، وتحت عنوان دلالة المحذوف، وبعد توكيده على أن التنوير مشروع لتحرير الانسان، وبعد تعبيره عن اعجابه بلغة وأسلوب وعمق ثقافة علي حرب، وروحه النقدية وبعض لمحاته وشطحاته، بعد ذلك يستغرب الخطيب حماسة حرب عندما يتحدث عن التنوير والنهضة والتقدم، فيهاجمها وحامليها، ويأخذ عليه ان حديثه عن التنوير والحداثة العربيين فهو يعالج موضوعاً اجتماعياً محدداً، بأسلوب ولغة ومصطلحات فلسفية مجردة وغير محدودة، مما يكاد يجعل جهازه المفاهيمي والاصطلاحي بعيداً عن موضوع بحثه. ويبلغ هذه الشطر من كتاب "وردة للمختلف" في ما يتلو من أمر الليبرالية، اذ يرى الكاتب أن الفكر التقدمي العربي المعاصر مثل جيش مهزوم ومكشوف، انتقل الى خط الدفاع الثاني، مع انه لم يبنه، وهو خط العقلانية والديموقراطية. ويرسم الخطيب المستحيلات الآن بتكون الليبرالية - أولاً - لأنها لم تنجز الاصلاح الديني ولعجزها الذاتي للشرط الموضوعي، وثانياً: استحالة حكم السلفية، وثالثاً، استحالة استمرار الأنظمة العسكرية والواحدية، ورابعاً: استحالة تحقيق الاشتراكية. والكاتب في ذلك، وفي ما كتب أيضاً عن مشروع النهضة العربية وعن المسرح العربي، يبدو، بالبحث كما بالغنائية والمجادلة، يرسم "وردة المختلف" التي يقدمها في خاتمة الكتاب الى كل حرف عربي تنويري. وهنا، تنبغي العودة الى مقدمة الكتاب التي رأى فيها الثقافة كالسياسة، فعل مشاركة اجتماعية أخلاقية تنويرية. أما السياسة في المعنى الحزبي الضيق، فالخطيب يؤكد أنه نظر اليها دوماً بعين الريبة، كما نظر الى السياسي المحترف والثقافي التقني. أما العمل السياسي السري، فالخطيب يؤكد انه لم يؤمن به، لفقدانه حسن المؤامرة والبطولة، وربما، كما ابتدأ بالقول، لأنه اتخذ دون كيشوت دليله منذ الصغر، فهل يكون - وأمثاله - يحاربون الطواحين، كأسلافهم طوال القرن العشرين؟ وعلى أي حال، ماذا تراهم يفعلون للقرن الحادي والعشرين؟ * كاتب سوري.