للمرة الأولى في تاريخ الصراع مع اسرائيل يطلق فلسطينيون النار ويغتالون شخصية سياسية اسرائيلية، هذا إذا اعتبرنا أرغوف السفير الاسرائيلي الذي اغتيل في لندن شخصية ديبلوماسية. ولكن اسرائيل سبق ان اغتالت وفقاً لخطط طويلة المدى، أي خارج نطاق الصدامات المسلحة، شخصيات سياسية فلسطينية مثل كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار وغسان كنفاني وأبو جهاد وأبو علي مصطفى. وفقط بعد اغتيال الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى رد الفلسطينيون باغتيال شخصية سياسية اسرائيلية برتبة وزير. ولا ندري هل هذه المرة الأولى فعلاً أم ان الفلسطينيين قد خططوا في الماضي لعمليات مشابهة وفشلوا في تنفيذها، وهو الاحتمال الأرجح؟ لقد اهتزت المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة، واهتز لها المجتمع الاسرائيلي، معتبرة اغتيال عضو في الحكومة اعتداء سافراً على رمز من رموز السيادة الاسرائيلية. تم الاغتيال في مرحلة وقف اطلاق النار الذي تعاملت معه القيادة الفلسطينية بصرامة واعتبره شارون غير ملزم بالنسبة الى استمرار اسرائيل بملاحقة واغتيال الناشطين الميدانيين الفلسطينيين. فقبل اغتيال زئيفي، وفي مرحلة وقف النار التي حظيت فيها السلطة الفلسطينية بإطراءات بريطانية وأميركية رسمية، اغتالت اسرائيل ناشطين من حركتي "فتح" و"حماس". لكن شارون حاول استغلال هذا الاغتيال سياسياً حتى الثمالة، بغض النظر عن المبررات السياسية والايديولوجية، فاتخذ اجراءات عسكرية صارمة معدة سلفاً ضمن خطة سياسية لا علاقة لها بمغزى هذا الاغتيال وآثاره الايديولوجية على المجتمع الاسرائيلي. فالعقل السياسي لشارون كان قبل الاغتيال منشغلاً تماماً بالتحركات السياسية الدولية. وقد تسفر هذه التحركات برأيه عن ضغط دولي، اميركي اساساً، يهدف الى اعادة اطراف الصراع الى المفاو ضات. وفي المفاوضات يتحول شارون من "مكافح للارهاب" في الاجواء الدولية التي نشأت بعد 11 ايلول سبتمبر الى رافض للسلام. لا توجد لدى شارون خطة للتسوية. وهو، ومعه ائتلافه الحاكم، لا يقبل بأفكار كلينتون - باراك التي قد تعيدها الولاياتالمتحدة الى التداول بصيغ مختلفة. ولذلك يحاول شارون ومعه حكومته اليمينية خلق وقائع سياسية على الأرض وتحقيق مكاسب سياسية مستفرداً بالفلسطينيين قبل بداية أي نوع من التدخل الدولي. وهو يعتبر مطالبة السلطة الفلسطينية بوقف اطلاق النار من دون ربط ذلك بتجميد الاستيطان، كما درجت القيادة الفلسطينية على تفسير تقرير لجنة ميتشل، انجازاً لسياسة القوة العارية التي يستخدمها حالياً ضد الشعب الفلسطيني وقيادته. وهو يرغب بتحقيق "انجازات اخرى" متعلقة بفهم السلطة الفلسطينية لوظيفتها في مكافحة الارهاب الموجه ضد اسرائيل. وبعد تحقيق هذه المكاسب، لن يعارض شارون عودة الحوار مع الفلسطينيين، وكل هذا قبل التدخل الدولي. يتصرف شارون إذاً بموجب خطة سياسية محكمة ولا تقوده ردود فعل عاطفية. ولكن ما يمكنه من اتخاذ هذا المسلك، واجتياح المدن الفلسطينية في الضفة الغربية للمرة الأولى منذ اعادة الانتشار الثانية فيما يشبه حال الحرب، هو تلاحم القبيلة الاسرائيلية في اعقاب تعرض وزير اسرائيلي للاغتيال. لقد اغتيل وزير السياحة الاسرائيلي زئيفي يوم 17/10/2001، وفي يوم 19/10 نشرت صحيفتا "معاريف" و"يديعوت احرونوت" نتائج استطلاعات للرأي العام، علماً ان صحيفة "معاريف" كانت أجرت استطلاعاً للرأي العام يوم 16/10 أي قبل اغتيال زئيفي بيوم واحد. لقد فوجئ بعضهم أو أصيب بالدهشة من إجابة الاسرائيليين على سؤال "يديعوت احرونوت" بعد الاغتيال: "بعد اغتيال زئيفي هل يجب تصفية قيادات في السلطة الفلسطينية؟". 62 في المئة أجابوا بنعم. ولكن استطلاع "معاريف" كان قبل الاغتيال وكان السؤال: "هل برأيك يصح ان تجدد اسرائيل سياسة التصفيات ضد الفلسطينيين في الوقت الحالي؟" 72 في المئة أجابوا بنعم. أي ان النسبة "نعم" كانت أعلى قبل اغتيال زئيفي، مع الفرق انه في سؤال "معاريف" قبل الاغتيال لم يتم ذكر كلمة "القيادات". المهم ان الاجواء في المجتمع الاسرائيلي "زئيفية" الطابع حتى قبل اغتيال زئيفي، وهي تتماثل مع سياسة القوة العارية، بما فيها الاغتيالات. ففي استطلاع "معاريف" قبل الاغتيال أجاب 60 في المئة ان ياسر عرفات ليس شريكاً للتفاوض وانما عدو يجب محاربته. ولكن ما يوحد المجتمع الاسرائيلي هو عصبية القبيلة وليس المواقف السياسية - الاستراتيجية المتناسقة. فبعد الاغتيال بقي60 في المئة من الاسرائيليين يعتقدون انه يتوجب على اسرائيل تفكيك مستوطناتها في قطاع غزة واعتقد ان النسبة أعلى من ذلك. ولكن هذه الاجابة جاءت كرد على استطلاع بعد الاغتيال "يديعوت احرونوت" 19/10. و60 في المئة يوافقون على اقامة دولة فلسطينية بعد الاغتيال الصحيفة نفسها تماماً كما كان الوضع قبله: 61 في المئة في استطلاع "معاريف". ويؤكد هذا المعطى الأخير ان الصراع بين الفلسطينيين واسرائيل لا يدور حول اقامة الدولة الفلسطينية، كما يعتقد جورج بوش، وانما على ثوابت الحل العادل. 58 في المئة من الاسرائيليين يعارضون ضم أجزاء من القدسالشرقية الى هذه الدولة الفلسطينية 38 في المئة لا يعارضون و44 في المئة يعارضون عودة اللاجئين حتى الى الدولة الفلسطينية. أما بالنسبة الى عودتهم الى ديارهم داخل الخط الأخضر فلا حاجة حتى للسؤال لأن نسبة المعارضة تفوق 95 في المئة. لم تتغير مواقف الاسرائيليين السياسية نتيجة لهذا الاغتيال، ولكن المزاج السياسي السائد هو مزاج القبيلة. فقد وجد رحبعام زئيفي غاندي نفسه في مركز الخارطة السياسية الاسرائيلية بعد وفاته. لقد التقى في تشييع جثمانه ممثلو كافة التيارات السياسية الاسرائيلية وليس من منطلق الواجب فقط. فالرجل لم يكن متطرفاً بالمعنى الذي ترتسم بموجبه صورة المتطرف: مهاجر اميركي غريب الأطوار يعيش في الضفة الغربية بحثاً عن هوية وعن جذور وربما عن مغامرة في مواجهة هنود حمر، بل أتى الرجل السياسة الاسرائيلية من المصدر نفسه الذي أتى برابين وشارون ورفائيل ايتان وموشي دايان ويغال ألون وموردخاي غور. لقد صنعت شخصيته ومواقفه حرب 1948 التي خاضها في صفوف حركة العمل الصهيونية المسلحة "الهاغناه" وتحديداً الوحدات الخاصة "البلماح". أي انه لم يأت حتى من الفصائل الصهيونية المعارضة، "ايتسيل" و"لحي". ومن هنالك، من ترانسفير الفلسطينيين عام 1948 احتفظ بفكرة الترانسفير، واعتبر نفسه أكثر أمانة وولاء لها من رفاقه في السلاح رابين ويغال ألون. وكان أقرب الى الجنرالات الذين واصلوا طريق عام 1948 بعد حرب 1967 متبنين سياسة "أرض اسرائيل الكاملة". وفقط بعد عام 1967 انتقلوا الى معسكر اليمين الاسرائيلي، لأنه بعد عام 67 نشأ الانقسام للمرة الأولى بين يمين ويسار في اسرائيل على أساس تأييد أو معارضة التسوية الاقليمية التي تشمل انسحاباً من أراض محتلة. لم يفسد هذا الخلاف للود بين رفاق السلاح قضية. ولذلك يعين زئيفي مستشاراً لرئىس الحكومة رابين لشؤون مكافحة الارهاب عام 1974. فالبلماح هو بطن من بطون القبيلة له هوية وأغان كتبها كلها الشاعر حاييم حيفر الذي يعتبر يسارياً اليوم، وقصص بطولات. ويشتهر اعضاء هذا البطن من بطون القبيلة، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية اللاحقة، بعلمانيتهم وتقديسهم للقوة الجسدية وحسهم الأمني المتطور وبحبهم للحياة والحفلات الصاخبة والانشاد جماعة وبالفكاهة الفظة والكلام المختصر والمباشر، وكرههم للطقوس ونفورهم من المظاهر المزركشة خلافاً لمزايا اشتهر بها أعضاء "الايتسيل" اتباع بيغن وجابوتنسكي. هذه هي صفات البلماحنيك عضو البلماح كما يحبها الاسرائيليون وكما اشتهر بها رابين وزئيفي وألون وغيرهم، وكانت قدوة لجيل كامل من العسكريين الاسرائيليين، وطبعت الحياة الاجتماعية والثقافية الاستيطانية قبل عام 67 بطابعها الى حد بعيد. وعلى رغم تحول زئيفي الى الطرف الأقصى المقابل من الخارطة السياسية الاسرائيلية تحول بعد وفاته من جديد الى "بلماحنيك" وعاد زملاؤه الاحياء الى تلاوة القصص والذكريات عنه على خلفية موسيقى المارش والمقطوعات الموسيقية الحزينة التي بثتها وسائل الاعلام الاسرائيلية. ولأن زئيفي سقط بأيدي مسلحين فلسطينيين، أي في المعركة، بدا ان زملاءه الهرمين عادوا اليه كرفاق في السلاح. ومشى الى جانب رموز حركة العمل الصهيونية القدامى جحافل المستوطنين ومؤيدو الاحزاب الدينية واليمينية المتطرفة الذين انتمى اليهم زئيفي سياسياً واعتبروه بطلهم. لقد كان الرجل صهيونياً علمانياً متعصباً، ولكنه كان بنظر غلاة المستوطنين المتدينين حاملاً رسالة دينية، شاء أم أبى، ألا وهي رسالة "أرض اسرائيل" التي يعتبر استيطانها بنظرهم فريضة دينية. وفعلاً اشتهر زئيفي بسعة معلوماته عن "أرض اسرائيل" وتاريخها، وحفظ كل تفصيل يتعلق بكل مكان، الأمر الذي حدا برئيس بلدية تل ابيب لتعيينه قبل دخوله الكنيست مديراً "لمتحف أرض اسرائيل". وبعد وفاته حولته القبيلة الاسرائيلية، ومن باب تعداد مناقب الفقيد، الى مؤرخ وباحث ومثقف في شؤون تاريخ هذه البلاد. والحقيقة ان زئيفي لم يكن مثقفاً بل كان متعصباً للايديولوجية الصهيونية، معتبراً التجوال المستمر في هذه البلاد وحفظ الاسماء العبرية والتعرف على آثارها جزءاً من واجبه الوطني. وكانت معلوماته بطبيعة الحال انتقائية الطابع واسطورية الى حد بعيد. ولم يكن كاتباً ولا باحثاً ولا مفكراً، حتى بمقاييس اليمين المتواضعة. لقد تحولت الفظاظة الى تواضع، وتحولت الجلافة الى استقامة بعد الاغتيال، وتحول التطرف الى "حب أرض اسرائيل"، وتحولت العنصرية الى "وطنية". وفي حمى المارش الحزين وتعديد مناقب الفقيد ضمن انتاج رمز جديد للوطنية الاسرائيلية الاستيطانية في الصراع مع الفلسطينيين، سكان هذه البلاد الاصليين، لم يذكر أحد، ولا حتى في اليسار الصهيوني، ما اشتهر به الرجل فعلاً في حياته أي عنصريته تجاه العرب وايمانه بطرد العرب من بلادهم كحل وحيد للصراع، وتعويله الكامل والمطلق على سياسات القوة. هكذا اختلط الهامش السياسي الاسرائيلي بمركز الخارطة السياسية، وهكذا اختلط حابل مجتمع في حال حرب بنابله، وتحولت التيارات الثقافية الى تفرعات عن ثقافة استيطانية واحدة وتحولت التيارات السياسية الى بطون في القبيلة نفسها. وهكذا التقى مؤيدو ترانسفير زئيفي المعد لعرب الأراضي المحتلة عام 67 بمنفذي ترانسفير ألون ورابين وبن غوريون من العام 1948 في مسيرة التشييع نفسها. وفي ظل هذه الاجواء والأزمة السياسية ينفذ شارون سياسة ارهابية ضد الشعب الفلسطيني في بيت لحم وبيت جالا وطولكرم ورام الله. * أكاديمي فلسطيني، عضو الكنيست الاسرائيلية.