هناك من يقال له انت ملكي اكثر من الملك. هذه المقولة التي ربما خرجت من مسرحيات شكسبير غدت مثلاً يطلق على شخص بلغ في المغالاة حداً جعله متزمتاً حيال الأمور ومنطلقاً من هوى لا يحكمه منطق أو عقل او مراعاة ظرف او مكان. وابتلى الاسلام بمجموعات انتدبت نفسها للحديث عن الاسلام بصورة لا نعرفها، فهي فئات تجيز الغيلة، وتجيز سلب المجتمعات وتجيز سفك دماء المسلمين بحجة انهم كفرة. وهي افرطت في تكفير عباد الله لمجرد الاختلاف في الفروع وربما الاختلاف في النهج الذي تسلكه تلك الجماعات وتلك الفئات التي لا تقترب من جوهر الاسلام في شيء حتى غدت حملاً ثقيلاً على الاسلام والمسلمين، وصورت الاسلام لدى الآخر انه دين لا يحفل بمعارضيه ويسعى للقضاء على كل من يخالفه... هذه الصورة المغلوطة رفضها الاسلام منذ الدعوة الاولى للرسول صلى الله عليه وسلم، وأكدها القرآن الكريم في اكثر من موقع ... لكم دينكم ولي دين وقوله تعالى لا اكراه في الدين... وقد مثل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الاساس في دعوتهم لدينهم فلا يخرج قائد حتى يتم توصيته بألاّ يحرق شجراً ولا يزيل معبداً... اي لا تغيير في المكان. وعندما فتح المسلمون مصر لم يقدم الصحابي الجليل عمرو بن العاص على تحطيم المعابد الفرعونية، وعندما تحرك محمد القاسم للسند لم يحطم صنماً لبوذا او سواه... كل القادة المسلمين منهم من كان صحابياً او تابعياً لم يُحطم الصوامع او الكنائس او اماكن العبادات للديانات الاخرى وهم افضل منا وأعلم بالحلال من الحرام. فما تقوم به دولة طالبان من تحطيم معابد بوذية ليس لها خطر على الاسلام - كما افتى كثير من مسلمي هذه الامة وفي مقدمهم مفتى مصر والشيخ الدكتور يوسف القرضاوي - هذا الفعل يدخلنا مرة اخرى في ذهنية الآخرين اهل الكتاب او الصابئين او المجوس او البوذيين اننا نحمل كرهاً للبشرية ونسعى لتحطيم الآثار الانسانية بل اننا لا نقبل بأحد الا ان يكون مسلماً... في حين ان الرسول صلى الله عليه وسلم جاور يهودياً وترفق بمشركي قريش وتحبب لهم... وخصصت الزكاة فرعاً من فروعها الثمانية للمؤلفة قلوبهم... اين هؤلاء من ديننا؟ وقيام دولة طالبان بتحطيم الآثار البوذية حرك العالم مجتمعاً للوقوف في وجه الاسلام ممثلاً في دولة طالبان... أليست هناك قاعدة فقهية تقول: اذا كان في ازالة منكر احداث منكر اكبر منه يترك المنكر الاصغر. إن الزمن يتغير والمفاهيم تتغير، ويفقه التغيرات الظرفية والزمنية العلماء الكبار امثال الشافعي الذي غير فتواه التي افتى بها في العراق، عندما ذهب الى مصر حيث وجد الظرف مختلفاً والمحيط الدعوي مختلفاً ايضاً، فماذا عن عصرنا الراهن الذي يموج بالتداخلات والتحزبات والقوة التي تحكم العالم اليوم هي قوة المنطق والجلد على الحوارية وليس على الكلمات النارية التي تدعو الى فناء المعارضين واحراقهم بكفرهم... لم يعد الزمن زمن القوة. حتى الدولة التي تتمتع بنفوذ وقوة كاسحة تحرر قوتها عبر الحوار وعبر الغالبية وعبر وسائل تحاول ان تضفي على نفسها الشرعية من خلال تلك الوسائل... وفي مثل هذا الزمن الذي يحتفل بالآثار الانسانية ويعتبر اي اثر انساني في اي بلد ليس ملكاً للبلد الام وانما هو ملك لكل الانسانية يصبح مع هذا حمقاً ان تعادي العالم بحجة ان هذه التماثيل تمثل صوراً من صور الجاهلية. وحتى لو ذهبنا مع دولة طالبان الى ابعد مدى كون هذه الاصنام تعبد من غير الله كان الاجدر البدء في تثقيف هؤلاء العبدة والدخول معهم في توضيح وبيان عجز هذه الاصنام ان تنفع او تضر انساناً. إن مثل هذا التصرف الذي احدثته طالبان يجعل الآخرين يقولون إن المسلمين يسعون لحرق وتهشيم كل التراث الانساني، فلو وصلوا الى اوروبا لن يكون هناك اثر لأي ابداع انساني. اذ ستحرق لوحات فان غوخ وتُحطم اسطوانات موزارت ويلعن شكسبير ويُلغى مسرحه. بهذه العقلية وبالهلع من الاسلام والمسلمين يستقبلنا الآخرون. إن دولة طالبان ومثيلاتها التي تدعي الاسلام تمسك بالحرية معكوسة وتقذف بها عكس الاتجاه، ونحن الذين نتقبل الطعنات. كيف لمثل هذه الدولة ان تدعي انها تسعى لبناء الدولة الاسلامية النموذج وهي تمارس ابشع الصور الانسانية باسم الاسلام، فالمرأة لا تخرج إلا للقبر، ومن قال لا قيل له كافر... إن الاسلام دين المعاملة الحسنة وليس ديناً يسفك الدماء ويروع الآمنين. وإذا كانت دولة طالبان لجأت الى هذا بسبب كونها دولة معزولة، فهذا ليس هو الحل الأمثل لتحريك العالم من اجل قضية العزلة التي يعيشونها، فهناك منافذ سياسية يمكن الدخول منها... وإذا كان في عزل طالبان جهاد فعليهم ان يتأسوا بالرسول صلى الله عليه وسلم حين جرى عزله ومقاطعته في شعب علي عندما اجتمع عليه اهل مكة لا يشترون ولا يبيعون للمسلمين فمكث صابراً هو واصحابه حتى تحركت قوى من قريش لتمزيق وثيقة المعاهدة التي كتبها كفار قريش في عزله، وكان على دولة طالبان ان تتحرك باتجاه العالم الاسلامي للخروج من مأزق المقاطعة الدولية. حتى وإن كان لا رجاء يرجى من هذا التكتل الاسلامي فإن من الخير ان تظهر بمظهر المسلم الذي يحترم مقدسات الآخرين على ان تزيد من ويلات شعب يتلقى الصفعات المتتالية بتعنت حكام يسعون للسلطة في المقام الاول... وحرب افغانستان ليست ببعيدة، فقتال القادة الافغان وتخريب بلد لم ينجم عنهما سوى تجويع وتشريد شعب آمن وخلق مجازر طفح دمها ولا يزال يسيل... * كاتب سعودي.