حظيت الدعوة التي وجهتها الحكومة الأميركية الى دول أميركا الشمالية لعقد إتفاق استراتيجي للتعاون في مجال الطاقة، بتأييد الحكومة الكندية بينما حرصت المكسيك على تجديد موقفها الرافض تخصيص صناعتها النفطية لكن المبادرة الأميركية التي أطلقها وزير الطاقة الجديد سبنسر أبراهام أثارت من التساؤلات أكثر مما قدمت من الاجابات إذ أن الدول الثلاث المعنية بها مباشرة ترتبط أصلاً بعلاقات تعاون وثيق، لاسيما في مجال الطاقة. وإكتسبت الدعوة الأميركية بعض الجدية بعد بحثها في إجتماع ثلاثي عقده وزير الطاقة الأميركي مع نظيريه المكسيكي أرنستو مارتينز ووزير المصادر الطبيعية الكندي رالف غوديل في مكسيكو سيتي الاسبوع الماضي. وأعلن أبراهام عقب الاجتماع التوصل إلى إتفاق للعمل على تطوير "استراتيجية شمولية للطاقة"، فيما تحدث غوديل لاحقاً عن تشكيل "مجموعة عمل" كلفت إعداد مسودة عمل تعرض على زعماء الدول الثلاث في إجتماع يعقد على هامش مؤتمر قمة الأميركيتين الذي يبدأ أعماله في كيبك كندا أواخر الشهر المقبل. وعلى رغم غموض المبادرة الأميركية إلا أن أبراهام سلط الضوء على جملة من النقاط المهمة في كلمة ألقاها أمام المؤتمر الوزاري الدوري لدول الأميركيتين الذي عُقد في العاصمة المكسيكية في الفترة نفسها إذ أكد لنظرائه من وزراء الطاقة أن الادارة الجديدة في واشنطن تعول كثيراً على الامكانات الضخمة المتاحة لتعميق التعاون الاقليمي الذي تراه أساساً جوهرياً لنجاح أي تعاون على نطاق أوسع لمواجهة "الزيادة الدراماتيكية المؤكدة في الطلب على الطاقة في الأميركتين والمناطق الأخرى من العالم". المصالح الشرق أوسطية وقال الوزير الأميركي: "يعتقد البعض وبسبب تقاليدينا السياسية وتاريخنا وسلوكنا في الماضي أنه عندما يتعلق الأمر بالطاقة والأمور الاقتصادية والاستراتيجية سننشد الدعم في المقام الأول لدى أصدقائنا الأوروبيين. ويعتبر البعض الآخر من المسلمات فكرة أن الولاياتالمتحدة ستركز بالضرورة على مصالحها الشرق أوسطية من واقع أن الشرق الأوسط الذي يملك إمكانات نفطية تجعله مورداً في المدى الطويل لا بد أن يلعب دوراً مهيمناً في سياستنا الدولية الخاصة بالطاقة". وإعتبر أبراهام الافتراضين كليهما خاطئين وأضاف: "نثمن بالتأكيد العلاقات الطيبة الطويلة الأجل التي بنيناها حول العالم لكن الادارة الأميركية الجديدة تعتزم إعطاء علاقاتها مع جيرانها في النصف الغربي من الكرة الأرضية أهمية موازية لعلاقاتها مع أي منطقة أخرى من العالم، وتنوي كذلك التأكيد على الامكانات الضخمة المتاحة لدعم التعاون الاقليمي وهي تنظر إلى المستقبل. ومن المهم التأكيد أيضاً على ضرورة أن نكون جميعاً مستعدين لمواجهة الزيادة الدراماتيكية المؤكدة التي سيسجلها الطلب على الطاقة في الأميركيتين والعالم". وبخلاف التأكيد الواضح على أهمية علاقات بلاده مع منتجي النفط في الشرق الأوسط، والخليجيين بشكل خاص، إلا أن الوزير الأميركي الذي التقى مسؤولين بارزين من "أوبك" قبل توجهه إلى مكسيكو سيتي في زيارته الخارجية الأولى منذ تسلمه منصبه الجديد لم يكشف عن أي اقتراحات عملية في شأن التعاون الاقليمي الذي سبق للرئيس جورج بوش الدعوة إليه في حملته الانتخابية في إطار العمل على إخراج الولاياتالمتحدة مما وصفه أزمة الطاقة التي تواجهها. ضمان أمن الطاقة وقال أبراهام: "يتمثل هدفنا في أن نبني مع جيراننا علاقات تساهم في ضمان أمن الطاقة المشترك لمنطقتنا وتوفير مصادر طاقة كافية وموثوقة وبأسعار مقبولة... ويدرك الرئيس بوش ليس فقط الحاجة إلى زيادة إمدادات الطاقة بل أيضاً الدور المهم الذي ستلعبه المنطقة في سياسة الطاقة لادارته ومنحني تخويلاً واضحاً للعمل في المقام الأول مع جيراننا لتلبية أهدافنا في ما يتعلق بالطاقة". لكن المراقبين استبعدوا إمكانات إتضاح طبيعة "التعاون الاقليمي" أو حتى استراتيجية التعاون التي ترغب واشنطن بإقامتها مع جارتيها المكسيكوكندا قبل استكمال صياغة استراتيجيتها الخاصة التي تعكف لجنة مؤلفة من نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الطاقة على درسها حالياً ويتوقع أن تصدر توصياتها في غضون شهرين كحد أدنى. وقال مسؤول في وزارة الطاقة رافق أبراهام في زيارته إلى المكسيك ل"الحياة" في هذا الشأن: "هناك حاليا بعض التعاون بين بلداننا الثلاثة ونحتاج إلى المزيد منه. وفي محادثاته مع نظيريه الكندي والمكسيكي ركز أبراهام على أن الولاياتالمتحدة تريد التعاون مع الدول الأخرى لكنها لا ترغب في فرض وجهة نظرها، تأكيداً لاحترام استقلالية بعضنا البعض. وهذا أمر مهم جداً إذ سيتيح لنا التركيز على العناصر المشتركة بيننا". وترتبط المكسيكوكندا بعلاقات تعاون قوية مع الولاياتالمتحدة في مجال الطاقة لا سيما بعد دخول إتفاق التبادل الحر نافتا حيز التطبيق عام 1994 وفي العام الماضي جاء البلدان في المرتبة الثانية والثالثة على التوالي بعد السعودية في تصدير النفط الخام إلى السوق الأميركية، وتصدر الولاياتالمتحدة كميات قليلة من الغاز الطبيعي إلى المكسيك لكنها تستورد نصف الانتاج الكندي وبمعدل 3.2 تريليون قدم مكعبة سنوياً، ما يعادل 14 في المئة من إجمالي الطلب الأميركي. وتلتزم كندا البنود المتعلقة بتجارة الطاقة في اتفاق نافتا الذي يحظر، إلا في حالات استثنائية ضيقة، فرض أي قيود على حرية تدفق الطاقة عبر حدود البلدين، ما أثار التساؤلات حول ما يمكن أن تجنيه صناعة النفط الكندية من إتفاق جديد محتمل لا سيما وأنها تصدر كامل فوائضها من الغاز الطبيعي والطاقة الكهربائية وحتى النفط الخام على رغم أنها تستورد كميات كبيرة منه من منتجين في الخليج وبحر الشمال ومناطق أخرى لتلبية الطلب في المقاطعات الكندية التي لا تنتج النفط مثل كيبك. وتواجه صناعة النفط الخام الكندية تعقيدات أكبر إذ بلغ متوسط إجمالي إنتاجها من الخامات الخفيفة والثقيلة والسوائل العام الماضي 1.6 مليون برميل وصدرت منها إلى السوق الأميركية نحو 1.3 مليون برميل يومياً ما اضطرها لاستيراد نحو 700 ألف برميل يومياً لتلبية الطلب المحلي الذي يدعمه أيضاً إنتاج يومي بمعدل 325 ألف برميل من النفط الصناعي المستخرج من حقول الرمال النفطية غرب كندا. حقول الرمال وتضع صناعة النفط الكندية آمالها المستقبلية في تطوير حقول الرمال النفطية في غرب كندا التي تحتاج إلى استثمارات تقدر بنحو 25 بليون دولار لزيادة الانتاج الحالي بنسبة 300 في المئة خلال العقدين المقبلين وتعول على دراسات تقدر حجم النفط الاصطناعي القابل للاستخراج من هذه الحقول بزهاء 300 بليون برميل مقارنة بإحتياط من النفط الخام التقليدي يراوح، حسب تقديرات عالمية، بين 4.9 و5.6 بليون برميل. وعلاوة على إجتذاب الاستثمارات تأمل كندا أيضاً في توفير فرص جديدة لشركاتها النفطية إذ أعلن وزير المصادر الطبيعية، الذي لقي حماساً ملحوظا إزاء استراتيجية التعاون المقترحة، نيته قيادة وفد ضخم من شركات الطاقة الكندية في جولة تجارية واستثمارية في المكسيك التي أعلنت أول من أمس منح إحدى الشركات الكندية عقداً بقيمة 270 مليون دولار لتطوير أحد حقول الغاز الطبيعي في شمال البلاد. لكن كندا التي أكملت تخصيص صناعتها النفطية والغازية بعد بيع الحكومة غالبية حصتها في الشركة الوطنية الضخمة "بتروكندا" في منتصف التسعينات وتعلن احياناً نيتها بيع حصصها الصغيرة في بعض المشاريع الانتاجية تتمتع باستثمارات أميركية وعالمية كبيرة. وتملك المكسيك ثاني أكبر إحتياط من النفط الخام في الأميركيتين بعد فنزويلا وقدر حجم إحتياطها العام الماضي حسب المصادر العالمية بنحو 28.3 بليون برميل مقارنة بنحو 22 بليون برميل في الولاياتالمتحدة كما تملك إحتياطاً من الغاز الطبيعي يقدر حالياً بزهاء 30 تريليون قدم مكعبة في ما تؤكد مصادر صناعة الغاز إحتمال إكتشاف كميات ضخمة تصل إلى 75 تريليون قدم في حقل "بيرغوس" الواقع شمال شرقي المكسيك. إلا أن المكسيك التي استعادت سيطرتها على ثروتها النفطية في أواخر الثلاثينات ومنحت شركتها الوطنية العملاقة حقوقاً حصرية في عمليات التنقيب والانتاج علاوة على منذ منتصف الخمسينات عمليات التكرير والتسويق فاجأت الولاياتالمتحدة عندما تخلى رئيسها الجديد فينست فوكس عن وعوده الانتخابية بطرح مسألة تخصيص صناعة النفط والغاز لنقاش وطني مفضلاً تحديث "بيمكس" التي حصلت منتصف الشهر الماضي على مجلس إدارة جديد تتألف غالبيته من الكوادر المخضرمة في صناعة النفط. ويعتقد مراقبون كنديون أن إدارة الرئيس بوش تدرك مدى حساسية مسألة التخصيص في المجتمع المكسيكي، ما يفسر تأكيدها عدم رغبتها في فرض وجهة نظرها.