كانت تلك خلاصة ما ذكرته كتب مؤرخي الرومان المعاصرين للأحداث، أو التالين لهم بزمن قصير. وهي قصة يمكن الوثوق بمعالمها الرئيسية بسبب مواضيعها الواضحة وتعاطفها الى حد كبير مع زنوبيا على رغم تهديدها لوحدة الدولة الرومانية، بالاضافة الى قرب عهد المؤرخين بفترة حكمها. غير أن الدهشة العظيمة تعترينا متى انتقلنا من تلك الروايات الرومانية للقصة الى الروايات العربية لها، وهي التي حفظناها في المدارس، وعدنا نقرأها في كتب المؤرخين والأدباء العرب وكتب الأمثال العربية، والتي تختلف أعظم الاختلاف عن الرواية الرومانية. وتزداد دهشتنا، ليس فقط لأن صورة المرأة فيها صورة غير كريمة، وإنما أيضاً لأنها لا تكاد تذكر حروبها مع الرومان أو تورد اسم قاهرها وآسرها الامبراطور اوريليان، وتورد بدلاً من ذلك عن نهايتها قصة غريبة لا أساس لها من التاريخ. ولسنا في حاجة الى ذكر قصة الزبّاء في كتب العرب تفصيلاً وهي ما يعرفه كل تلميذ عربي، غير أننا نلم مع ذلك في عجالة مختصرة بمعالمها استكمالاً للموضوع: فهي الزبّاء بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أُذينة بن السميدع، صاحبة تدمر وملكة الشام والجزيرة. وهي ملكة رومية تتكلم العربية، أمها يونانية من ذرية كليوباترا ملكة مصر، وليَتْ تدمر بعد مقتل أبيها على يد جذيمة الأبرش أول من استجمع له المُلك بأرض العراق وضم إليه العرب. وقررت الزباء أن تطلب بثأر أبيها فتغزو جذيمة. غير أن أختها ربيبة أقنعتها بأن تلجأ الى الحيلة بدلاً من الحرب، فتكتب الى جذيمة تدعوه الى الزواج منها فيضم مُلكها الى مُلكه، لأنها "لم تجد مُلك النساء إلا قُبحاً في السماع، وضعفاً في السلطان، ولم تجد لمُلكها ولا لنفسها كفواً غيره". فلما ورد على جذيمة كتابُها استشار أصحابه، فنصحوه بأن يسير إليها ويضم إليه مُلكها. غير أن رجلاً منهم يدعى قَصير بن سعد خالفهم فيما أشاروا به، ونصح جذيمة بأن يكتب الى الزباء "فإن كانت صادقة فلتأت إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك وقد وتَرْتها وقتلت أباها". فلما لم يوافق جذيمة على هذا الرأي قال قصير: "لا يُطاع لقصير رأي"، فذهبت مثلاً. واستخلف جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي على مُلكه، وسار في وجوه أصحابه، فاستقبلتهم رسل الزباء بالهدايا والألطاف وأحاطت بهم الخيول، حتى دخل على الزباء فأجلسته على نطع وأمرت بطست من ذهب، وسقته الخمر حتى أخذت منه مأخذها، ثم أمرت خدمها بقطع عرقين في باطن ذراعيه فقُطعا فمات. ووصل الخبر الى ابن أخته عمرو بن عدي فخلفه في المُلك، ونصحه قصير بن سعد أن يتهيأ لغزو تدمر. قال عمرو: "وكيف لي بها وهي أمنع من عُقاب الجو؟" فقال قصير: "إجدع أنفي، واضرب ظهري، ودعني وإياها"، فلما أبى، جدع قصير أنفه وجلد ظهره، وخرج الى الزباء وكأنه هارب من عمرو الذي فعل به ذلك ظناً منه بأنه غدر بخاله. فأكرمته الزباء ووثقت به. فلما اطمأن الى ذلك قال لها: "إن لي بالعراق أموالاً كثيرة ولي بها طرائف وعطراً. فابعثيني لأحمل مالي وأحمل اليك من طرائفها وصنوف ما يكون بها من التجارات"، فسرّحته. فسار حتى قدم العراق، وأتى عمرو بن عدي متخفياً وأخبره الخبر، وقال: "اجمع لي ثقات أصحابك وجُندك، وهيئ لهم الغرائر، واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين، فإذا دخلتُ مدينة الزباء خرجت الرجال من الغرائر فمن قاتلهم قاتلوه. واعلم أنها قد حفرت تحت عرشها سرداباً سرياً حتى تهرب عبره عند الخطر فتخرج من تحت نهر الفرات. وسأقيمك على باب سردابها الذي أطلعتني على مكانه بعد أن وثقت بي، فإن هي أقبلت تريده تصديت أنت لها وقتلتها". ففعل عمرو ما نصحه قصير به، ودخلت الإبل تدمر وكأنها تحمل أموال قصير وهداياه، فلما توسطتها خرج الرجال من الغرائر، ودل قصير عمراً على باب السرداب، فلما أرادت الزباء الهرب عبره أبصرت عمراً قائماً على بابه، فمصت سُماً كان في خاتمها وقالت: "بيدي لا بيد عمرو". محاولة تفسير الاختلاف في الروايتين كيف وقع إذن هذا الاختلاف العظيم في الروايتين؟ قلنا في بداية المقال إن بعض الكتاب العرب ممن اطلعوا على الرواية الرومانية واقتنعوا بصحتها، ذهبوا الى ترجيح ان تكون الروايتان خاصتين بامرأتين مختلفتين: الأولى اسمها نائلة ولقبها الزباء، وهي التي قتل جذيمة الأبرش أباها وقتلت نفسها بالسم. والثانية زينب المسماة عند الرومان زنوبيا، وهي التي قهرها الرومان وأسروها. غير أننا لا نجد في كتب التاريخ الموثقة ذكراً للأولى، ولا في كتب المؤرخين ذكراً للثانية. ثم إن المصادر الأرامية لحياة الثانية تشير إلى أن اسمها هو الزباءZabbai ، فهو إذن ليس باللقب القاصر على من أسموها نائلة. ونستطرد فنتساءل: لماذا كل هذا الحديث الطويل في الكتب العربية عن جذيمة الأبرش الذي تحققت جمهرة من المستشرقين من أنه شخصية أسطورية، ولماذا كل هذا الاهتمام من جانبهم بالزباء الأولى نائلة التي لم يذكر أحدُ لها عملاً جليلاً واحداً قامت به، ولا راعنا منها غير فُحشي في السلوك وبذاءة في الألفاظ، في حين أغفلوا تماماً انجازات الزباء الثانية وانتصاراتها وفتوحاتها وكأنما لم يكن لها أصل في التاريخ؟ أمَا كان تدويخها للفرس والرومان معاً، واستيلاؤها على شماليالعراق والشام وآسيا الصغرى ومصر مدعاة لفخر الكتاب العرب تفوق مبررات فخرهم بانتصار عربي محدود على الفرس العام 610م في موقعة ذي قار؟ ولماذا وصفوا الأولى بأنها "ملكة رومية تتكلم العربية"، وهي التي أسموها نائلة بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة، وأورد أبو الفرج في أغانيه أبياتاً من الشعر العربي قالتها؟ سأحاول هنا - وعلى استحياء - أن أورد حلاً لكل هذه المتناقضات والاختلافات في الروايتين أو جُلها، وهو حل مفتاحه في رأيي عبارة اشترك في ايرادها كل من مؤرخي الرومان ومؤرخي العرب، وهي "أن زنوبيا أو الزباء كانت تزعم أن أمها من نسل كليوباترا ملكة مصر". غير أني ابدأ بمقدمة لا بد منها: لقد كان للقُصّاص في الجاهلية، وربما أيضاً في القرن الأول بعد الهجرة، مقام مهم لا يقل كثيراً عن مقام الشاعر في سمر الليل، بين مضارب الخيام لقبائل البدو المتنقلة وفي مجالس أهل القرى والحضر، كانوا يستمدون قصصهم تارة من الأساطير والخرافات السائرة المتناقلة بين الأمم، وتارة أخرى من الأخبار والأحاديث التاريخية المأثورة عن العرب أنفسهم وعمن جاورهم. وكانت أحب القصص إلى نفوس السامعين أخبار أيام العرب أي حروبهم، ولم تكن ثمة في ذلك العصر بطبيعة الحال كتب أو أوراق قد سُجلت فيها تلك القصص، فيقرأ القصاص منها. وإنما هي قصص قديمة يتناقلها الرواةُ شفاهة جيلاً بعد جيل، كل يغير منها ومن أحداثها وشخصياتها بالحذف أو الإضافة، محتفلاً بعنصري التشويق والإثارة أكثر من احتفاله بالدقة التاريخية وصدق الرواية. فإن نحن أخذنا بعين الاعتبار أن أكثر من خمسمئة عام مرت قبل أن يُعنى المؤرخون والأدباء العرب بتدوين قصة الزباء كتابة، أمكننا ان نتخيل كيف تحولت الروايات الشفهية بمرور الوقت الى أساطير الأولين، وكيف صرنا إزاء وضع أشبه ما يكون بلُعبة "الهاتف المكسور" التي يبدأ فيها اللاعب الأول بأن يهمس في سرعة شديدة بخبر في أذن جاره، فينقل الجار همساً وبالسرعة نفسها في أذن ثالث ما وعاه من الخبر، وهكذا دواليك حتى يعود الخبر في النهاية، وبعد تنقله بين عشرات اللاعبين، الى اللاعب الأول صاحب الخبر، فإذا هو وقد أصابه ما أصابه من تحريف نضحك له، وتغيير رهيب في مضمون الخبر نعجب منه. ثمة ملاحظة مهمة أخرى أضيفها: فقد عرف العصر الجاهلي على مدى طويل مئات ومئات من الأمثال السائرة المشهورة كثيراً ما تشير إلى أحداث ووقائع معينة تنتمي الى زمن سحيق، ولكنها انطوت في زوايا النسيان. بيد أن الأدباء العرب الذين عنوا بجمع تلك الأمثال لم يترددوا أبداً، ولا هم توقفوا زمناً، من أجل التحقق من أصلها التاريخي، بل بادروا في جرأة عظيمة وثبات جأش ينسجون قصصاً من وحي خيالهم تُفسر الأمثال وملابساتها. وقد كان مسلكهم هذا تجاه الأمثال من جنس مسلكهم حيال أخبار العُشاق وأشعارهم. ذلك أن الناس أقبلوا في صدر الإسلام إقبالاً عظيماً على سماع الغناء ما دفع المغنين الى اصطناع ضروب من الشعر العذري والإباحي يغنون فيها، وكأن ثمة شعراء ينظمون لهم مثل هذا الشعر في الغزل، ثم ينسبون الى أهل البادية حيناً، وحيناً الى أهل الحاضرة. ثم كان أن نشأ القصص الغرامي كأثر من آثار هذا الغزل، إذ احتاج الناس الى تفسير للقصائد، والى وصل بعضها ببعض، فاخترعت القصص الغرامية من أجل إرضاء هذه الحاجة. وهو عكس ما يعتقده البعض من أن هذه القصص أنشئت بادئ ذي بدء لتسلية الناس، ثم نَحَل القصاص الشعر الغرامي على اختلاف ألوانه تحلية لقصصهم. يقول طه حسين في كتابه "حديث الأربعاء": "لسنا ننكر وجود جميل بن معمر، بل ولسنا ننكر أنه أحبّ بثينة، ولسنا ننكر وجود قيس بن ذَريح، بل ولسنا ننكر أنه تغزل في لُبنى. ولكننا نزعم أن هذه الأخبار التي تروى عن حب جميل وقيس لبثينة ولُبنى مصنوعة متكلفة في أكثر الأحيان، وأن تكلّفها أحدث الى جانب هذين الفنين الشعريين اللذين ذكرناهما فناً نثرياً جديداً، هو فن القصص الغرامي". ثم أدلف في النهاية الى دعواي الرئيسية في هذا المقال، وهي في ايجاز "أن سيرة الزباء في كتب العرب هي الصيغة أو الرواية العربية لقصة كليوباترا، بعد تنقّلها وتداولها شفاهة على مدى قرون طويلة، وأن الأصل في هذا الخلط بين المرأتين كان دعوى زنوبيا أن أمها هي من نسل الملكة المصرية". ولكن لنقرأ أولاً ما كتبه المسعودي في تاريخه "مروج الذهب" عن كليوباترا التي يسميها قلبطرة: "كانت حكيمة متفلسفة، مُقربة للعلماء ومعظمة للحكماء، ولها كتب مصنفة مترجمة باسمها منسوبة إليها. وهذه الملكة آخر ملوك اليونانيين الى أن انقضى مُلكهم وامّحت آثارهم. وكان لها خبر ظريف في موتها وقتلها لنفسها، كان لها زوج يقال له أنطونيوس مشارك لها في مُلك مقدونية وهي بلاد مصر من الاسكندرية وغيرها. فسار إليهم الثاني من ملوك الروم من بلاد رومية، وهو أغسطس. وكانت له حروب في الشام ومصر مع قلبطرة وزوجها انطونيوس، إلى أن قتله، ولم يكن لقلبطرة في دفع اغسطس عن مُلك مصر حيلة. وأراد أغسطس إعمال الحيلة فيها لعلمه بحكمتها، ثم بعدها يقتلها، فراسلها وعلمت مراده فيها وما قد وَتَرها به من قتل زوجها وجنودها. فطلبت نوعاً من الحيات اذا تمكنت من النظر الى عضو من أعضاء الانسان قفزت أذرعاً كثيرة كالرمح فلم تخطىء ذلك العضو بعينه حتى تتفُل عليه سُماً فتأتي عليه، فلما كان اليوم الذي علمت أن أغسطس يدخل قصرها، جلست على سرير مُلكها، ووضعت تاجها على رأسها، وقربت يدها من الإناء الذي فيه الحية، فَتَفَلَََتْ عليها". لقد كان العرب دائماً أكثر إلماماً ودراية واهتماماً بتاريخ الفرس وأنظمتهم وآدابهم منهم بتاريخ وأنظمة وآداب البيزنطيين، وكانت معرفتهم بالبيزنطيين الروم اقل ضحالة من معرفتهم بالفرنجة في غرب القارة الأوروبية ووسطها، وبتاريخ الرومان. ويكفي أن أورد هنا بقية قصة المسعودي في "مروج الذهب" كمثال لهذا الجهل بالتاريخ الروماني، يقول بعد حديثه عن انتحار كليوباترا وجاريتها الوفية: "انسابت الحية فدخلت في بعض الرياحين، ودخل اغسطس فنظر الى قلبطرة جالسة وهي ميّتة والتاج على رأسها. وأعجب بتلك الرياحين فتناول بعضها يشمها، فقفزت عليه تلك الحية ورمته بسمها، فيبس أي شُلّ شِقه الأيمن من ساعته، وذهب بصرُه الأيمن وسمعُه. فقال في ذلك شعراً بالرومية يذكر حاله وما نزل به. وأقام بعد ذلك يوماً ثم هلك، ولولا أن الحية كانت قد أفرغت سمها على الجارية ثم على قلبطرة لكان اغسطس قد هلك من ساعته ولم تمهله هذه المدة. وهذا الشعر معروف عند الروم الى هذه الغاية، يذكرونه في نوحهم، ويرثون به ملوكهم وموتاهم، وربما ذكروه في أغانيهم"! فالمعروف أن أغسطس ظل في مُلكه بعد مصرع كليوباترا أربعاً وأربعين سنة. وما من مصدر روماني واحد تحدث عن لدغ الحية إياه، أو عن شلله وفقدانه بصره الأيمن وسمعه. فمن أين إذن أتى المسعودي بهذه القصة العجيبة إن لم تكن قد وصلت عن طريق القصّاص العرب ممن يفضلون الطرافة على الدقة التاريخية؟ غير أنه لحسن الحظ، لم يورد ترجمة عربية لشعر اغسطس فيما اصابه، ولم يحذُ حذو ابن اسحاق الذي ضمن سيرته عن النبي قصيدة آدم الطويلة التي نظمها باللغة العربية بعد طرده وحوّاء من الجنة! والواضح مع ذلك أن قصة كيلوباترا، أيا كانت الصورة التي وصلت بها، لقيت عند العرب ما لقيته عند غيرهم من الأمم استحساناً وإقبالاً دفعاهم الى تناقلها وإعادة صوغها بعد الحذف والإضافة، وبعد إدماجها في قصة ملكة شهيرة أخرى زعمت أنها من نسلها، وهي زنوبيا. غير أن العرب ظلوا منذ الجاهلية وحتى قرننا العشرين لا يرتاحون الى نطق الاسماء الأجنبية، يخطئون في اللفظ بها ويخلطون بينها. لاحظ اسماء ملوك الفرنجة وقوادهم اثناء الحروب الصليبية كما وردت في كتابات المؤرخين العرب المعاصرين لها، أو كيف سَمّى المسعودي نيرون بتيزون. وقد دفعهم هذا الاستثقال للاسماء الأعجمية إلى إغفالها قدر الإمكان شأنهم مع فاليريان وكلوديس وأوريليان، بل وإلى إحلال شخصيات عربية محلها جذيمة الأبرش وقصير بن سعد وعمرو بن عدي. كذلك فإنه كانت قد وصلت الى أسماع العرب في الجاهلية مجموعة ضخمة من الأمثال قد طوى النسيان أصلها وملابساتها - كما سبق القول - فنسجوا حولها قصصاً وأساطير تفسرها. وفي رأيي أن قصة الزباء - وهي من أحفل القصص العربية بالأمثال - هي إحدى تلك الأساطير التي اخترعوها لتفسير حشد من الأمثال السائرة في الجاهلية. وهو أمر نشبهه بما يجري اليوم في مدارسنا، حين يكلف المدرس الصبية بكتابة فقرات أو قصص يستخدمون فيها الفاظاً وعبارات حددها لهم سلفاً: "شب عمرو عن الطوق" - "رأيٌ فاتر وغدر حاضر" - "لا يُطاع لقصير رأي" - "ببقَّة قُضي الأمر" - "خطْب يسير في خطْب كبير" - "دعوا دماً أضاعه أهلُه" - "لأمر ما جَدَعَ قصيرٌ أنفه" - "ما ضلّ من تجري به العصا" - "بيدي لا بيد عمرو" الى آخره. فتصوُّري إذن هو أن عملية الخلط والإدماج بين قصتي كليوباترا وسليلتها زنوبيا تمت على نحو قريب من التالي: كانت الاثنتان تتمتعان بجمال عظيم وعلم واسع، وتجيدان العديد من اللغات الأجنبية، كانت الأولى - على حد وصف المسعودي - مُقربة للعلماء ومعظمة للحكماء، وكان استاذ الثانية ومستشارها الفيلسوف الاغريقي لونغينوس. يقول المسعودي: إن كليوباترا ألفت كتباً منسوبة اليها. ويقول تريبوليوس بوليو: إن زنوبيا اعدّت بنفسها مختصراً لتاريخ شعوب الشرق. ويذكر التاريخ أن يوليوس قيصر قتل أخا كليوباترا بطليموس الثالث عشر بعد الانتصار عليه، وعند العرب ان جذيمة الأبرش قتل ابا الزباء بعد أن دحر جيشه. وبعد مقتل كل من قيصر وجذيمة غيلة وغدراً، تولّى المطالبة بثأر الأول ابن بنت اخته أوكتافيوس أغسطس قيصر، وتولى المطالبة بثأر الثاني ابن أخته عمرو بن عدي، بعد وصول كليهما الى الحكم. وعندما علمت كليوباترا باقتراب جيش أغسطس وخشيت بطشه بها وانتقامه منها، شيدت لنفسها بناء حشدت فيه أموالها وجواهرها وبعض وصيفاتها، وأخفت معالم السبيل اليها فيه، حتى اكتشفه بروكوليوس احد قواد الرومان فسلكه الى حضرتها. كذلك اتخذت الزباء لنفسها تحت العرش سرداباً سرياً تهرب عبره عند الخطر، فلما اقتربت قوات عمرو بن عدي، دله قصير بن سعد على باب السرداب، فتوجه إليه يحول بين الزباء والفرار. وقد اختارت كليوباترا في النهاية أن تموت بيدها لا بيد اغسطس، كما اختارت الزباء ان تموت بيدها لا بيد عمرو، وكان السُم هو وسيلة انتحار الملكتين: غير أن سُم الثعبان في حالة الملكة المصرية تحول الى سم امتصته الثانية من خاتم في اصبعها. ذلكم في اعتقادي هو الحل للغز التفاوت والتباين بين الروايتين، وهو حل أو منهج قد يُعيننا على تبين الصورة التي كان يتم بها عند العرب تسجيل الكثير من أحداث التاريخ، وكتابة السَّيَر. كما أنه يُعيننا على تفهم جانب من جوانب العقلية العربية في العصر الوسيط، بل وتفسير بعض مظاهرها القائمة معنا حتى اليوم.