بين الوقت والوقت يُشهر "المجتمع المدني" على معانيه المتفرقة والمختلفة، سلاحاً سياسياً ماضياً على أعداء أو خصوم ليسوا أقل منه عدداً وتفرقاً واختلافاً. فإذا اقتصرت الاستعادة على العقد العاشر من القرن العشرين كانت فاتحة سيرة المجتمع المدني، العربية والمحلية، تظاهرات المغرب الشعبية الكبيرة تأييداً لصدام حسين. فأرخ بعض الكتّاب المغاربة - من العروبيين والناشطين في بلاد المشرق وصحافته وسياسته - أرخوا بتظاهرات الاحتجاج العارمة على حشد القوات الدولية، في أواخر صيف 1990، والتمهيد لإخراج القوات العراقية من الكويت، ما سموه "ولادة مجتمع مدني" في المغرب. ولم يُشكل على المؤرخين هؤلاء تواقت ولادة الوليد الجميل، والقوي النسب بالحرية والرشد الديموقراطيين، مع الانتصار لعدوان صريح ومدمر على شعب جار، وعلى هيئته السياسية وعمرانه. فالمجتمع المدني، على معنى شاع في مقالات عربية كثيرة أخذت من الليبرالية بطرف ومن الإسلام السياسي المنتقض بطرف، جُعل صنواً لحركات المعارضة الأهلية خصوصاً. ومعظم الحركات هذه صدر عن جماعات ضعيفة الصلة بالحياة السياسية الوطنية والعامة ولا تسهم في الحياة الاجتماعية إلا من طريق عددها الراجح وتحفظها الشديد عن أحوال الهيئة الاجتماعية المعاصرة كلها. وعلى هذا فليس خروج مئات الألوف من اهل المغرب - إنكاراً على التحالف الدولي حمايتَه لسوق النفط من تسلط قطب إقليمي ووصايتَه على دور عسكري وتسلح صاروخي وجرثومي وذري يغذيان اضطراباً مقيماً - إلا فصلاً جديداً من فصول "مناهضة الامبريالية". أما حمل هذا الفصل على المجتمع المدني، وليس على "حركة التحرر الوطني" التقليدية والمتعارَفة، فلا يعدم مسوغات. فعلى خلاف "حركات التحرر" لم يصدر التظاهر العريض عن طليعة مناضلة سرية ومحترفة، ولم ينقطع من الجسم الأهلي والوطني الكبير. فهو يصدق فيه وصفه ب"حركة المجتمع" على ما سمى أحد الأقطاب الجزائريين حزبه السياسي، وربما حركة المجتمع المسلم أو حركة الجماعة. ولا ترمي حركة الجماعة، ما أقامت على هذا الحال، إلى الاستيلاء على السلطة. فغايتها هي إثبات هويتها الجامعة والمستمرة. وذلك من طريق تداعي أجزائها، وتضامنها بعضها مع بعضها الآخر "بالحمى" والغليان، على ما جاء في الأثر، ومن طريق مسرحة التداعي والتضامن هذين على شاكلة شعائر. فخروج الجماعة "كلها"، على نحو تلبية النداء الى الصلاة الجامعة في المسجد الأعظم، إنما هو إعلان بيان عن مكافأتها نفسها، ولفظها من نفسها ونفيها منها الغريب عليها والدخيل والطفيلي والمندس... وهذا الحال مشتبه وملتبس. فهو ليس إعلان حرب على السلطة الوطنية ولا مبادرة الى قتالها. ويسع السلطة الوطنية، كان رأسها الحسن الثاني العاهل المغربي الراحل أم كان الحسين بن طلال العاهل الأردني الراحل أو السيد ياسر عرفات أو غيرهم، تصدر مثل التظاهر الأهلي العريض هذا ومشاطرته بعض ما يضمر وما يعلن من غير حرج. على ما حصل فعلاً. ولكن حركة الجماعة تدعو السلطة، من وجه آخر، الى الدخول في الجماعة، وإلى ترك "استعلائها" عليها، وانفصالها منها. فالدولة، على حسبان حركة الجماعة، نافلة وزائدة، واختصاصها في السياسة وبها اغتصاب واستيلاء مهما عدلت. والذين حملوا السيد صدام حسين على المحرِّر والفاتح معاً، شأنه هو نفسه، لم تشتبه عليهم أمورهم فوق اشتباهها الأصلي، وإن حملوا أمورهم على "الأمور" بإطلاق. فهو، على حسبانهم، ولم يصنع غير نفي الغريب والدخيل والطفيلي من الجماعة، والتمهيد لامتلاك أسباب القوة بواسطة إخراج الضعف والضعفاء من دار الجماعة. فمثال القوة أحد شرطيه كان على الدوام نفي الدخيل من المدينة - الحصن" أما شرطه الآخر فهو ضم البلدان المفتوحة الى الجماعة الأولى، وحماية النواة الأولى من دخول التغيير الاعتلال والضعف عليها جراء توسعها وضمها إليها من يوالونها. ويترجح أنصار الحاكم العراقي، ومعظمهم من دعاة الإسلام السياسي أو من "القوميين - الاجتماعيين"، بين هذين الشرطين. وهم يجمعون بينهما بتأويل الشرط الأول تأويلاً ذاتياً واستقلالياً وأخلاقياً "حق تقرير المصير"، وبتأويل الشرط الثاني الدمج والضم تأويلاً تاريخياً وسياسياً واقعياً. ويميل الأخذ "الإسلامي" بالمجتمع المدني الى المزج بين الشرطين والتأويلين، وإلى التنقل بينهما من غير حرج. فالتسويغ العملي هو الغالب والآمر. واقتضى هذا التسويغ حملَ سياسة "جبهة الإنقاذ الإسلامية" الجزائرية، قبل إعلان السلطة الجزائرية حلها، في أوائل 1993، ثم غداة هذا الحل وطوال نحو ثلاثة اعوام إلى أواخر 1995، اقتضى حملَ هذه السياسة على المجتمع المدني. ورُجع عن هذا الحمل في الظروف المعروفة التي نشرت على الملأ فظائع بعض قادة الجبهة المحليين والشبان، قبل انشقاقهم وتوجيههم جزءاً من سلاحهم الى إخوانهم "المعتدلين" أو السياسيين. ولكن ملابسات الحرب الأهلية الجزائرية، وأولها قطع العملية الانتخابية بعد تهددها الدولة وأجهزتها بالانشطار، دعت مراقبين غربيين وناشطين جزائريين وإسلاميين الى شفع "المجتمع المدني" بمفهوم آخر هو "الحيز العام" أو "الفضاء العام" أو "الفسحة العامة" بحسب ترجمة لا تقل تخميناً عن الأولى. فعزا خبراء الحركات الإسلامية السياسية - وهم نشأوا معها وكأن الحركات هذه والخبرة فيها على ميعاد - قوة الحركات الناشئة ليس إلى عامل قائم، قد يتحرَّى المراقب عن عمله وفعله، بل إلى غياب هذا العامل، وهو الحيز العام المفترض. فسمى الحيزُ العام، المفقود، الانتخابات البلديةَ المحلية، والانتخابات النيابيةَ أو البرلمانية العامة، والأحزابَ السياسية الكثيرة والمتنازعة، والصحافةَ الحرة و"الطيفية" الألوان، والجمعيات المهنية و"غير الحكومية" الحقوقية والإنسانية والبيئية. ولم ينكر بعض الإسلاميين ولا أنكر بعض الليبراليين التسمية، ولا التعليل الذي تخبئه تحت جناحها. فسكت الإسلاميون عن المصير الذي يضمرونه للحيز العام هذا إذا حملهم "المجتمع المدني" الى الحكم، وهو أي المصير الضم والإطفاء والسحق. وتلعثم الليبراليون في دعوتهم الدولة المتسلطة، وهي زادتها حرب الإسلاميين الأهلية تسلطاً، تلعثموا في دعوتهم الدولة الى التزام قيود القانون والقضاء المستقل في قمعها دعاة الحرب الأهلية. أما الدولة، على معنى جهاز الحكم، فلم تغفل عن ان طريقها الى الاستقرار الظاهر قد يقتضي مفاوضتها جناحاً من الحركات الإسلامية الأهلية، ومساومتها إياه على شراكة ضمنية وغير متكافئة: فيُترك شطر من التمثيل السياسي و"المعنوي" من دون السياسي الإداري والأمني، لمن يختارهم جناح هذه الحركات، ويُقضى ببعض المعايير الأهلية والتقليدية في بعض دوائر التشريع، لقاء صدوع معلن بشرعية جهاز الحكم وسلطته. وفي هذا السبيل يتولى جهاز الحكم التنديد بأطرافه وحواشيه "التقدمية" والعصرية، وبعضها ليبرالي، اضطراراً أو حقيقة ومصلحة. ولعل المزيج السياسي والفكري هذا، وإفضاءه الى تخليط مُعَمٍّ، قرينة واضحة وصارخة على فك الوقائع والأفكار من سياقاتها الاجتماعية وأطرها الثقافية. فلا تستقيم دلالة لها، والحال هذه، إلا على وجه مقايسة بعيدة ومضطربة. ويُجمع ما لا يستقيم جمعه مثل استيلاد المجتمع المدني من الانتصار لعدوان فاجر على شعب ومجتمع، أو نسبة الحيز العام الى جماعة معيارها الأرفع دمج وجوه العمران في تسلطها هي على المجتمع كله. وفي هذه الأحوال كلها ينكر على وجوه العمران المختلفة، وعلى أهلها، تحكيم معايير مستقلة ومختلفة في تدبير هذه الوجوه. فيساس الاقتصاد على مثال سياسة الجيش، ويُطلب من المودعين ما يطلب من المتطوعين الى العمل في جهاز أمني، ويفترض في التجار وأهل الصرافة ما يفترض في عقائديي الحزب الحاكم، ويتوقع من الجماعات الدينية والقومية الإجماع على تعريف واحد للمصلحة الوطنية... فمثال الجماعة الصوفية هو المثال الغالب على السياسة وثقافتها. وهو مثال لا يشترك في شيء مع مثال المجتمع المدني، وإحلاله المجتمع محل الجماعة، أو مع مثال الحيز العام، وهو يحل العلانية العامة والمشتركة وتداولها محل عصبية الجماعة "العضوية" وعبارتها وعبقريتها. والمقارنة مع تناول يورغين هابرماز، الألماني، لدائرة العلانية العامة والمشتركة، ووصفه وقائع تاريخها الأوروبي والبورجوازي، قد يسهم في جلاء ما اشتبه عن تسرع وسهو ونسيان. وهو قليل حتماً. * كاتب لبناني.