حك المصباح واطلاق "العفاريت" لا يحتاج الى براعة كبيرة، بيد ان اعادتها الى القمقم تبدو احياناً ضرباً من المستحيل في السياسة المعاصرة. وقد برهنت تجارب عدة على ان نظرية تحريك الأزمات والتحكم بها غالباً ما تظل مقصورة ضمن حدود اطلاق الشرر من دون ان يكون هناك تصور لكيفية اخماده ومنع انتشاره. ولعل أحداث افغانستان والصومال ويوغوسلافيا من الأمثلة الصارخة على ذلك، وثمة مناطق مرشحة لمواجهة مخاطر مماثلة، ومنها اوكرانيا التي تماثل في مساحتها فرنسا، ويسكنها ما يربو على 50 مليون نسمة. وطوال السنوات العشر التي اعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي كان الصراع في ثاني أكبر جمهورياته بعد روسيا محصوراً داخل النخب الحاكمة والمعارضة، لكنه بدأ ينتقل الى الشارع وشهدت العاصمة كييف خلال الايام الماضية اضطرابات عنيفة اشتبك خلالها المتظاهرون المطالبون باستقالة الرئيس ليونيد كوتشما مع رجال الشرطة. وكانت اوكرانيا التي منيت بكارثة تشيرنوبيل النووية عام 1986 اصيبت بعد ذلك ب"كوارث" اقتصادية وسياسية عدة، أدت الى انهيار البنى الاساسية وقيام هوة سحيقة بين الغالبية الساحقة من المواطنين وفئة صغيرة استولت على ممتلكات الدولة. وفي هذا السياق سار القادة الاوكرانيون على هدى نظرائهم الروس الا ان بلادهم، خلافاً لجارتها السلافية، لا تملك احتياطات من النفط والغاز وسائر الثروات الطبيعية، ما أدى الى استفحال الاوضاع المعيشية. وكما تجاهل الغرب نتائج "الاصلاحات" التي قادها حليفه بوريس يلتسن فإنه لم يعر التفاتاً للاوضاع المتردية في اوكرانيا طالما ظلت هذه سائرة في الركاب المعلوم، عارضة نفسها كحاجز عازل بين روسيا وأوروبا وممعنة في تحطيم ما تبقى من ميراث عسكري سوفياتي في البحر الاسود. الا ان الموقف أخذ يتغير في الآونة الأخيرة حينما بدأ الرئيس ليونيد كوتشما الذي أعياه انتظار الفرج من ناحية الغرب، يوجه أنظاره الى الشرق ويخطب ود موسكو التي لم تعد في عهد فلاديمير بوتين "تبصم" على كل ما ترسمه واشنطن. وكان لقاء الرئيسين كوتشما وبوتين الشهر الماضي اعتبر انطلاقة مهمة هدفها احياء التحالف التاريخي بين روسياواوكرانيا. ومثل هذا التحالف ستكون له أهمية بالغة على الصعيد الجيوسياسي اذ انه سيكون رداً مهماً على تمدد حلف الاطلسي، ويعطل مخططات انشاء مركز قوة مناوئ لروسيا داخل كومنولث الدول المستقلة. وكانت كييف تحديداً قادت عملية انشاء "غودام"، وهي رابطة ضمت الى جانب اوكرانيا نفسها كلاً من جورجيا واذربيجان واوزبكستان ومولدوفا. ودب الوهن في هذه المنظمة بعد تقارب اوزبكستان واذربيجان مع روسيا وانتصار الشيوعيين في مولدوفا على موجة المطالبة بالتقارب مع موسكو، واضطرار الرئيس الجورجي ادوارد شيفاردنادزه الى اعادة النظر في سياسة مجافاة الكرملين خوفاً من تبعاتها الاقتصادية. ورغم ان الاستياء في اوكرانيا يقوم على اسس موضوعية فإن قادة الاضطرابات الأخيرة حاولوا استثمار النقمة الشعبية لاغراض سياسية - انقلابية، بل ان زعيم المعارضة الكسندر موروزوف دعا صراحة الى "اسقاط السلطة التي تضع في طريقنا شرطة مسلحين". والارجح ان التحرك الأخير هو محاولة لتكرار التجربة التي اطاحت ميلوشيفيتش في بلغراد، الا ان المعارضة الاوكرانية سلكت سبيلاً عنفياً سافراً قد يعزز مواقع كوتشما بدلاً من هزها. وان استمرار المحاولات لإطلاق "عفاريت الغضب" في اوكرانيا سيكون محفوفاً بمخاطر كبيرة في دولة تملك ترسانة عسكرية ضخمة ومنشآت نووية كبرى. ولذا فإن الأزمة التي تفجرت بسهولة قد تستعصي على جهود التحكم بها وادارتها.