من ضمن برنامج "حصاد اليوم"، بثت فضائية "الجزيرة" القطرية قبل أيام شريطاً يتعلق بانتشار أشرطة "كاسيت" في صنعاء اليمن، مسجل عليها أغانٍ وإيقاعات يمنية بأصوات مطربين ومطربات من إسرائيل - نالت إحداهن شهرة عالمية - يعودون في أصولهم الى يهود اليمن. وجاء من ضمن الأسئلة التي طُرحت تعليقاً على هذه الظاهرة: هل هي من نوع الغزو الثقافي؟ أم هي إحدى وسائل التطبيع؟ لن أناقش من أبدى وجهة نظر في هذه الظاهرة، ولا أريد تسجيل وجهة نظر مخالفة أو مؤيدة، لكنني أريد ترتيب الأمور علنا نعرف ونفهم ما يتخلق كل يوم في هذا الكيان الذي احتل أرض الفلسطينيين العرب وطرد وشرّد معظمهم، ليجمع على مساحة واحدة مجموعات من أصول وأعراق وقوميات وأمم وإثنيات مختلفة، لا يجمع بينها إلا الدين، الذي تحول بحسب الاجتهاد الصهيوني "رابطاً قومياً". تسميم ولأن اليهود كانوا من ضمن الجاليات المستقرة في أقطارنا العربية قبل سنة 1948، وكانوا في بعض البلدان من ضمن النسيج الاجتماعي كغيرهم من مسلمين ومسيحيين، ولم تكن العبرية إلا لغة صلاة لدى بعضهم، بينما كانت العربية لغة الحياة، استقر في وجدان كثيرين بينهم - من هاجر أو بقي - الموروث المحلي اللغوي والموسيقي والإيقاعات والعادات والتقاليد والمزاج ونمط الغناء وغير ذلك من أمور كأي مواطن. لكن الشحن الصهيوني بادعاءاته وتوجهاته وطروحاته، وفي الأساس بممارساته، خصوصاً ما يتعلق بفلسطين والفلسطينيين وغيرهم من العرب الآخرين، وموقفه من الشعوب الأخرى "الأغيار" واستعاراته من التوراة ما يتعلق بالتفوق والتميز والوعد الإلهي وأنهم شعب الله المختار الخ! كل ذلك وغيره سمم العلاقات التي كانت سائدة بين النسيج الاجتماعي المتنوع والمختلف، ولكن المتعايش في الوقت نفسه في بعض الأقطار العربية. هكذا توالت هجرات اليهود من بعض الأقطار العربية، مئات، آلافاً، بل ومئات الآلاف من العراق ومصر والمغرب واليمن وتونس والجزائر ولبنان وسورية، وغيرها. جاءوا الى فلسطين باختيارهم، أو من خلال أساليب القسر والإرهاب الصهيوني المتعدد الطرق. فقد مثلوا أكثر من نصف عدد السكان الإسرائيليين حتى اليوم، ويطلق عليهم اسم "السفارديم"، أو اليهود الشرقيين. وكثير منهم يؤيد اليمين الصهيوني المتشدد حيال العرب. بل ان بعض قياداتهم احتل مراكز مهمة في الكيان الصهيوني: ككتساف قصاب وبن عامي، وموردخاي وكوهين وليفي وسويسا وبن اليعازر وغيرهم. وهم يتوزعون على ألوان الطيف الحزبي، من اليسار الصهيوني الى اليمين والوسط، الى التيارات الدينية المتعددة. أما من ناحية أوضاعهم الثقافية، فإن كثراً بينهم انخرطوا في الحياة الجديدة وتعلموا واستوعبوا اللغة العبرية ونتاجها الثقافي. وقلة بينهم أبقت بعض ما اكتسبه الآباء والجدود من لغة عربية وإرث ثقافي، وبينه الغناء والإيقاعات. خصوصاً أن التواصل إجمالاً مع ارض المنبت البلدان العربية لم ينقطع، وبالأخص لدى بعض الأوساط التي تابعت بعض النتاجات الغنائية واللحنية. ذكر اسحق لاؤور الشاعر والناقد الإسرائيلي في مجلة "الكرمل"، العدد 63، الصادرة في ربيع العام 2000 ما يأتي: "خذ جارتي عبر الجدار المقابل مثلاً، هي من مواليد لبنان ولكنها مؤيدة لليمين، لو سألتني ما هي الموسيقى التي تستمع إليها باستمرار؟ ليس سوى فيروز، فهي لا تستطيع الانفصال عن ماضيها في بيروت، ما زالت تعيش ذاكرتها يومياً". بعض من تعامل مع الألحان والإيقاعات والأغاني، عدّل ونوع وأدخل ايقاعات جديدة وكلمات جديدة، لكن الحال العامة للألحان والإيقاعات بقيت متشابهة وقريبة من الأصول. ولأن بعض بلداننا العربية سمح بزيارات محدودة لبعض الإسرائيليين ممن يمتون إليها بصلة الأصل لزيارة بعض أقاربهم الذين بقوا فيها كاليمن والمغرب وغيرهما، وبعضها التزم الاتفاقات السلام الموقعة بينها وبين إسرائيل: مصر والأردن، وبينها زيارات الأفراد وتنقلاتهم، لذلك فإن اشياء كثيرة انتقلت من هنا الى هناك، ومن هناك الى هنا. وبينها بطبيعة الحال بعض الأشرطة التي تحتوي الألحان والإيقاعات التي جاء ذكرها في الفضائية العربية. لذا فإن الأمور - على ما أعتقد - أعقد من تبسيط الرفض أو القبول، المنع أو السماح، أو إطلاق شعارات التطبيع أو الغزو الثقافي، مع عدم إغفال شبهة التلغيم السياسي المقصود. فالتداخل والتعقيد والتركيب في سياقها اللغوي في حاجة الى مراجعة وفرز وتمعن أعمق!