روى الطبري 224 - 310 ه إسطورة زواج النَضْيَرة ابنة ملك الحضر الدويلة العربية قرب الموصل شمال العراق من سابور بن أردشير ملك فارس 241 - 272 م بعد أن حاصرها لأربع سنوات متواصلة. جاءت رواية الطبري لهذه الأسطورة، في سياق مرويات تاريخية عن العهد الساساني في فارس، وفي اطار الكلام عن هجوم ناجح شنّه الفرس على بعض الحاميات الرومانية في بلاد الشام، الذي تمّت مواصلته زحفاً باتجاه الحضر العراقية، وكان من نتائجه أسر الامبراطور الروماني فاليران. كانت الحضر في هذا الوقت، تحتفظ بعلاقات طيبة مع روما عدوة فارس التقليدية سياسياً ودينياً. وبكل تأكيد بدت صلات الحضر بروما وكأنها ترفع من درجة تحدّي فارس في مجالها الحيوي وفي مناطق نفوذها، ولذلك قررت فارس وضع حدّ لحياة هذه الدويلة المتمردة. على غرار الطبري يسرد ياقود الحمويّ المعجم 2: 309 الاسطورة ذاتها في اطار خبر تاريخي عن الحملة العسكرية الفارسية، بما يعطي الانطباع أن اسطورة الزواج هي جزء حقيقي من الخبر التاريخي. هل لدينا بيِّنات عن هذا الزواج؟ وما مغزاه بالنسبة لمدينة محاصرة؟ إن تحليل اسطورة هذا الزواج العجائبي الذي يتمّ في مسرح الحرب ولأجل إنهاء الحرب ووضع حدّ لمأساتها، ينطوي على محمولات رمزية تتخطى في أهميتها، ربما، المادة التاريخية المُفترضة. تقول مَرْوية الطبري وياقوت، إن ملك الحضر كان يدعى الضّيْزَن بن معاوية من قبيلة قُضاعة العربية اليمنية الجذور وأن مدينته كانت قد بُنيت وتطلسمت لا يُقدر على فتحها وهدمها إلا بدم حمامة زرقاء مع دم حيض إمرأة زرقاء، وأن الضَّيْزَن والد النضْيرَة أقام فيها مدة، ملكاً يُغير على بلاد الفرس. الى جانب الطبري وياقوت، هناك عدد غير قليل من الرواة الجيدين للاسطورة، مثلاً: المسعودي مروج الذهب 2: 402 والأبشبهي المستطرف 1: 214 فضلاً عن رواية صاحب تاج العروس. استناداً الى هؤلاء الرواة سوف ندوّن - هنا - مُلخصاً عن الأسطورة. كان الضّيْزَن بن معاوية من قُضاعة ملكاً بين دجلة والفرات بجبال تكريت. وكان له قصر مشيدٌ يُعرف ب"الجوسق" وبلغ ملكه الشام. فأغار على مدينة سابور ذي الأكتاف فأخذها وأخذ أخت سابور. فأقام سابور على الحُصن - أسوار الحضر - أربع سنين محاصراً لها لا يصل منها الى شيء. ثمّ أن النَضْيرَة بنت الضّيْزَن عركت أي: حاضت، فخرجت من الحُصن وكانت من أجمل أهل دهرها، وكذلك كانوا يفعلون بنسائهم إذا حُضْنَ. وكان سابور من أجمل أهل زمانه. فرآها ورأته فعشقها وعشقته. وأرسلت اليه تقول - ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدّم به هذه المدينة وتقتل أبي؟ فقال: أحكّمُّك. أي: أجعلك ملكة. يضيف الطبري: أجعلك فوق نسائي. فقالت: عليك بحمامة مطوّقة ورقاء فاكتب عليها بحيض جارية ثم اطلقها فإنها تقعدُ على حيطان المدينة فتتداعى كلها. وكان ذلك طلسماً. ففعل ذلك فتداعت المدينة وفتحها سابور عنوة وقتل الضّيْزَن وأخرب المدينة ثم احتمل النَضْيرَة وأعرس بها في مدينة عين تمر العراقية. ولكن الفتاة الخائنة لم تنم تلك الليلة. يقول ياقوت نقلاً عن الطبري وآخرين، أنها قالت لسابور: لم أنم قط على فراشٍ أخشن من فراشك. فقال سابور: ويلك! وهل نام الملوك على أنعم من فراشي؟ ثم انه نظر في الفراش فوجد فيه ورقة آس كانت قد التصقت بجسدها. التصقت بين عكنتين من عُكنها. والعُكنة كل ما انطوى وتثنّى من لحم البطن سمناً فقال سابور: وبمَ كان أبوكِ يغذوكِ؟ قالت: بشهد الأبكار من النحل. وعندئذ قال الملك الساساني غاضباً: أنت ما وفيتِ لأبيكِ مع حُسن هذا لاصنيع، فكيف لي، إذاً، أن أثق بك زوجة. ثم أمر بقتلها وتقطيع أوصالها. سر المدينة لا ينبغي للبطل أن يعرف اللغز أو أن يحلّه أو أن يقوم بإفشاء سر المدينة المُطلْسَمة. عليه أن يصمت عندما يُلقى عليه اللغز. في الحل يكمن فناء البطل كما يقول ليفي شتراوس: على البطل أن لا يحلّ الأحجية لأن من طبيعة الأشياء أن لا يكون للأحجية الأسطورية حل. كل مخالفة لهذه الفِطرة تعني الفناء. ولأن اللغز هو سؤال لا جواب له - شتراوس فإن على الأبطال أن لا يقوموا بإفشاء السر. هذا ما حدث لأوديب في الأسطورة اليونانية. كان حل اللغز في الأسطورة - بحسب شتراوس - مخالفة للطبيعة، لأن من طبيعة الأشياء أن يكون اللغز سؤالاً لا جواب له، أو سؤالاً لا يتعين تقديم جواب عنه. ولأن أوديب خالف هذه الطبيعة أو الفِطرة فقد حُكِم عليه بالعقاب. من طبيعة الأشياء - يلاحظ شتراوس في تحليله لاسطورة أوديب -: أن لا تتزوج أمٌ من ابنها، وإلا تكون بذلك قد انتهكت حدود الفِطرة البشرية وخالفت هذه الطبيعة. لكن أوديب خالف هذه الفِطرة بحلّه للّغز ثم خالفها بالزواج من أمه بعد أن قتل والده. على غرار أوديب اليوناني، كانت النضيرة في الاسطورة العربية تقوم ب"مخالفة طبيعة الأشياء"، وتعرض على سابور إفشاء لغز المدينة لقاء الحب. ولذلك، سوف ينتهي هذا الانتهاك للفِطرة بالعذاب والموت. لنلاحظ ان حلّ الأحجية يقوم على مبدأ واحد أو قاعدة واحدة: سفك الدم وهذا هو الثمن الذي سوف تدفعه النضيرة بنفسها حين يكشف سابور هول خيانتها لوالدها. رمزياً، فإن المرأة الحائض هي المرأة التي تعرض دمها ثمناً للزواج انها تسفكه لإتمام الزواج، تماماً كما هو الحال مع رمزية الدم في ليلة الدخلة. ولكن: ما المغزى التاريخي من هذه الاسطورة التي عرضها عليها الطبري كجزء عضويّ من مَرْوية تاريخية عن حكم الساسانيين في فارس والعراق؟ هل وُجدت حقاً، ابنة لملك يُدعى - الضّيْزَن - كان اسمها النضْيرَة وأن سابور الملك الفارسي الوسيم، عشقها بعد أن حاصر المدينة لأربع سنوات، وأنها - أخيراً - خانت والدها؟ خطأ الرواية بينما افترض سائر الاخباريين القدامى والمسلمين عموماً ان ملوك الدويلة العربية الحَضَر هم من قبيلة قُضاعة، وحده ابن خلدون انفرد في تاريخه 3: 249 بالقول ان الملك في الحَضَر كان لبني عبيد بن الأبرص، من دون أن يفسر لنا سبب هذا الزعم. لكن نولدكه 1836 - 1930 المستشرق الألماني العظيم، الذي أشرف بنفسه لا على تحقيق تاريخ الطبري، وإنما قام بترجمة نادرة ورائعة للنص الخاص بالساسانيين طبعة لايدن - هولندا 1874 شكّك كليةً برواية الطبري وأنكر، في ضوء سلسلة من الأدلة والبينات التاريخية أن يكون سابور ذو الأكتاف حاصر مدينة الحضر أو أنها سقطت بيده، لأن المدينة - برأي نولدكه - كانت سقطت - قبل هذا الوقت - بيد والده أردشير عام 241 م. هذه الرواية تعطي دعماً لا حدود له للمرويات الاخبارية العربية التي نسبت الحصار لسابور الجنود أو شاهبور الجنود لا الى سابور ذي الأكتاف إذ ان سابور الجنود هذا، هو ترجمة عربية للكلمة الفارسية أصَبْهند أي: الجيش. وسابور هذا هو - على الأرجح - أحد قادة الجيش الفارسي الذي قاد الحملة لتأديب الحضر وملكها لجرأتهم على تحدي النفوذ الفارسي واقامة علاقات مع روما. لقد روى الأعشى - صنَّاجة العرب - خبر هذا الحصار في قصيدة شهيرة الديوان: 43 ناسباً الحادث ل"سابور الجنود" أيّ واضعاً الحملة العسكرية في إطار عهد أردشير لا عهد ابنه سابور ذي الاكتاف: ألم ترَ الحضر إذْ أهله بنُعمى وهل خالد من نعم أقامَ به شاهبور الجنود حولين تضربُ فيه القدم يُفهم من قصيدة الأعشى أن الحصار دام سنتين حولين، لا أربع سنوات كما زعم الطبري، وهذا ما يمكن أن يساهم في تقليص حدود الاضطراب في المرويات التاريخية العربية، التي دمجت التاريخي بالاسطوري. من الواضح ان كلاً من رواية نولدكه لحادث حصار الحضر وقصدية الأعشى انما تنسف الأساس الميثولوجي الذي نهضت عليه اسطورة الزواج العجائبي، ولكن من دون أن تدمر امكان حدوث مصاهرة في وقت ما في منطقة عين تمر العراقية كان بطلها قائد عسكري فارسي لعله شاهبور قائد الوحدة العسكرية الفارسية. أما في ما يتصل بالأساس الميثولوجي للزواج العجائبي، الذي انهارت لأجله، وفي سبيله أسوار المدينة فإنه يقع في موضع آخر من الإطار التاريخي للحادثة. حفريات معاصرة في العام 1903 ثم 1913 قامت بعثة المانية بحفريات ممتازة في منطقة الحضر ونينوى آشور تمّ فيها الكشف، بجلاء، لا عن الطابع الإرميّ العربي القديم ونقوشه الكثيرة وحسب، وإنما - وهذا هو الأمر المهم - عن الطابع العربي - اليوناني للمدينة - الدويلة، وهو ما يعزز حقيقة أن العلاقات بين الحضر وروما تخطّت حدود العلاقات "العادية" أو "الطبيعية" ذلك إن التلاقح العربي - اليوناني - الروماني أرسى أساساً جديداً ل"الثقافة" قد نجد بعض أصدائه في اسطورة زواج النضيرة هذه. لدينا هنا ثلاث أساطير يونانية، استمد منها سارد الاسطورة العربية مادته الأصلية: أ: اسطورة ثيسيوس وأريان والمونيطور كانت أريان ابنة الملك مينوس، لكنها وقعت في غرام عدوها وعدو والدها ثيسيوس. وبعد سلسلة من المغامرات تقوم أريان بإعطاء عشيقها الخيط رأس الخيط الذي سوف يمكّنه من معرفة طريق الخروج من المتاهة. بيد أن ثيسيوس سرعان ما يقوم بهجر أريان واحتقارها. تدور هذه الاسطورة الشهيرة في الأدب اليوناني في نطاق فكرة قتل الأب أو قرينه وفي حال مينوس الملك فإن عشيق ابنته لا يقوم بقتله بل بقتل الوحش البديل الرمزي للأب والملك. فيما تركز، من جانب ثان، على مسألة خيانة البنت لوالدها، أي: التفريط بصلات الرحم. ب: اسطورة نيزوس ملك ميغارا. تقوم ابنة نيزوس الملك باهداء عشيقها، عدوّها وعدو والدها، الخُصلة السحرية التي تحمي الملك من الموت. قامت سيلا ابنة نيزوس بقطع هذه الخصلة وتقديمها لعشيقها تعبيراً عن حبها له، وبذا تمكّن عشيقها من قتل والدها. بيد أنه سرعان ما قام باحتقارها وهجرها. ج: كوميثو ابنة بيتريلاوس. وقعت كوميثو وهي ابنة ملك جزيرة تافيوس في غرام امفتريون الذي هاجم الجزيرة. كان والدها الملك خالداً بسبب شعرة ذهبية في رأسه، وقامت كوميثو بقطع تلك الشعرة وتقديمها لعشيقها الذي سوف ينتصر على والدها. ولكن امفتريون بعد انتصاره لم يعترف بجميلها بل بادر الى قتلها. هذا هو الأساس الميثولوجي اليوناني الذي نسج منه الرواة اسطورة النضيرة وهذه برأينا كلمة تم نحتها من الكلمة اليونانية Nisos المستخدمة كاسم للملك القتيل في ميغارا. يتبقى - هنا - شيء أخير لا بد من التذكير به ويتعلق بوظائف الاسطورة: إن القبائل العربية بروايتها لهذه الاسطورة، تكون روت، فعلياً، فكرتها هي عن مسألة زواج الفرس المحتلين من "عربيات" بدويات، وهو المطلب السياسي الذي لطالما ألحت عليه فارس لضمان ولاء القبائل لها، وسعت الى تحقيقه بكل الوسائل، حتى ان أحد أعظم ملوك الحيرة النعمان بن المنذر الأكبر دفع حياته ثمناً لهذا الرفض حين سجنه الفرس وقتلوه في قصة مشهورة. لقد كانت القبائل العربية مصممة على حرمان فارس من الارتواء من النبع الصحراوي، إذ كانت مثل هذه المصاهرات كفيلة بتكبيل أيدي القبائل الطامحة بممالك ومشايخ مستقلة عن فارس. وفي هذا السياق وظفت مسألة "خيانة" البنت لوالدها الملك، على أكمل وجه، لا للتعبير عن "التفريط بصلات الرحم" وانما بدرجة أكبر وأشدّ وضوحاً، للتعبير عن المصير الذي سوف تلقاه كل عاشقة تقع في غرام عدوها. * باحث عراقي.