في كل مراحل التجريد والتغيير والثورة في الشعر تظهر ريادات، فردية أو جماعية المدارس والاتجاهات كالرومانسية والرمزية والسوريالية... وهي من العلامات الجيدة... لا سيما بين الأحفاد والآباء والأجداد... أو بين الإرث والورثة. بودلير، رمبو، لو تريامون، مالرمه كانوا رواداً، وهناك من ورثهم وما زال حتى الآن من فرنسيين وغير فرنسيين. عندنا أيضاً، وفي المنعطفات الكبيرة في الشعر برز رواد: خليل مطران، أحمد شوقي، سعيد عقل، أنسي الحاج، جبران خليل جبران، الياس أبو شبكة، محمد الماغوط، كل من هؤلاء، شكل ريادة ما في مرحلة ما باضافة شيء ما، او بابتكار خط ما، أو بتغيير منعطف ما. وهنا لا بد من اشارة ولو عابرة: ان معظم هذه الريادات كان خلفها ريادات عربية قديمة أو غربية. أي اننا ورثة ريادات وهذا شيء طبيعي، إلا اذا كانت ريادة هذا الرائد مجرد "سرقة" أو استنساخ لسواه، وعندها تكون استتباعاً مموهاً. لكن المشكلة ان فكرة الريادة التي نراها حيوية ينكرها روادنا العرب ويعترف بها بقوة الأجانب. هل تجرؤ على القول مثلاً ان هذا الرائد تأثر برائد أو بشاعر سواه، ولو كان التأثر بلغ حد السرقة؟ سرقة التجارب والتنظير والأفكار الحداثوية مثلاً! عليك، ولكي يرضى عنك بعض الرواد أن تقول ان كل واحد منهم وليد ذاته. هكذا "بلا حبل ولا دنس". فهؤلاء "أوديبيون" بامتياز. سفحوا آباءهم، ولا يتورعون عن سفح أبنائهم أو أحفادهم: لا يعترفون بشاعر إلا اذا عينوه نفراً في فيالقهم وكتائبهم، أو سمساراً لعلاقاتهم العامة، أو رائداً "تجارياً" لرياداتهم. أي انهم ينفون من قبلهم ومن بعدهم. وهم عندما ينكرون تأثراتهم، انما ينفون فكرة الجديد. وجديدهم بالذات. ويحرضون من باب الأنانية والغرور الأعمى على أن ينفيهم من يجيء بعدهم عبر احتذائهم كنموذج نظيف متجاوز "يعترف بالآخر" في كل "كتاباته". وهكذا يصبحون عبر تجمدهم في ريادة "تاريخية"، وتكريس اجتماعي سائد، "رواداً" سابقين لكتابات سابقة، بل يصبحون "عقبات" وسدوداً في وجه كل جديد. يصبحون ألقاباً ممددة وسط الطرق والمنافذ. يصبحون رواداً موتى لأنهم اكتفوا بريادة مرحلية وباستكراس عقيم، ويصبح الشعر عندهم وسيلة اجتماعية أكثر مما يبقى حاجة وجودية وابداعية. انهم حمائم كان تحلق ذات يوم وإن بأجنحة سواها، وصارت ببغاءات نرجسياتها وذواتها. شيء حزين ان يسقط بعض هؤلاء. والأحزن انهم كلما أمعنوا في السقوط شعرياً توهموا انهم "طالعون" بالمنظار الاجتماعي والرسمي وب"النجاحات" المبنية على العلاقات. نحن مثلاً، معظم جيلي السبعينات والثمانينات، حملنا "روادنا" على أكتافنا وفي قلوبنا. بعضنا من موقع حرّ وشغوف بالشعر، وبعضنا الآخر من باب آخر. لكن في الحالين كنا أهم من قرأ شعرهم وتجاربهم وكرمهم ووضعهم في المكان الذي يستحق. لأننا اعترفنا برياداتهم، ولأننا نعرف ان الاستمرار المتجاوز والمتقدم جزء من الشعر نفسه، ولأننا نعرف ان لا قطع نهائياً في الشعر، ولا صفرَ ولا أصفارَ، بل خروج جوفي يحول مفردات الآخر ومناخاته لغة خاصة، وتجربة خاصة. وقد رأينا وما زلنا نرى أن فكرة الريادة هي فكرة القلق، والشعور بالنقصان، والتجريبية التي لا تنتهي، أي ان فكرة الريادة "نص" مجترح، ولكن أيضاً نص لا ينتهي في حدود معينة أو في مرحلة معينة، أو في لغة متجمدة، وهنا يمكن الكلام على تواصل متجدد، وهنا يمكن الكلام على أن الريادة تعني المستقبل، أولاً وأخيراً، كما تعني الماضي في قراءته الحاضرة... فماذا ينفع ان تقوم ريادة "نرجسية" متصحرة سابقة تحديداً بالغاء الماضي... والمستقبل. انها ريادة تآكلت... وانتفت، تشكل ريادة مريضة على "الأحفاد" أن يهجوها، لكي يحافظوا على نقاء شعرهم... وتجاربهم وتجريبياتهم. وانها ريادة النموذج الرديء... بل ريادة الموتى. شاعر لبناني.