التوسع في مفهوم فقه "الضرورة" و"سد الذرائع" من ضمن ما توسع فيه الفقه العباسي ورسخه، علاجا -نكوصيا في الغالب- للاختلال الاجتماعي. والعلاج النكوصي هو الذي يساعد على تحويل لحظات الاختلال الاجتماعية إلى قيم اجتماعية راسخة، فيشعر الأفراد بضآلة دورهم الاجتماعي في مكافحة الفساد والإفساد، وإنتاج الصلاح والإصلاح. ويعطي اللحظة الزمنية العابرة، حكما مستديما ثابتا مطلقا. فينسي الناس عبر الزمن أن هذا أوذاك من الفساد" جملة وتفصيلا وفروعا وأصلا، وأن إقرار العالم أو الإمام الفلاني له، إنما هو في ظل محيط ثقافي وسياق اجتماعي وحضاري وتقني ما، وأنه علاج لحالة اختلال اجتماعية، وأن أحوال الاختلال الاجتماعي ليست حتمية جبرية غيبية، بل هي كأحوال السلامة الاجتماعية، لكل منهما أسباب وأقدار اجتماعية كسبشية. ويتناقل الخلف عن السلف هذا الرأي أو ذاك، فيصبح قاعدة شرعية مسلمة، ينسبونه إلى الشريعة - التي نظروا إليها عبر نظارات آبائهم الروحيين من العلماء والفقهاء -، ويصفون أولئك السابقين بأنهم سلف صالح، أو أئمة يقتدى بهم، فيربطون الصلاح بمقياس سلفي ماضوي، يحدد فهم الشريعة بجيل عاش في أزمنة اختلال اجتماعي، وينسون أن ذالك السلف الصالح،-والتسمية الدقيقة هي السلفيون الصالحون، لأن أولئك السلفيين، كانوا يطلقون السلف الصالح على الصحابة السابقين، الذين هم نموذج الأسوة الحسنة المطلقة- عاش في إطار اجتماعي وسياسي، يصعب وصفه بالصلاح، وأن أفراد السلف الصالح، اضطروا إلى إنتاج أفكار وقيم قد تصلح لعصرهم، وأن من التقليد بل من الظلم لهم وللأجيال اللاحقة" تحويل الآني النسبي العابر، إلى علاج مطلق لكل زمان ومكان، من دون أن يلحظ المقلدون ظروف هذا الرأي وذاك، ومن دون أن يحسبوا ثمن فاتورة البلبلة الناتجة عن فقدان الاتساق المنهجي، في بناء منظومة فقهية ما. ثم يصكون على ذلك ختماً شرعياً، يحاط بتوهم الإجماع أو ادعائه، أو الخلط بين ما هو حكم شرعي قطعي ثابت، كنظام الصلاة، الذي يصبح الإجماع فيه معتبرا، وما هو متغير متحول، لأنه مرتبط بأحوال السكان، كجنس زكاة الفطر، الذي يصبح فيه الإجماع المعتبر مقيدا بعصر أو بقطر. ولا بد لنا اليوم من تجديد الرجوع إلى الكتاب والسنّة، من أجل مراعاة مقاصد الشريعة" لتصحيح مفهوم فقه الضرورة، كي لا يصبح التذرع بفقه الضرورة، تبريراً لتأصيل الانحراف في الفكر والفعل. ربط فقه الطب العلاجي بالوقائي إن فقه الضرورة المشروع، هو الذي يقدم وصفة الطب العلاجي للحالة الشاذة، على اعتبار أنها استثنائية عابرة، وفي ذهنه وصفة الطب الوقائي، من أن تنتج ثقافة حالات الاختلال، قيماً اجتماعية ثابتة. وهو الذي يقدم وصفة العلاج الفردي، مع وعي كامل بأبعاد احتمال تحول الشأن الفردي، إلى ظاهرة اجتماعية. أي أن يفطن رافع شعار التسامح في "ما عمت به البلوى" من نجاسة المستنقع، بأن ذلك التسامح لا التساهل -حين -يعفيه من أن يذهب وقته كله لتنظيف ملابسه" لا يعفيه من أن يشمر عن ساقيه، رافعا بنطاله أو ثوبه إلى ركبتيه، حتى يجتاز المستنقع والحضيض. بل يلزمه أن لا أن يسبل بنطاله وثوبه، كي لا يمتصا الأوشاب والأقذار، و يدعوه إلى أن يتوتر، حين يقع في الضرورة، ليتوثب إلى الخروج من الحضيض، ويدرك علاقة الضرورة الفردية، بالواقع الاجتماعي الرديء، لكي يدرك دوره الاجتماعي. لأن المجتمع إذا اطمأن إلى حياة الحضيض وأخلد إلى المستنقع، غزته جحافل الجراثيم والفيروسات والبكتريا، ووباء الملاريا، متسللة كالماء تحت التبن، فتنسل عبر ثوبه إلى جسده، حتى يتلاشى سراعاً ويهلك، فإباحة المحرم للضرورة" لا تعني استمرار الاستثناء من قاعدة العزيمة، سواء في الحال الفردية أو الجماعية. كيف تجلب المشقة التيسير؟ من أجل ذلك لا ينبغي الاطمئنان إلى استساغة مضغ الضرورة، عبر باب "المشقة تجلب التيسير"، لأن المشقة التي تجلب التيسير الحق، هي أن نعتبرها من التحدي الذي يلهمنا أساليب التصدي، للنهوض من التردي، عندها تصبح "الحاجة أم الاختراع". أما إذا مررنا الضرورة وبررناها بالمشقة"على المستوى الاجتماعي، ولم ننشئ فقهاً حيوياً عملياً، فإن حياتنا الاجتماعية والفردية" ستصبح مسلسلاً طويلاً من المشقات المترابطة، التي تفضي بنا إلى تراكم وتناسل الاعوجاج. وذلك أمر فظيع شنيع، وهو أفظع وأشنع، عندما يمرر ويبرر، في قميص ديني،لأن الدين - بهذا التحريف - يصبح مصدراً من مصادر إنتاج تراكمات ومضاعفات تجذر الاختلال الاجتماعي. ومن الكياسة الدينية، "تحمل أخف الضررين، وأدنى المفسدتين"، ولكن الكياسة تفضي-أيضا-إلى الوعي المستقبلي، بكيفية التدرج في الخروج من أخلاق البلادة واللامبالاة والوقوعية في الواقع، إلى النهوض المتدرج به درجة درجة. وهذا وذاك يشير إلى أهمية دراسة العلاقة بين الأعمال ونتائجها، ففقه الضرورة لا يمكن إطلاق عنانه، - مهما كان فردياً - من دون ضبط آثار خطواته، المتجسدة على المسرح الاجتماعي أيضا. فالأمور بنتائجها المتشخصة، وليست بمقاصدها المجردة في الطوية، والأمور بخواتيمها البعيدة المدى، وليست بأوائل نتائجها القريبة المدى، والأمور بغاياتها قبل وسائلها. والحكم الشرعي المعياري على الأعمال" إنما هو ببواطنها الكامنة، وبجواهرها المستمرة المستقرة. لا بأعراضها الآنية المؤقتة ولا مظاهرها الشكلية. فهذه المؤقتة والشكلية تدرك بالعفوية والتلقائية،والانطباع الشخصي العابر. ولكن تلك الجواهر الثابتة"لا تدرك إلا بالتأمل والتجربة الميدانية، من خلال الميدان الاجتماعي، وتحليل الظواهر التاريخية. وفقه الضرورة إذا انبت عن فقه مقاصد الشريعة، وإذا انفك من فقه السياق الاجتماعي، أسهم فى إطالة ليل التخلف والجمود. ونحن اليوم نعيش في أطلال حضارتنا الإسلامية السالفة، في عهد انحدار وسقوط، وهزيمة مادية ومعنوية. ولن تنهض بنا نظريات الضرورة وسد أبواب الذرائع" عندما تستخدم استخداماً دفاعياً نكوصياً هروبياً، أو تستخدم استخداماً سائباً من دون روح نهوضية، لأنها قد تطأطئ أعناقنا، عندما تشرئب إلى دورة حضارة إسلامية ثانية، فيصبح الانحناء عاهات مستديمة، نتوارثها عبر الجينات التربوية، من الآباء والأجداد، ونورثها الأولاد والأحفاد. أجل لنظرية فقه الضرورة، حاجة أكيدة ونحن في مرحلة انتقال الأجيال، من حال إلى حال، وفي رحلة الصعود من الهاوية إلى القمة، ولكنها الضرورة المنبثقة من وعي منهجي بالتحديات، ومن قدرة على ابتكار أدوات النقلة فوق الجسر، من الواقع الرديء إلى الواقع الجيد. فقه الخروج من المستنقع، يلهم الوعي بفقه القنطرة. فنحتاج إذن إلى بناء فقه النهوض، وهو فقه يختلف عن فقه العزيمة المعياري الثابت، ويختلف أيضا عن المفهوم العباسي، للضرورة والرخصة كثيرا، لأن له ضابطا، يوازن الجمع بين العفو عن قدر ما من نجاسة الثوب، مع تشمير البنطال إلى الساقين، ومع الجري للخروج من المستنقع، فهو مرتبط بالإدراك الواعي بكيفية الخروج من المستنقع. نحتاج إلى فقه النقلة من الهوة إلى القمة. نحتاج إلى فقه العبور فوق الجسور، وإلى فقه الخروج من الركود والتبعية.أما الفقه الذي يعلمنا إيلاف الهوة والمستنقع، والأنس بحياة الاختلال والتخلف الاجتماعي، ومؤشراته المدنية والمعرفية والتقنية" فهو تأويل للشريعة ، وضرب لمقاصدها العظمى، مهما تذرع به منتجوه، وحشدوا من النصوص. كيف أصبح الفقه العباسي مرجعية معيارية؟ غير قليل من الناس، قد يستمدون علاجاً للاختلال من خلال مزج معيار الضرورة مع معيار المصالح المرسلة، على أساس أن ما أوصل إلى الحق فهو حق، وعلى أساس أن ما أصلح الناس فهو من الشريعة. وعلى ذلك استسساغ الناس مضغ فظائع من الأفكار التي تهدم السلام والتعايش في الأمة، كقول بعض الفقهاء العباسيين بأنه يجوز قتل ثلثي الناس من أجل صلاح الثلث الباقي،وهو إدٌّمن المنكر عظيم، ومثل تساهل منظومة الفقه العباسي، في حقوق الإنسان عموماً، كالقول بقتل دعاة البدع، وقمع أهل البدع، والغلو في التكفير. وفي حقوق المتهم خصوصاً، كتسويغ بعض الفقهاء تعذيب المتهم، محتجين بفساد الناس، وغلبة الاحتيال عليهم. وهي منظومة مختلة أرادت علاج اختلال باختلال، فأنتجت تراكمات من القيم الثقافية والاجتماعية المريضة، التي مزقت النسيج الاجتماعي للأمة. وهي من الفقه المتخلف الذي أجمعت فرقنا الإسلامية القديمة-بكافة انتماءاتها- على ممارسته ومدارسته. لأن القول بأن ما أصلح الناس فإنما هو من الشريعة، قول ناقص" لأنه يحتوي على نصف الحقيقة. قد يؤول به بعض الناس قولاً لابن عقيل أو لابن القيم، أولغيرهما، أو يرددون به رأياً صريحاً لهما أو لغيرهما. ولكن-مع ما لهذين من فضل وعلم - فإن الحقيقة الشرعية هي التي ينبغي أن نسلم لها جميعا، لأنها أكبر منا جميعاً. فضابط الشريعة والطبيعة أو المصلحة، هو في معادلة شهيرة، بلورها علماء آخرون -كابن تيمية- بعبارتين مترابطتين: "المصلحة توجد حيث يوجد الشرع، والشرع يوجد حيث توجد المصلحة" فالنص على أن الشرع هو المصلحة ضروري، وإن لا شرع الناس بعقولهم البشرية القاصرة، ما يضاد مقاصد الشريعة، واعتبروا ذلك من الشريعة، ومرروا ذلك تحت تحريف لمعنى الحديث الشريف "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وكأن الدين شأن أخروي فحسب، لا علاقة له بالدنيا. وإذا لم يكن هناك وعي كلي مستقبلي بالأحوال الاجتماعية" توسع الناس في المصالح المرسلة والضرائر، وسد أبواب المفاسد، وفتح أبواب المنافع أيضا" فصاروا إلى "تشريع ما ليس بشرع"حسب عبارة ابن حجر في غير هذا السياق. ولا منجاة من هذا الانزلاق" إلا بفكر عملي تقدمي، يعلمنا كيف نخرج من ظلمة النفق خطوة خطوة، إلى ربوة العزة والكرامة، وهذا يتطلب شحناً مستمراً للهمم، وجلاءً للأبصار، كي ترى كيف يمكن الخروج لمعانقة الضوء، في نهاية النفق الطويل. وهذا يتطلب إدراك المسافة المتطاولة، بين الواقع وما فيه من إمكانات وتحديات، والصورة النموذجية المبتغاة. فالقناعة بالواقع الرديء، تدحرج الأمة إلى الوقوعية، فستخذى للتحدي الحضاري، فيزداد تخلفها الموروث من عصور الجمود، أو تذوب عبر الثقافة العلمانية الوافدة. فتفضي بها الرحلة في هذا الطريق أو ذاك أو هما معاً" إلى تعطيل الشريعة. والتشبث بتطبيق المستوى النموذجي المعياري للشريعة، في واقع رداءة واختلال" يؤدي إلى الارتطام بالصخور، فيفضي إلى العجز والشلل، وهذا يعني ترك الميدان، للثقافة العلمانية واللائكية الغالبة. ولابد إذن من الربط الفكري والعملي، بين الطب العلاجي والطب الوقائي. فالفقه كالعلاج ثلاثة أنواع: فقه مسكن موقت للآلام، كالنوفلجين والأسبرين، وفقه علاجي فردي يبيد الفيروس الذي ينهش الجسد، وهناك طب أهم وأولى، على المدى البعيد، هو الطب الوقائي، وهو يختلف عن العلاجي. فالعلاجي سلبي موضعي فردي موقت، والوقائي إيجابي شامل جماعي دائم. والطب الوقائي، هو الذي يقوي المنعة الفردية والاجتماعية. وبالجمع بين الطبين، يتحقق درء المفاسد وجلب المنافع معاً، وذلك يتحقق عندما يدرك الطبيب المعالج، أهمية إرشاد المرضى إلى أسباب الوباء، كي يتوقوها في المستقبل، فيلعقوا ملاعق وقاية، وتلك خير لهم من أطنان العلاج. * كاتب سعودي.