يدور السؤال الثقافي المركزي، منذ بداية النهضة، حول معاني التقريب وأفقه وسبله ونجاحاته وفشله. والتقريب تقريبان: تقريب بين العقل اليوناني والنقل وهو وحدات المتأصِّل المكوّن من وحي وحديث ثم تقريب هذا التراث المركب من "المفصول" الغربي الراهن. والمتبصر بسياقات الأجوبة على اختلافها يجد ان نظام التقريب يقوم على الحؤول دون تصور المتأمِّل بذاته مجرداً من علاقته بالمفصول اليوناني أو الغربي الحديث الذي جعلته آلية التقريب "مأصولاً". وتبعاً لذلك يقفل هذا النظام المنافذ على المتأصّل ويستمر هو نفسه بالاستعانة بنظام اقفال يمنع المس به بما هو نظام ضروري وبديهي متفرع عن مبدأ التوحيد الذي يقوم الاسلام عليه. ولكن ماذا لو مسسنا بهذا النظام وبدل الانطلاق من السؤال حول كيفيات التقريب ومآله حاولنا صوغ سؤال منهجي يموّضعه في حقل التفكر التداولي بما هو سبيل ممكن واحتمال تاريخي، وليس ضرورة تكوينية لا تنفك عن مباني الاسلام الأصيلة: لماذا لجأ الفكر الاسلامي الى التقريب؟ يمس هذا السؤال بالتصور السائد لما يُسمّى بثنائية التراث الحداثة وهو يبدو متقدماً على الاسئلة التي تنطلق من بديهية التقريب وتنظر باساليبه. غير انه ما يزال غير دقيق. اذ الفكر التراثي لم يلجأ الى التقريب بل انه تقريب، بما هو فعل، يتعين بزمن السلطة الاسلامية التاريخية، أي بتكرار محاولاتها لتطويع لغة الوحي بابتداع نظم رمزية لغوية تحل مكانها وتخضعها وتعطل نظام الاعجاز القرآني الذي يمنع من فصل لغة التشريع عن التلاوة والتحكم بها... وذلك من دون ان تجهر بالخروج عليه. زمن التاريخ: التقريب والتكفير يبقى التقريب، من حيث جوهره، سعياً لتأصيل السلطة برد مفردات القول ووحدات الفعل في حقل التداول الى أصول جامعة لا يتطابق منطقها مع متحركيات لغة القرآن أو لا يتقايس بها... وسبق ان بيّنا في مواضع متعددة هذه المتحركيات وبعض هذه الأصول المتعيّنة بعقل التكليف المعتزلة حيث تضم الانساق الكلامية الله والانسان في حقل واحد يخضع لمنطق خطاب متناسق ولآليات تبادل بين التكاليف والالطاف تضبط بلغة صناعية جديدة، لغة قواعد تقوم بذاتها وتحكم حقل التداول وتحتل نواته، فيما لغة التشريع القرآنية تتخلى عن قوتها الفرضية وآمريتها الإلزامية كلما هجرت حقل التداول لتدخل في حقل التلاوة الذي يماسك الجماعة قبل أي قاعدة مفروضة أو أي تعاقد ابتدائي كونها تقوم بلغة الاعجاز التي لا تختصر بالتكاليف أو بالمقاصد التي انتجها عقل القوة الاشعرية ليخضع لغة التلاوة وكثافتها لغايات التشريع بعد ان تُخضع هي نفسها لنموذج الاخلاق الأرسطي لتصب اليوم في النظرة التداولية البراغماتية. غير أن هذا التأصيل المستمر، الملازم لتاريخ السلطة، أو الذي يرسم زمن تاريخها، لم يستطع انجاز مهمة الاقفال على الوحي وموضعته في أصل تاريخي أو تفكيك لغته من خلال تأويل الغايات الذي يفصل الدلالات عن الاستخدامات وتأويل الباطن الذي يبعد المعاني عن المباني. وظل التأصيل سلسلة من محاولات تطويعية دورية لم تفضِ الى تشكل أي أصل لغوي تشريعي جديد يستقل عن لغة الوحي أو يُجهر بنِيّة استيعابها. ومن هنا لا يكمن سر التفسخ وتشكل الفِرَق والنِحَلِ في اللجوء الى المفصول بل بعجز اللجؤ الى هذا المفصول اليوناني عن ارساء أصول جديدة راسخة لسلطة متأصلة. الا ان طبيعة هذا المفصول بما هو إرث لغوي رمزي أو "تركة يونانية" أكثر مما هو مخزون رمزي فعال يتدفق من حقل قوة تملك مقاديره مرجعيات سياسية عسكرية شرسة، كما هي حال الفكر الغربي اليوم، هي التي جعلت هذا الحقل التأصيلي السلطوي غير الناجز يتشكل في الماضي التاريخي، كثرات، ويقرب المفصول ويستخدم طاقته للاقفال على نظام الجماعة/ الاعجاز، محافظاً في الوقت نفسه على وحدة حقل رمزي قادر على ضبط خطوط التنازع بين الفرق على رغم بلوغ التنابذ أحياناً حد التكفير. سيادة الحاكم والحاق التراث من الوهم ان نظن أنَّ التقريب اليوم هو استكمالٌ لهذا التقريب التراثي التاريخي، وذلك لأن أنظمة الاقفال والتعطيل التي تخفيها الصورة الموهومة لحقل تداولي عام يجمع المفصول الغربي مع المأصول الاسلامي تبدلت تماماً بفعل تبدل الغرب الحديث وخروج سياقاتها ومبادئها على منطق الموروث اليوناني. إن اخفاء هذه "الخارجية" المستجدة هو الذي يؤمّن نوعاً من التواصل المزيّف للمبادرات التقريبية الاصلاحية الراهنة، والحال أنَّ المستجد اثر تشكل النسق الرمزي السياسي الحديث في الغرب دولة السيادة ومجتمعها المدني غيّر مجمل سياقات القول ومجاري الفعل وقنوات الوصل ونقاط الفصل وآليات التنازع والتسالم ومعايير الحد بين الخارج والداخل، وأعطى معاني جديدة للتقريب والتبعيد لا تتقايس مع تلك التي عرفها النظام التقريبي السابق. وحده افتراض التواصل بين اليونان والنسق "التنويري" هو الذي يؤمن عدم المس بهذه المقايسة الزائفة بين التقريبين وبالتالي شرعية تاريخية ظلت مهتزة أصلاً في تاريخ السلطة لدعاة التقريب الاصلاحيين الجدد. والواقع أنَّ النسق التنويري يعطل مثل هذه المقايسة كونه يتخطى محنة الالتزام بالوحي شكلاً وتطويعه فعلاً ويقطع مع التركة اليونانية ويستغني عن كل "مفصول" ويحكم سلفاً بدونيته. لا شيء أكثر من النقد المستند الى الفلسفة الكانطية يجمع بين هذه الأبعاد التنويرية الثلاثة التي لا تزال تشكل عناصر الحداثة ودعائمها وروحها. ألا ينطوي مشروع نقد العقل المجرد على تخطي الدوغمائية والنزاعات المذهبية المطبوعة "ببربرية" العصور القديمة؟ لم يكن ممكناً انجاز هذا التخطي الا بتجاوز ترجّح السلطة بين شرعية العدل الالهي أي ضرورة المرجعية السابقة لها وجودياً، وبين كونها مرجعية مؤصِّلة لذاتها، أي بين ما يمكن ان نسميه محنة التجاذب بين طلب السيادة والعمل على تأمين الشرعية، سيادة تجعل السلطة مستغنية عن الشرعية بما هي مرجعية نفسها. كان لا بد من المقصلة لتحرير الملكية من فكرة الشرعية لتولد السلطة التي تضع القواعد باسم هيئات لا تتماسك الا بسلطانها المجتمع السياسي والمجتمع المدني... وتصبح سريعاً مبدأ التقعيد وقاعدة كل مبدأ. انتهى التنازع والتجاذب بين "السلطان" و"البدوي" بتعبير كانط، ليظهر الحاكم على قوس النقد الكانطي. ولم يؤدِّ تحرر الحاكم النقدي والسياسي من أي قاعدة مسبقة أو سابقة لارادته الى حقل تنوع اللغات وتعايش الافعال كما قد يتراءى من القراءة ما بعد الحداثوية لكانط بل الى طغيان أو حدية مركز القواعد واحتلاله من قبل قوة متكثفة دوماً، أو ليس هذا ما يصلح تعريفاً للدولة الحديثة المحاطة بمجتمعها المدني؟ إن صرامة القواعد تأتي من كون القاعدة هي المبدأ والمبتغى وتُظهر الحداثة وكأنها اندفاعة لا تقاوم الى العمومية المطلقة. "اندفاعة الى تعميم الثقافة التي تسعى الطبيعة اليها في الجنس البشري" كانط، انها ثقافة يفترض ان تكون تبريداً للنزاعات بين الانيات الحرة على مستوى الافراد المنتمين الى المجتمع المدني، ثقافة الكفاءة أو الشطارة، وكذلك ثقافة السلم المدني والحوار على الصعيد العالمي. غير ان هذا المجتمع المدني بما هو استكمال لدولة السيادة لم يؤدِ الى السلم المدني خصوصاً على المستوى العالمي. والأهم هنا ان انعدام السلم على المستوى العالمي هو الذي يواجهنا بما هو عنف صادر عن آنية نابذة لا تقبل أي تقريب للتأصل الاسلامي ولا تتعامل مع ما ينتسب اليه من تراث الا لاستخدامه كنظام تحكم به وذلك بشحذ قدرته التعطيلية لنظام الاعجاز القرآني، وهي في جوهرها آنية سلطوية وليدة تخطي دورة السلطان البدوي بكسر الوحي والاستعلاء عليه واغلاق نظامه. ألم يكن استمرار ثنائية التراث الاسلامي وترحجه بين العقل والنقل ناتجاً عن استحالة انجاز هذا الكسر في الزمن الثقافي الاسلامي؟ إن هذا بالضبط ما يجعل انجذاب التراث الى الحداثة بمثابة تعلق التراث بمستقبله الذي لا يبلغه أبداً، وحصول الحداثة على غنيمة لا تقدر بثمن أي على نظام تعطيل جاهز قابل للتعديل والتكيف تستخدمه في مواجهة الخطر الأعظم الذي يتهددها وهو بروز الحاجة الى مسوّغ شرعي لسلطتها تطرح من جديد قابلية لغة الوحي المتعالية على أي مصدر انساني لتكون حلاً بمواجهة تحوّل السيادة العالمية الى طغيان قوة لا مثيل لها تأكل الثقافة وتهتك السلم العالمي. * استاذ الانثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية.