البنك الدولي يعزز تمويلاته المخصصة لتخفيف آثار التغير المناخي    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    محافظ الزلفي يلتقي مدير إدارة كهرباء منطقة الرياض    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    أبها تستضيف منافسات المجموعة الرابعة لتصفيات كأس آسيا تحت 20 عاماً    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    قراءة في الخطاب الملكي    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    قصيدة بعصيدة    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    التزامات المقاولين    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    الاستثمار الإنساني    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    هيئة الأفلام تطلق النسخة الثانية من "منتدى الأفلام السعودي" أكتوبر المقبل    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    محافظ الأحساء: الخطاب الملكي يحمل حرصا شديدا على حماية هويتنا وقيمنا    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    الكويت ترحب بتبني الأمم المتحدة قرارًا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    فريق بحثي سعودي يطور تكنولوجيا تكشف الأمراض بمستشعرات دقيقة    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    المهندس الغامدي مديرا للصيانة في "الصحة"    العواد إلى الثانية عشرة    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    إلى جنَّات الخلود أيُّها الوالد العطوف الحنون    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    سلامة المرضى    كلام للبيع    كسر الخواطر    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المياه وقرنق والنفط . قصة الانقاذ وسياساته في الحكم ونقض العهود مع الجنوبيين السودانيين

ليخرج الانقاذ من مأزقه، وليخرج السودان من مأزقه التاريخي الذي عمقة مأزق الانقاذ فعلى الرئيس البشير أن يؤكد بالفعل لا بالقول على صدقية ما طرح وأعلن من وفاق وطني وتكوين جبهة وطنية عريضة تضم القوى السياسية وبرنامج استراتيجي وميثاق عمل وطني والتأكيد على السودانية كإطار جامع للجنوبيين والشماليين على حد سواء.
بذلك فقط تكون معركة البشير مع كل الذين يستعصون على هذا الطرح سواء بين داخل نظامه أو خارجه معركة كل وطني سوداني ديموقراطي مخلص. مع العلم بأن الرئيس البشير اذا لم يؤكد على صدقيته عملياً هذه المرة - وبعد انتخابه للدورة الرئاسية الثانية - فستنسحب على أقواله ما كان من عدم صدقية في مرتين سابقتين: المرة الأولى حين قام بانقلاب 1989 وأودع الشيخ حسن الترابي السجن تمويهاً فتم تسويق الانقلاب مصرياً وعربياً، ثم اتضح ان الترابي هو زعيم الانقلاب وأن الجبهة القومية الاسلامية هي قاعدته، والمرة الثانية حين أعلن عن قرارات الرابع من رمضان 12 كانون الأول ديسمبر 1999. وأبعد الترابي ثم لم يأت النظام بجديد، ولم يراجع ولم يتراجع حتى الآن، بل ازداد ضراوة واستشراساً.
فما هو فيه البشير الآن هو المرة الثالثة ما بعد تمويه 1989 أو المرة الثانية اذ كان ابعاد الترابي حقيقياً وليس تمويهاً كما يعتقد البعض حتى الآن، والمرة الثانية باعتبار ان الوعود المعلنة بعد متغيرات رمضان لم تصدق بعد، كبرق سحابة لم تمطر. ولا تقتصر المشكلة على أن هذه السحابة ببرقها الواعد لم تمطر في الشمال بل انها تحولت الى عارض به ريح وعذاب أليم من الجنوب.
ففي الشمال ومن بعد متغيرات رمضان 12/ كانون الأول 1999 كرس المؤتمر الوطني الحاكم أحاديثه وشموليته في قرارات مؤتمره العام 27 الى 30/9/2000، كما أجهض الملتقى التحضيري للوفاق الوطني 16 والى 18/10/2000. وانطلق البشير نحو رئاسته الثانية قافزاً فوق الوفاق الوطني ومقتضيات التشاور مع الآخرين وفي اطار انتخابات أحادية الرئاسة والمجلس الوطني برلمان النظام.
شهد الجنوب نقض العهود
أما الجنوب فشهد ما هو أعتى وأمر، فبعد توقيع اتفاقات السلام من الداخل مع قادة الفصائل الجنوبية المسلحة في الخرطوم، باستثناء فصيل القاعدة الأساسية بزعامة الدكتور العقيد جون قرنق، وذلك في الحادي والعشرين من نيسان ابريل 1997 وأبرزهم رياك مشار وكاربينو كوانجين ثم اتفاقي ماشودة للسلام مع لام أكول، سرعان ما انقلبت الانقاذ وبعد متغيرات رمضان على هؤلاء جميعاً، ذلك اذا استثنيا انسلاخ القائد كاربينو كوانجين المبكر في شهر تشرين الثاني نوفمبر 1997 إثر خلافات سياسية وادارية حول موقعه في مجلس التنسيق للولايات الجنوبية ما دفعه للتنسيق مع جون قرنق والهجوم على مدينة واو الاستراتيجية في جنوب السودان مطلع كانون الثاني يناير 1998 ثم اغتياله بتاريخ 10 أيلول سبتمبر 1999.
اذا استثنينا وضعية كاربينو من نقض العهود فإننا لا نرفع الادانة عن النظام بالنسبة لانسلاخ الدكتور رياك مشار الذي قدم استقالته ولجأ الى غابات الجنوب في مطلع شباط فبراير 2000 حيث ظهرت خلافاته مع النظام منذ 15 آب اغسطس 1999، وكان الدكتور مشار يشغل منصب مساعد رئيس الجمهورية رئيس مجلس التنسيق للجنوب.
وتركز الخلاف حول اخلال الانقاذ بتعهداته انشاء مجلس استشاري للجنوب ومنصب الأمين العام لحكومة الجنوب، وعدم تكوين اللجنة الفنية العسكرية المشتركة ودعم قوات دفاع الجنوب وتعيين رجال الأمن والشرطة الموحدة من أبناء الجنوب مع استبعاد الانقاذ للجنوبيين من كل أنشطة استخراج النفط في ولاية الوحدة الجنوبية، اضافة الى سعي الانقاذ لإحداث انقسامات عسكرية وسياسية في صفوف الجنوبيين من الذين وقعوا اتفاقات السلام معها.
وللأسف فقد كررت الانقاذ مع الجنوبيين ما سبق من سياسات نميري وشركة شيفرون حين استثني الجنوبيون من كل اشغال النفط مع ضم مناطق البترول الجنوبية الى الحدود الادارية لشمال السودان وعدم اقامة مصفاة في منطقة انتاج البترول. وقد تزامنت استقالة رياك مشار مع معلومات تلقاها تفيد بمقايضة التأييد المصري لموقف البشير ومجموعته ضد الشيخ الترابي بالتنصل مما سبق الاتفاق عليه حول تقرير المصير للجنوب، وذلك منذ أن لوّح الدكتور رياك مشار باستقالته في 15 آب 1999 ثم قدمها رسمياً في 31 كانون الثاني 2000، وبعد شهر ونصف من متغيرات رمضان.
أما المقايضة المصرية فقد وضحت في أكثر من شاهد، اذ قال عدد من المسؤولين المصريين والسوادنيين بأن الحيثيات السياسية التي دفعت الخرطوم في عام 1997 لاقرار حق تقرير المصير للجنوب قد تغيرت، مشيرين الى حالات عزلة النظام الاقليمية والدولية قبل متغيرات رمضان، أما بعدها فإن انفتاح الدول العربية وعلى رأسها مصر والزيارات المكثفة التي قام بها الرئيس البشير لكل من مصر وليبيا ودول مجلس التعاون الخليجي قد فكت من إسار العزلة التي ولدت الضعف لدى النظام ودفعته لاقرار حق تقرير المصير.
اذاً، فقد نتجت استقالة رياك مشار عن نقض الانقاذ لعهودها تجاه اتفاقات السلام لعام 1997 من ناحية ونتيجة المقايضة المصرية والعربية لدعم البشير ومتغيراته في مقابل الغاء تقرير المصير للجنوب من ناحية أخرى، ثم كان آخر المنشقين القائد تعبان دنيق قاي وذلك في مطلع شباط فبراير من العام الحالي 2001. وقد كان هو والمرحوم القائد العميد طون اروك طون الذين وقع على اتفاق السلام في 1997 وتوفي في حادث تحطم طائرة نائب الرئيس الزبير محمد صالح في 12/2/1998 من أشد المتحمسين والمناصرين لي في مشروع الجبهة الوطنية المتحدة ومنذ العام 1997 والتي آملنا فيها أن تضم الشماليين والجنوبيين معاً، وقد كان آخر لقاء لي به في ندوة أقامها مركز عبدالمجيد امام في آم درمان لتخليد ذكرى ثورة اكتوبر في 20 تشرين الأول اكتوبر 2000 حيث بدا محبطاً تماماً.
ولا يقل احباط القائد تعبان قاي عن احباط الدكتور لام آكول نفسه الذي وقع اتفاق فاشودة للسلام مع حكومة الانقاذ بعد خمسة شهور من توقيع اتفاق السلام مع الفصائل الجنوبية الأخرى - ما عدا قرنق - في 20/9/1997. ودكتور لام اكول يمثل قبيلة الشلك إحدى كبريات قبائل الجنوب، فيما يمثل الآخرون قبائل الدينكا والنوير الرئيسية.
ومع استمرار الدكتور لام أكول حتى الآن في تحالفه مع نظام الانقاذ إلاّ انه يبدي تبرمه من كل تجاوزاتها، وقد اشيع من قبل أنه ينوي هو الآخر الانسلاخ والعودة للغابة، علماً بنزعته الوحدوية الغالبة، وقد كان مناظراً لي في ندوة تلفزيونية حاورنا فيها الدكتور بهاء الدين حنفي السفير السوداني الحالي في تركيا والمدير السابق لمركز الدراسات الاستراتيجية في الخرطوم حيث لم يطالب فيها الدكتور لام أكول إلاّ بحقوق المواطنية المكافئة، وقد طرح نفس آرائه الوحدوية في ندوة أقامتها الحركة السودانية المركزية حسم في قاعة الشارقة في جامعة الخرطوم لطرح الكونفيديرالية، أدارها الأمين العام المساعد لتنظيم حسم وقتها الاستاذ الطاهر حسن التوم، وشارك فيها الى جانب لام أكول كل من الدكتور رياك مشار ورئيس تحرير صحيفة الوفاق الاستاذ محمد طه محمد أحمد وآخرون.
اؤكد وأكرر منذ زمان طويل انه لا خيار أمام الشماليين مهما تعددت انظمتهم سواء اعطاء الجنوب حق الحكم الكونفيدرالي وفق الحدود الادارية لعام 1956 وليس وفق الخارطة التي أصدرها العقيد جون قرنق الأخيرة، والتي تضم مناطق تنتمي الى شمال السودان جغرافياً وادارياً وتاريخياً وحضارياً وهي مناطق الانقسنا وآبنيى والنوبة.
راجع مقالنا في صحيفة - الحياة - خيار الوحدة الكونفيديرالية بين شمال السودان وجنوبه - عدد 13227 - 26 أيار مايو 1999. وأكد العقيد جون قرنق نفسه على هذا الخيار في رسالته الى الشعب السوداني بتاريخ 16 أيار 1999 أي بفارق عشرة أيام متقدمة لنشر "الحياة" لمقالي غير ان مقالي كان لدى "الحياة" بذات التوقيت.
كلانا متفق على الكونفيدرالية ومعنا آخرون من ذوي التأثير، فطرح الكونفيدرالية لا يرجع لقرنق أو لي فقط، فقد تم طرحه منذ مؤتمر المثقفين الجنوبيين في جمهورية ايرلندا في آب 1991، فالكونفيدرالية هي الاطار الوحيد المتبقي للتعايش بين الشمال والجنوب.
وهي كونفيديرالية وحدوية وليست انفصالية كما يعتقد البعض، فكل الجنوبيين لا يريدون الانفصال، وقرنق أشدهم وحدوية ولكنهم لا يريدون بذات الوقت هيمنة الشمال وقد جربوا كل الصيغ من الحكم الذاتي الاقليمي بعد اتفاق أديس أبابا في عام 1972 أو الحكم الولائي في عهد الانقاذ الراهن أو الحكم المركزي بعد الاستغلال في عام 1956، واثبتت كل تلك التجارب فشلها لأنها طبقت تحت مظلة الشمال وهيمته فلا يتبقى سوى الكونفيديرالية، ولو شاء الجنوبيون الانفصال لكانوا قرروا ذلك ونفذوه، فمطلب الجنوبيين الحقيقي ليس الانفصال ولكن عدم هيمنة الشماليين عليهم في اطار سودان موحد، وليس من صيغة سوى الكونفيديرالية، علماً بأن قرنق لا يريد الكونفيديرالية التي تمتد لأرجاء شمالية في وسط السودان النوبا وآبيبى والانقسنا الا ليؤكد ان حركته ليست جنوبية فقط وان لها امتداداتها في الوسط في شمال السودان نفسه، وبذلك يجعل من الكونفيديرالية بهذه الخارطة مشاركة لا بين الشمال والجنوب وفق الحدود الادارية لعام 1956، ولكن مشاركة بين كيانين بعد توسعة الجنوب جغرافياً ليستوعب ما هو غير جنوبي الانقسنا وآبيني والنوبا وبعد تقليص الشمال جغرافياً ليؤخذ منه ما هو غير عربي أي النوبا والانقسنا.
ومهما كانت اشكاليات الطرح الكنفديرالي فإن كل الذين يطرحون الكونفيديرالية يرفضون الانفصال خلافاً للاتهامات التي يكيلها البعض لهذا الطرح بوصفه انفصالياً وهو غير ذلك البتة، فلا الجنوبيون يريدون الانفصال، ولا الواقع الاقليمي والدولي يقبل بذلك، بل إن البنتاغون في تقريره الاستراتيجي بعنوان "التبعات الاقليمية والاستراتيجية لعدم الاستقرار في السودان" بتاريخ 11 كانون الأول 1984 الذي أعده خبير الاستراتيجية أنتوني - ب - كوردسمان وحمله نائب الرئيس الأميركي وقتها بوش اثناء زيارته السودان يرفض بوضوح اقامة دويلة صغيرة مغلقة في جنوب السودان ويكتفي فقط باستثمار حركات الجنوب كورقة ضغط لدفع الشمال نحو أنظمة وسطية أكثر اعتدالاً وبتوجه ديموقراطي علماني تأخذ فيه الافريقانية حظها.
ما هي مبررات الخوف من انفصال الجنوب؟
ثم ما هي مبررات التخوف مصرياً أو سودانياً شمالياً من انفصال الجنوب؟ هل هو الخوف من أن يغلق الجنوبيون على نسبة 14 في المئة من جملة مياه النيل التي تتدفق على شمال السودان ومصر من البحيرات الاستوائية الجنوبية؟ نسبة 86 في المئة تأتي من أثيوبيا، حسناً أين سيذهب الجنوبيون بتلك المياه؟ انهم حتى الآن يعانون نسبة الامطار العالية والمستنقعات، فإذا احتبسوا هذه المياه ازدادوا مستنقعات وغرقاً، والاحتباس نفسه غير ممكن هندسياً، لهذا نجد أن أشد المتحمسين لحفر قناة جونقلي بطول 360 كلم لاستيعاب مياه النيل والمستنقعات ودفعها نحو شمال السودان بسعة 4 بلايين متر مكعب هو العقيد جون قرنق نفسه. حتى يكون الجنوب تمكن من تجفيف مستنقعاته وتحويلها الى أراض زراعية تمكن قبائل الجنوب من التحول من الرعي والصيد الى الزراعة الحديثة المستقرة، وتعطي السودان ومصر مزيداً من المياه. ونال العقيد جون قرنق شهادة الدكتوراه في دراسته لآفاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لمشروع جونقلي من جامعة آيوا Iowa الأميركية. عام 1981، فهؤلاء من الشماليين السودانيين والمصريين الذين يتوهمون مخاطر الانفصال في الجنوب على مياه النيل لا يدركون الحقائق، علماً بأن الجنوبيين أنفسهم لا يريدون الانفصال ولكنهم لا يريدون هيمنة الشمال. ثم ان القوى الاقليمية والدولية وعلى رأسها أميركا لا تريد قيام دويلة مغلقة.
وحتى حين كان يقال ان انفصال جنوب السودان وهو في حالة عداء عنصري مع الشمال من شأنه تحويل الجنوب الى قاعدة اسرائيلية ضد شمال السودان ومصر هو قول مردود، فالعلاقات بين مصر واسرائيل بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد 17 أيلول سبتمبر 1978 الذي نزع فتيل المواجهات بين مصر وإسرائيل هي علاقات سلام مستقرة ثم أنه من غير المنطقي أو الاستراتيجي التفكير في مثل هذه الأمور، فمحاولات خنق شمال السودان ليست وقفاً بالضرورة على الجنوب فقط فيما اذا شاءت بعض القوى ممارسة هذا الخنق، وقد مارست ليبيا ذلك عام 1976، وكذلك اريتريا وأثيوبيا منذ 1996 والى 1999 ويوغندا من وقتها وما زالت.
ان كل الحجج التي تتهم الكونفيديرالية كمدخل للانفصال هي حجج عمياء وغير صحيحة لأنها تجهل أوضاع الجنوب وطريقة تفكير الجنوبيين لتتخذ من ذلك ذريعة لفرض هيمنة الشمال، لذلك طُرح تقرير المصير بين خيارين غير عمليين، أما الوحدة مع الشمال في حين يرفض الجنوبيون هيمنة الشمال، أو الانفصال وهذا ما يرفضه الجنوبيون أيضاً. ثم تجاوز الانقاذ حتى عن خيار تقرير المصير بدافع الرغبة في احتواء الجنوب واستدراج الدعم العربي لمصلحة الشق المتبقي من الانقاذ بعد إبعاد الشيخ الترابي ولدواع أمنية ذاتية وسياسية واقتصادية.
ان الكونفيديرالية التي ننشدها هي ضمن سيادة سودانية وطنية واحدة غير مجزأة وليس كونفيديرالية دولتين مستقلتين تربطهما شكليات العلم الموحد. فإذا كان قاموس التعريف بالكونفيديرالية يثبت حيثيات الاستقلال الثنائية بين دولتين فإن خيار الكونفيديرالية لجنوب هو صيغة اخرى معدلة تحقق سيادة وطنية واحدة مع رفع هيمنة الشمال على الجنوب، وليست صيغة دولتين مستقلتين أو صيغة انفصال، وليس المطلوب دائماً هو التطبيق الحرفي لنصوص التعريفات، فحين اتفق المصريون والبريطانيون على حكم السودان حكماً مشتركاً بينهما لم يجدوا صيغة قانونية دولية تؤطر لهما طبيعة العلاقة التشاركية بينهما في حكم السودان، فابتدعوا نظاماً جديداً في العلاقات الدولية عرف بالكوندومينيوم CONDOMINIOM، ولنا ان نعدل أو نبدع صيغة للكونفيديرالية بما يؤدي لسيادة وطنية واحدة غير مجزأة.
تعجل الرئيس البشير في لقائه التلفزيوني بتاريخ 25/4/1999 الموافق 10 محرم 1420 ه رفضه التام لخيار الوحدة الكونفيديرالية بوصف ان هذا الطرح يضع الجنوب في وضع انفصالي حقيقي عن الشمال. وجانب قوله الصواب، الا ان يكون المقصد هو فرض الهيمنة الشمالية على الجنوب، وقد وضح في ما بعد ان الانقاذ تجاوزت حتى حق تقرير المصير الذي وقعت عليه في اتفاق 1997. فالى أين ستؤدي محاولات فرض الهيمنة الشمالية هذه؟
انها هي التي ستدفع الجنوبيين للانفصال بمن فيهم قرنق نفسه هذه المرة، وستوضع القوى الاقليمية والدولية التي لم تكن مجندة لاقامة دويلة مغلقة لتوافق على الأمر الواقع.
وعلى رغم محاولاتي الدائية خارج الخرطوم وداخلها منذ 1997 والى ما بعد نشر مقالة الخيار الكونفيديرالي في "الحياة" 26/5/1999 وما بعد ذلك وتوضيح خصوصية هذه الكونفيديرالية على المستوى السيادي والوطني، اندفع صديقي مطرف صديق أحد مستشاري الرئيس البشير والمشارك في مفاوضات السلام لإدانة الكونفيديرالية بوصفها انفصالاً وانها فكرة ابتدعها قرنق. وأن طرح الكونفيديرالية غير مقبول عقلاً وغير مبرر قانونياً وليست هنان تجربة في العالم تدعم هذا الزعم - الصحافي الدولي- الخرطوم - تاريخ 12 ربيع الثاني 1421 ه المواقف 15 تموز يوليو 2000. وقد عقبت ناقداً لتصوراته تلك على صفحات الصحافي الدولي بعد يومين بتاريخ 17/7/2000 بعنوان عفواً أخي الصديق دكتور مطرف صديق - محاورة حول كونفيديرالية القرن الافريقي موضحاً له ان الكونفيديرالية ليست فكرة ابتدعها قرنق، وانها ليست مدخلاً للانفصال، وانها خيار وحدوي ضمن سيادة وطنية واحدة، وانها تؤدي لاستثمارات مشتركة للحياة والنفط والمراعي، وانها تؤمن الاستقرار الدستوري والسياسي للسودان كله.
البشير واسياس
وبحكم علاقتي الوثيقة مع الرئيس الأريتري أسياس أفورقي وترجمتها الى العربية الياس فم الذهب فقد سعيت لديه اثناء اجتماعي به في مكتبه الرئاسي في أسمرا بتاريخ الثلثاء 25 نيسان ابريل 2000 لأن يتولى ملف جنوب السودان بعد ان تعثر هذا الملف بين مفاوضات أبوحا في نيجيريا ومفاوضات الايقاد وشركائها في نيروبي بكينيا، وبعد ان تعثر التنسيق بين المبادرتين المصرية - الليبية والايقاد. وباعتبار ان الرئيس اسياس هو الاقدر على التفاهم مع قرنق بحكم وجود قوات قرنق العاملة في اريتريا أو وجودها على الحدود الاريترية -الأثيوبية. ولا يوازي اسياس من حيث الأهمية الاستراتيجية لقرنق سوى الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني حيث تعتبر الأراضي اليوغندية مدخلاً لوجستياً لقوات قرنق العاملة في الجنوب.
وذلك بعد فقدان قوات قرنق لموطئ قدمها في أثيوبيا ومشروع أثيوبيا في التنسيق والتكامل بين ولاياتها الغربية وولايات السودان الشرقية المحاذية لها. وبلغ التنسيق بين أثيوبيا والسودان قمته حين اجتمع 15 وزيراً أثيوبياً مع نظرائهم السودانيين بعد تشكيلهم لجنة وزارية سودانية - أثيوبية مشتركة ولمدة ثلاثة أيام متتالية بدءاً من 3 آذار مارس 2000، وانتهت الاجتماعات بالتنسبق في الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاعلامية ومسائل الحدود وربما كان هناك ما يتعلق بالجوانب الأمنية والعسكرية، خصوصاً وأن الحرب الثانية بين أثيوبيا واريتريا والتي اندلعت فعلاً بعد شهر من ذلك كانت على الأبواب.
اذاً طلبت من الرئيس الأريتري اسياس افورقي ان يتولى ملف الجنوب مع النظر الى الطرح الكونفيديرالي في اطار وحدة السودان ومع اقناع قرنق بسحب قواته العاملة في شرق السودان بقيادة باغان آموم وهي القوات الفعلية الناشطة هناك والتي يزيد تعدادها على سبعة آلاف مقاتل مزودة بأسلحة ثقيلة ومتوسطة وخفيفة.
كنت اقايض سحب قوات قرنق من شرق السودان وتحقيق السلام الشامل بين الشمال والجنوب بالكونفيديرالية وبمواصفاتها التي شرحتها. واعتبرت أن تولي الرئيس افورقي لملف الجنوب مع سحب قوات قرنق من الجبهة الشرقية يشكل أيضاً مدخلاً لتسوية الأزمات العالقة بين السودان واريتريا. وسبق لي ان بدأت بهذا الجهد منذ مطلع شباط 1997 انظر صحيفة "الحياة" - الصفحة الأولى - عنوان رئيسي - الخرطوم تقبل وساطة مع أسمرا والمعارضة يتولاها مستشار سوداني لأفورقي - عدد 12410 - تاريخ 19 شباط 1997 الموافق 12 شوال 1417 ه.
غير ان تلك الوساطة اجهضت وقتها نتيجة ضغوط أميركية وأثيوبية على اريتريا من جهة ونتيجة تحرك المنظمة المتطرفة القابضة على النظام السوداني من جهة اخرى، وكانت مبادرتي تلك فردية استجاب لها الرئيس افورقي ولكنه لم يستطع ان يتبناها رسمياً وعلناً الا ان تثبت جدواها فقد كان يحذرني من عدم صدقية النظام السوداني.
المهم انه في اجتماعي به بتاريخ 25 نيسان 2000 فقد وافق على تولي ملف جنوب السودان فيما اذا وافق الرئيس السوداني البشير على ذلك.
ثم طلبت من الرئيس افورقي ان يتولى الرئيس البشير في المقابل ملف العلاقات المتوترة بين اريتريا واثيوبيا، ووافق الرئيس الاريتري على ذلك.
ثم طلبت وبإلحاح من الرئيس الاريتري ان تتم تسوية العلاقات السودانية - الاريترية في إطار تنسيق وتكامل استراتيجي بين البلدين، وليس مجرد التفاوض المجزأ حول الملفات الأمنية وغيرها، وأن ينتهي البلدان لتكوين هيئة عليا ومشتركة تحت اشراف الرئيسين مباشرة لتشرف على التكامل الاستراتيجي بين البلدين.
ولم يكن الرئيس أفورقي ولا أنا ننظر وقتها الى هذه الطروحات لمقابلة تطور التنسيق بين السودان وأثيوبيا بما في ذلك اتفاق السودان مع أثيوبيا لمنحها تسهيلات في ميناء بورتسودان.
مباشرة حملت نتائج الاجتماع مع الاريتري الى السفير السوداني في اسمرا محجوب الباشا في اجتماع مع أعضاء سفارته بتاريخ 26 نيسان 2000 وأبلغت الخرطوم بما تم من تفاهم، غير ان الخرطوم طلبت ما لا ينبغي ان يُطلب وذلك تحت ضغوط أطراف راهنت على تنسيق سوداني - أثيوبي ضد اريتريا، خصوصاً وان نذر الحرب الاريترية - الاثيوبية كانت على الأبواب. والمطلوب كان رسالة من افورقي تحمل هذه المقترحات مما اعتبره أمراً مهيناً خصوصاً وأننا في مرحلة تفاوض بشأنها ومما يفسر من ناحية أخرى أن الرئيس افورقي يستجدي السودان من موقع الضعف تحت طائلة تهديدات الحرب مع أثيوبيا.
قد تكررت للمرة الثانية متاعب وساطتي مطلع 1997، ومع ذلك ومن دون رسالة رسمية استقبلتني الخرطوم التي وصلتها بتاريخ 22 ايار 2000 متزامناً مع اندلاع الحرب الاريترية - الأثيوبية، فاعددت مذكرة اضافية للرئيس السوداني ارسلتها اليه بتاريخ 25 أيار 2000 الموافق 19 صفر 1421 ه، ولكني فوجئت بأن المذكرة تلك غيبت في دهاليز القصر وان عنصر المراهنة على التنسيق مع أثيوبيا تغلب على مهمتي وحيل بيني وبين مقابلة الرئيس، ولم اتهم وما زلت سوى النائب الأول للرئيس علي عثمان محمد طه، فهو وراء اجهاض العلاقات مع اريتريا، وهو وراء اجهاض الملتقى التحضيري للوفاق الوطني، وهو وراء تكريس احادية النظام وشمولية حزب المؤتمر الوطني الحاكم. فماذا كان بيدي ان أفعل أكثر من ذلك؟
لهذا غادرت الخرطوم في 26 تشرين الأول 2000 وكرست نفسي لعقد "مؤتمر القرن الافريقي للدراسات المتكاملة والسلام"، وإعداد ملفاته ووثائقه على رغم العصي التي يضعها كثيرون في دولاب هذا المؤتمر.
وسيكون هذا المؤتمر، بإذن الله، سانحة لكل مثقفي القرن الافريقي ليطرحوا بوضوح رؤاهم لأنظمتهم وليحددوا منطلقات المستقبل وليتكامل هذا القرن مع دول حوض النيل وعلى رأسها مصر ودول البحر الأحمر وعلى رأسها السعودية واليمن.
وكم كنت أود ان يعقد هذا المؤتمر في السودان ولكنها أيضاً المنظمة داخل النظام وضغوط أطراف عربية تنظر للقرن الافريقي كنظرتها لكونفيديرالية الجنوب السوداني.
* سياسي ومفكر سوداني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.