إن مفهوم الريادة مفهوم خطر؛ لأنه يظل أحد الموجهات الثابتة في أي مجال من المجالات، فهل الرائد هو السابق زمنيًا لاجتراح الطريق، هل الرائد هو المكتشف؟؟ أو هل الرائد هو من قام بإنجاز قيمة كبرى في مجال ما لم يستطع أحد أن يقوم بما قام به، وظلت تلك القيمة ثابتة لا يمكن تجاوزها مع الزمن، أو هل الرائد من يجمع بين الأمرين أي السبق الزمني والقيمة المضافة الكبرى المنجزة؟ وهل يمكن القول: إن الريادة ذات صلة بالمكان كما هي ذات صلة بالزمان بمعنى أن من يكون رائدًا في مكان هو غير رائد في مكان آخر أو زمان آخر... وفي النهاية متى يصح إطلاق لقب «رائد» وهل صار هذا اللقب مجانيًا يجوز أن يطلق على أي كان.. فقط المطلوب هو إدخال الفرد في مصنع النجوم الخفي أو المعلن لصناعة رائد لأغراض خاصة... أقول هذا عن «الريادة» لأنني رأيت من يتخذ هذا المفهوم لا كمنطلق أو محدد لتطور المجال وتجاوز الريادة ذاتها، ولكن كتقديس ومبالغة في إعلاء من يضعهم روادًا، وهضمًا وتحقيرًا لكل منجز ظهر بعدهم، بل الأدهى أن البعض يتخذ من هذا المفهوم مفهومًا عنصريًا بوعي أو بدون وعي لإقصاء كل إنتاج في المجال يأتي بعد الرائد استعلاء عن الآخرين، وإيمانًا بالتقدم والسبق للرائد، وللبيئة أو للمكان الذي يعيش فيه ذلك الرائد، والأدهى أن تمتزج العنصرية بالنفعية والمحافظة على مكاسب دنيوية تتعلق بمنصب أو نفوذ أو مكانة يحرم منها الآخرون مهما كان نتاجهم متميزًا أو رائدًا ويبقى فيها كل من يمت للرائد المفترض أو المصنوع بوشيجة.. وما دام مفهوم الريادة هو مفهوم خطر لا يؤثر في النواحي الثقافية أو الأدبية فحسب بل في جميع النواحي الاجتماعية، فلا بد أن يحدد الناس من هم الرواد بينهم، ومن هم أدعياء الريادة، ومن هم المصنوعون ليكونوا روادًا وهم أبعد ما يكون عن الريادة... عند الرجوع لأصل مادة (راد) يبدو أن أصلها الحركة والبحث وعدم السكون، ولكنها اقترنت في المخيال العربي القديم بمن يتقدم أهله ليبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث، ومن أمثلة العرب التي تدل على السمات الدلالية لمن يفترض فيهم الريادة، بالإضافة إلى التقدم أو السبق الزمني قولهم: «الرائد لا يكذب أهله»، وقولهم «رجل رائد الوساد أو بات رائد الوساد» فالرائد إذن هو خبير وخبرته معروفة، وهو أهل للثقة وأمين، وهو يمتاز بحساسية زائدة عن الآخرين فلا يطمئن إذا أقلقه الهم على وساد حتى ينجز ما اهتم له، والرائد ذو صلة بمجتمعه إذا انفصمت فليس برائد حقًا ولن يجد من يرود لهم المستقبل... وانتقل لفظ الريادة ليعم كثيرًا من المجالات، ومنها الثقافة والأدب، وأصبحت سمة التقدم الزمني هي السمة الغالبة على من يطلق عليه رائد، ولو كان ما أتى به لا يمثل قيمة كبرى مضافة في مجاله، ولو أنه لم يثبت أنه قام بعمل عظيم من أجل نفع الناس وتقدمهم، فقط لأنه سبق زمنيًا، ومن هنا اقترنت الريادة بكبار السن لأنهم سبقوا غيرهم، رغم أن بعض كبار السن ليس لهم من فضيلة سوى فضيلة العمر وإجلال ذي الشيبة، وتداخلت مسألة الرائد في بعض جوانبها في مجتمعنا بالوجاهة الاجتماعية وبالنفوذ وبالمنصب لتصل أحيانًا إلى مفهوم يقصر الريادة على مكان دون مكان وعلى أسماء دون أسماء وعلى أزمنة دون أزمنة، ونتيجة لذلك فقد قام أولئك الرواد المزيفون بوعي أو بدون وعي- أقصد التزييف لأن اتجاهات المجتمع وأنساقه قد تصنع الإنسان على شاكلة ما لا يدري هو بها- قام أولئك بدفن الرواد الحقيقيين بوعي وبسبق إصرار وترصد... ولأجل ذلك ينبغي أن يعرف المثقف اللبيب أن مفهوم الريادة ليس مفهوما يرتبط بالتقدم الزمني أو السبق فقط، بل هو يحمل التميز في المجال، ويحمل القيمة الكبرى المضافة، ويحمل الصدق، ويحمل التضحية لنفع الناس من خلال مجال ما أي أنه يحمل إنسانية متميزة تقود الناس في مجال ما إلى مزيد من الإنسانية، ومزيد من التطور، لأجل ذلك قد يتتابع على مجال ما كالرواية مثلًا عدة أجيال تكتب فنًا لا فن فيه تكتب حكايات وقصصًا لا تلتزم فيها بمواضعات (الفني) لتزيد عليها أو لتؤسسها في أفق ما، ويأتي بعد تلك الأجيال الرائد الحقيقي أو مجموعة الرواد لذلك الفن الروائي، أما ما سبق فيمكن تسميته بما قبل الرواية في ذلك المجتمع وليس فيها ريادة أبدًا، بل هي محاولات تسبق ظهور الرواد، وهذا ما يتحقق في الأدب الحجازي، والأدب المعاصر له في بقية أنحاء المملكة العربية السعودية إلى السبعينيات الميلادية التسعينيات الهجرية فما هو إلا ما قبل الأدب، ولا قيمة له في ميزان الأدب، ولا ميزان الفن قد يكون له بعض القيمة كوثائق تأريخية لأحداث جرت، ولتأريخ مضى أما كأدب فقيمته قليلة جدًا ولا نكاد نظفر فيه بأديب رائد حقًا وهذا لا يعني أنه خلو من النصوص العظيمة بيد أنها نادرة جدًا. أما ما نتأسف له حقًا فهو استمرار الحركة الثقافية التي تقوم حول الريادات المصطنعة تحاول أن تصنع تأريخًا للريادة ليس لأجل الريادة ذاتها، بل لأجل تلك الحركة التي تهدف إلى مكاسب من وجاهة أو استئثار بمنصب أو نفوذ أو جاه أو على الأقل وصاية ثقافية وفكرية وأدبية مبالغ في حجمها.. مبالغ في قيمتها.. مبالغ في دورها الذي تظن أنها تقوم به أقول هذا برغم رفضي لأي وصاية مهما كان مستندها خصوصًا في مجال الثقافة والفكر والأدب... ولمن يجادل في مسألة الرواد خصوصًا من الأدباء أو المثقفين في الحجاز في بدايات الأدب في المملكة العربية السعودية أن يأتي برائد حقيقي تحققت فيه صفات الريادة كاملة، وأنا لا أشك في ريادة جزئية لرجل كعبدالجبار، وحمزة شحاتة، وأحمد السباعي على خلاف في اكتمال مفهوم الريادة عند هؤلاء إذ لم تتحقق عند بعضهم القيمة المضافة في المجال، وإنما نستطيع القول إنهم كادوا يصبحون روادا ولكن فتش عن جوقة الرواد الآخرين وهم ليسوا برواد أبدًا فتش لترى العجب العجاب... بقي القول إن الحركة الثقافية والأدبية كانت برمتها مصطنعة وإلا أين الجيل الثاني من أدباء الحجاز (لا أحد) كان الأدب في الحجاز في أغلبه مجرد تقليد بارد للمهجر أو لمصر أو للبنان.. كان ذلك الأدب بعيدا عن المجتمع لا يلمس همومه إلا لمامًا، وكان مشغولا بمعارك صغيرة وهمية، ولأجل ذلك فقد مات ذلك الأدب سريعًا لتبدأ مرحلة أخرى نبتت من عمق الأرض، وكاد يظهر رواد مكتملو الريادة، لولا أن أتت مرحلة اصطناع معركة الحداثة والصحوة لتشكل غشاء سميكًا أعمى بصر الكثير، وبقي القليل ممن كادت أن تتحقق فيهم سمات الريادة، والنهاية التي يريد أن يصل إليها هذا المقال هل أدبنا هو أدب بلا رواد والإجابة نعم إلا قليلا. وبعد فماذا يمكن أن يجده متصفح آخر كتاب حول أوهام الريادة التي لا ريادة فيها إذ يستمر حسين بافقيه في كتابه (ذاكرة الرواق وحلم المطبعة: أصول الثقافة الحديثة في مكةالمكرمة1101-1384ه= 1689-1964م) الصادر في عام2009 في تسويق تلك الأوهام ليس لشيء إلا لأنه لم يخرج منها، وحتى أقدم مقاربة لبعض أفكار هذا الكتاب أود أن أشير إلى عامل مهم جدًا أسهم في إجهاض اكتمال مفاهيم الريادة علاوة على مساعدته في ضعف المنجز الثقافي والأدبي عمومًا وذلك العامل يتمثل في اكتساح الأحداث السياسية والفكرية والإيديولوجية للمناخ الثقافي في هبات إعصارية سريعة، فما كادت حركة الثقافة تقوم قبل العهد السعودي حتى طرأت مرحلة جديدة هي مرحلة تأسيس المملكة العربية السعودية، وما كادت عملية إعادة ترتيب المفاهيم تبدأ حتى طرأت المشاريع المحروقة لمرحلة الحداثة والصحوة معًا، فهذا التعاقب السريع في مرحلة التأسيس أوجد حالة من اللا وعي والارتباك بما يدور في هذه الدوامة المتلاحقة من الأحداث الكبرى، وحين هدأت الأمور، وحين بدأت الأيديولوجيات بالنفخ في أبواقها جدت أحداث أخرى كان الاستعجال والمعارك الثقافية غير المكتملة هو طابعها مما أوجد حالة هي إلى الضعف أقرب منها إلى القوة، وهي إلى السطحية أقرب منها إلى العمق، وهي إلى التفكك أقرب منها إلى التماسك، وأظنها لما تزل إلى الآن... ولنبدأ بإهداء الكتاب إلى حراس الثقافة القديمة في مكة.. الواقفين على تخوم عصرها الحديث، فأي ثقافة يحرسون وكيف يحرسون !!، وأيضا فإن أي ثقافة لها حراس ليست بثقافة هي ضعيفة ستموت مهما حرسها الحراس، الثقافة إذا كانت قوية استغنت بقوتها، ومفردة (حراسة) تشير فيما تشير إلى شيء له علاقة بمفهوم الجيوش والشرطة والجنود، أي تشير إلى خوف وإلى عقل أمني، ولا تشير إلى عقل ثقافي، وهنا يأتي بافقيه في مقدمته ليقدم توصيفًا للثقافة الحديثة في مكة ويلمز طرفًا منها بالعلمانية... لأنها نقدت بعض علماء الدين والمنتسبين إليه، هل هذا العمل الفكري الصحي (في نظري) يساوي تمامًا مفهوم العلمانية، وهل العلمانية علمانية واحدة أو علمانيات متعددة، وهل لدينا علمانية أصلًا! وهل يريد حسين بافقيه بهذا الوصف أن يسر حسوًا في ارتغاء ! وتستمر شنشة عرفناها قبل ممن ولجوا الثقافة لأهداف بعيدة عن الثقافة وانتحلوا الأدب لمآرب أخرى! ولنقف وقفة ثانية عند هذا النص في مقدمة حسين بافقية «وإذا بي أعيد النظر في طرف مما آمنت به من أمر الثقافة في مكةالمكرمة، قبل نهضتها الحديثة، وعددت ذلك مقدمة لما سيأخذ به المثقفون المحدثون، ليس في مكةالمكرمة خاصة، ولكن في مدن الحجاز كافة». هنا نقف وجهًا لوجه أمام وهم الوصاية فحسين بافقيه في تأريخه لثقافة مكة إنما أرخ لثقافة المملكة العربية السعودية عمومًا متجاهلًا أي منفذ للثقافة سوى المنفذ الحجازي، وفي هذه الفقرة يتجلى الوهم كأوضح ما يكون، وهم الوصاية لأدباء الريادة التي لا ريادة بها، ووهم مدن الحجاز (مدن الحجاز) فقط التي ستتصل فيها الثقافة المحدثة، يا أخي بافقيه كان من المنتظر منك أن تكون باحثًا عن الحقيقة لا باحثًا لإثبات الوهم الذي تعيشه، نحن لم نر جيلًا ثانيًا لرواد الأدب في المنطقة الغربية أبدًا لقد مات جيل الرواد المزعوم وماتت معهم ريادتهم. يا أخي بافقيه كان من المنتظر منك أن تشير إلى الفضاء المكاني والزماني المجاور للحجاز، ودوره في الثقافة المحدثة مجرد إشارة لأن التجاور يحتم مثل هذه الإشارة فالحركة الأدبية بعد تأسيس المملكة العربية السعودية لم تبدأ بدايتها الحقة إلا مع جيل الحداثة الشعرية في المملكة وكان لتلك الحداثة أكثر من منفذ: منفذ من المنطقة الشرقية التي تأثرت بالعراق، ومنفذ المبتعثين الأكاديميين إلى الدول الغربية الذين عادوا في أواخر السبعينيات الهجرية، ومنفذ الصحافة الثقافية المتصلة بالبلدان العربية، ومنفذ بعض بقايا أدباء الحجاز الذين ساندوا حركة الحداثة، ويلفت النظر في جيل الحداثة رغم تصوراتها ومفاهيمها النخبوية أنها كانت محمولة على أكتاف أدباء ومثقفين من مختلف مناطق المملكة ولا يشكل الأدباء الذي ينتمون إلى المنطقة الغربية إلا قلة فيهم بل إن أشد معارضة لتلك الحركة كانت من إيديولوجيا الصحوة المصطنعة ومن فلول أوهام ريادة الأدب ووصاية المرحلة الحجازية الضعيفة والمجهضة التي تنظر إلى أدباء جدد تشكلوا من طينة هذه الأرض المباركة ومن كل أنحاء الوطن نظرية استعلائية مريضة. ولو قرأنا كتاب با فقيه قراءة عميقة وخاصة ما يومئ به إلى فجر النهضة الأدبية أو إلى الرواد لوجدناه يتفق معنا تمامًا في أن تلك الحركة هي حركة مقلدة لأدباء مصر والشام وليست حركة أصيلة ف(هوجة) محمد حسن عواد ص 356 وما «ظهر على كتابه (خواطر مصرحة) من رقة في الثقافة ولين في اللغة... فشأن عواد ورفقائه لم يكن ليختلف عما سنه العقاد والمازني في ثورتيهما بالثقافة والشعر...» كذا هو بالنص. إن الباحث الجاد هو الذي يحفر في موضوعه عميقًا، ويتخذ لنفسه منهجًا واضحًا قويًا غير المنهج التأريخي الذي اتبعه بافقيه وهو منهج عفا عليه الزمن يؤدي في الغالب إلى نتائج سطحية والذي دعاه إلى هذا المنهج هو وهم الوصاية والريادة والتميز في مدن الحجاز دون غيرها إننا نعيش مع كتابه هذا في عصر التأليف قبل خمسين سنة أو أكثر وليس عصر التأليف لزمننا هذا فمتي يستيقظ بافقيه من رقدته وينفض عنه غبار الأوهام، ويحاول أن يتثاقف مع أحدث مناهج التأليف، ومناهج تأريخ الأدب... ولنقف وقفتين أخريين مع كتاب بافقيه الأولى في نقله لنص طه حسين التالي «وأغرب من هذا أن دعوة إلى التجديد الفكري والأدبي قد ظهرت في الحجاز منذ أعوام بتأثير ما يكتبه المصريون والسوريون. وهذه الدعوة عنيفة جدًا، فهي ساخطة أشد السخط على كل قديم في الحجاز...». فلم يقف بافقيه وقفة تحليلية عند هذا النص الخطر لطه حسين، أتى به فقط في معرض الاستشهاد تأييدًا لرأيه، ونحن نظن أن هذا النص في ما يومئ إليه يومئ إلى ضعف الثقافة والأدب في الحجاز أكثر من قوتها، هي أولًا ثقافة مقلدة ثم إنها تأخذ البعد الشعاري الإيديولوجي الاعتناقي أكثر منها حركة ذات أصول قوية مستندة إلى أسس محلية في نقدها حتى وإن كان عنيفًا، هي تداري ضعفها بقوة صوتها، هي تريد أن تلحق بالركب تقليدا وتزيدًا دون أن تنظر إلى واقعها هي حركة فقاعية لا أصل لها تحلق في السماء وتنسى أقدامها التي تغرق في الوحل. ومن هنا فإن أدب تلك الحقبة التي صنعت فيها ريادات متوهمة هو أدب إلى التقليد وإلى الضعف أقرب ما يكون إلى الريادة، ولنعد لنتناول من نقر لهم (نحن) بشيء من الريادة غير المكتملة في الأدب والثقافة في تلك الفترة من خلال وقفة أخرى مع كتاب بافقيه الذي خلا من فهارس علمية مهمة لا يستغني عنها أي بحث خصوصًا البحث ذا المنزع التأريخي ففهارس المصطلحات وفهارس الأعلام على سبيل المثال لا وجود لها، فحمزة شحاتة يكاد يكون غائبًا في كتاب بافقيه على أنه من أكثر الأدباء الحجازيين قربًا إلى اكتمال الريادة...، وعلى الرغم من ذلك نجد معظم شعر حمزة شحاتة ضعيفًا جدًا سوى قصيدة أو قصيدتين، إضافة إلى اعترافه بأنه كان يقوم ببيع بعض قصائده، أما أحمد السباعي فيبدو أنه كان يسعى أن يسجل له التأريخ قيامه بأوليات في المسرح والقصة وغيرها لتتحقق فيه سيمياء الريادة، بيد أنه في (فكرة) يبدو ضعيفًا جدًا جدًا ولا يمكن أن يطلق على هذا العمل مسمى رواية أو قصة هي حكاية خالية من الأصالة ومن الفن بمقياس عصره في الشام ومصر. وثالثهم عبدالله عبدالجبار رغم تأسيسه للنقد المنهجي كما يقول بافقيه إلا أن ذلك التأسيس كان منقوعًا في (هوجة) القومية السائدة في ذلك الآن، وكان الرجل مستلبًا كل الاستلاب لها دون وعي يمكن أن يتجاوزها أو يتحاور معها ولو في إطارها، والأنكى أنه ألف كتابه التيارات في مصر، ودرسه في مصر، ولن نستطيع إلا ضمه مع النقاد المصريين في تلك الفترة إلا إذا اعتبرنا أديبًا كعبدالرحمن المنيف أديبًا سعوديًا 100%، فهل بقي للحجاز شيء من الريادة المتوهمة، وهل المنافذ التي جدت لدخول الأدب الحق مع أدباء الحداثة لولا اصطناع الصحوة التي أجهضت حلم ريادة حقيقي لها مكان في كتاب بافقيه لا إنما هو منفذ وهمي واحد «وأصبح الأدب الذي ولد في مكة (!!!) جاذبًا للجماء الغفير من الأدباء الذين نزلوا بساحتها من نواح مختلفة: من المدينةالمنورة، وجدة، والرياض، والقصيم، وجازان، وعسير، وأطراف القطيف والأحساء» أي سطحية وأي قفز على تحليل النصوص، وتحليل الخطاب، والتحليل الإبستمولوجي والتحليل الإناسي، والتفكيك، والتلقي، ونقد التأريخ، والنقد الفلسفي، والنقد الثقافي، والنظريات الحديثة في تأريخ الأدب كنظرية بناء النسق أو كنظرية تعدد الأنساق... إن القفز على الحقائق بجمل عامة كالتي يكتبها الفقيه لا قيمة لها في ميزان البحث والفكر والأدب... نحن في هذه المرحلة نحتاج إلى مؤرخين ونقاد ومفكرين مؤهلين بالمناهج الحديثة لدراسة حالتنا.. لدراسة ثقافتنا.. لدراسة أدبنا.. ولسنا في حاجة إلى أمثال هذه الكتب التي تسوق الأوهام القديمة في طبعات جديدة، ونحن في مختتم هذه المقالة - رغم قسوتها الرحيمة - نشارك الفلالي رأيه في مرصده، ونظن أن الحالة هي الحالة والوضع هو الوضع وإن بدأت بعض النجوم تسطع هنا أو هناك يقول الفلالي في مرصده: «وكما نجد في عالم المباني مداخن ومساكن، نجد في عالم الأدب والشعر ما يضارع تلك الحالة، وقد أسقط التاريخ كثيرًا من الأدباء المداخن ؛ لأن أدبهم لم يكن إلا دخانًا يتبدد في الهواء، ولا يمكن أن يستريح له الناس لأنه إذا تكاثف يخنق الأنفاس، وسيسقط التأريخ أكثر ممن أسقطهم في الماضي كلما تقدم الوعي». ولكن أنى للوعي أن يتقدم وقد رانت عليه كاسحات الوعي أو خانقات الوعي ما بين تسويق لأوهام الثقافة الضعيفة، وما بين إيديولوجيات مهنتها التي أتقنتها هي صنع أقفال الوعي، وما بين منتفعين من نسق القطيع كنسق يرسخ الجهل، ويضيق بالوعي، ويرفض الحوار، فعسى أن يحدث ربك بعد ذلك أمرًا. (*) أستاذ اللسانيات المشارك - جامعة الباحة