حاز آرييل شارون على أكبر انتصار انتخابي في تاريخ اسرائيل، لكنه قد يكون سياسياً أضعف رئيس وزراء تعرفه. انها النقيضة التي تشكل جوهر الوضع الحالي. بكلمة اخرى، "البلدوزر" في موقع السلطة، لكنه لا يملك الا القليل من الوقود! هناك أسباب رئيسية ثلاثة لضعف شارون السياسي. السبب الأول هو الرجل ذاته. فهو يقارب الثالثة والسبعين وبصحة ضعيفة. ويقول قريبون منه انه فقد القدرة على اتخاذ القرار، ويتلاعب به ابنه وآخرون من حاشيته. وعلى رغم كونه ذلك الحاقد الوحشي على العرب، الذي سحق غزة في 1970 وعبر قناة السويس في 1973 وغزا لبنان في 1982، وأشرف على مجزرتي صبرا وشاتيلا، وهما من يين الأبشع خلال قرن من الصراع العربي - الاسرائيلي، فإن هذا الجنرال المتبجح الملطخ بالدماء يحاول تغيير صورته، ويتكلم عن السلام وليس الحرب. انه يريد استعادة اعتباره وتجنب دخول التاريخ كمجرد مرتكب للمجازر. لكن هل يمكن لشخص له بشاعة سجل شارون أن يتغير حقا، بعد كل ما عرف عنه من استهانة بحياة العرب؟ هل يمكن لشخص متقدم في السن مثله أن يغير طبيعته؟ هل يأمل بالحصول على مصداقية حقيقية لدى العرب أو الأسرة الدولية عموما؟ تحالف المتطرفين السبب الثاني لضعف شارون هو قاعدته الانتخابية اليمينية، المكونة من القوميين المتطرفين والمستوطنين المهووسين والمتشددين الدينيين والمهاجرين الروس. وربما تمكن، اعتمادا على هذه المجموعات من تشكيل تحالف، مهما كان متضاربا، في الكنيست بعضوية 62 الى 63 من النواب. لكنه سيكون تحالفاً ضيقاً وقلقاً، وبالطبع معارضاً في شكل تام لأي اتفاق مع الفلسطينيين. اذا اضطر شارون الى الاعتماد على هذا التحالف فإن ذلك يعني شلّه سياسياً، مفرغاً كلامه عن السلام من أي مضمون. وفي أي حال، فالأرجح ان ترتيباً كهذا سينهار خلال شهور قليلة، ما يعني العودة الى الانتخابات لاحقاً خلال هذه السنة. ويدرك شارون ومساعدوه تماماً ان عليهم اذا ارادوا الاستمرار لما بعد السنة الجارية اقناع حزب العمل بالمشاركة في حكومة وحدة وطنية. هذا ما يرغب به شارون ويحتاجه بشدة، الى درجة اعلانه مراراً خلال حملته الانتخابية انه في حال الفوز سيدعو ايهود باراك فوراًً لتسلم وزارة الدفاع. ولو كان باراك تمكن من تقليص حجم هزيمته - أي لو كان الفارق بينه وشارون أقل من 10 في المئة من الأصوات - لبقي على رأس حزب العمل، وربما وافق على عرض شارون. لكن الهزيمة الساحقة جرفت باراك من رئاسة الحزب، بل من الحياة السياسة عموماً، تاركاً حزب العمل ليواجه الصراع على القيادة، وهو ما سيؤجل، اذا لم يلغ تماماً، أي امكان لتشكيل حكومة وحدة وطنية. السبب الثالث لضعف شارون يكمن في برنامجه السياسي. فقد صوت الاسرائيليون لصالحه خوفاً من الانتفاضة المستمرة منذ خمسة شهور. أي انهم صوتوا لصالح الأمن والحياة الطبيعية، معتقدين ان العرب سينكفئون كالاطفال المذعورين عند مجيء "الجنرال" شارون، وتعود الأمور الى مجراها الآمن. والواقع ان الكثيرين من الاسرائيليين يعانون مما يشبه الفصام النفسي. فغالبيتهم الكبرى تريد السلام مع العرب، لكنها في الوقت نفسه تتعطش الى الانتقام من الفلسطينيين - وأيضا من حزب الله - لتجرؤهم على تحدي قوة اسرائيل وتمريغ "قدرتها الردعية" الشهيرة، التي يعتبرونها ركيزة أمنهم الوطني. هل يمكن توفير الأمن من دون السلام؟ المشكلة في هذا السيناريو أن شارون ومسانديه من اليمين المتشدد لا يدركون مدى التقدم الذي احرزه المفاوضون الفلسطينيون والاسرائيليون في الشهور ال15 الأخيرة، ويسعون الى اعادة عقارب الساعة الى الوراء. انهم يريدون الاحتفاظ بالسيادة على كل "القدس الموحدة"، والبقاء في وادي الأردن وفي نصف أراضي الضفة الغربية، ويرفضون ازالة حتى مستوطنة واحدة. انهم يرفضون الاعتراف للفلسطينيين بأي حق في العودة أو في السيطرة على مواردهم المائية - بل في سيطرة في أي مجال مهم. لكن اذا كانت هذه شروط السلام التي يقدمها شارون، كيف له أن يأمل في توفير الأمن للاسرائيليين؟ هذه هي نقطة الضعف الرئيسية في موقفه. يقول بعض الحالمين أن شارون في النهاية سياسي واقعي يختلف عن أيديولوجيين متحجرين مثل اسحق شامير أو بنيامين نتانياهو، وانه قد يفاجيء الجميع بمرونته. وهم يذكّرون في هذا السياق أن شارون كان من اقترح على رئيس الوزراء مناحيم بيغن الانسحاب من سيناء بعد حرب 1973، ثم دعا في 1976 الى اقامة حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية لكن على أساس اعطاء الأردن الى ياسر عرفات! يشير هؤلاء الحالمون أيضا الى انه أرسل ابنه خلال الحملة الانتخابية الاخيرة الى لقاء سري مع محمد رشيد، المسؤول المالي الرئيسي لدى عرفات، وأنه يخطط لارسال رئيس اسرائيل السابق عيزر وايزمان الى القاهرة لتطمين الرئيس حسني مبارك. ويقولون ان هذه كلها مؤشرات الى شارون "الجديد"، رجل السلام، ويدعمون ذلك بالمقولة المعهودة المملة في ان اليمين أقدر على التوصل الى السلام من اليسار، وان ليس من يستطيع اقناع الرأي العام الاسرائيلي المتقلب والقلق بالموافقة على التنازلات الضرورية للسلام سوى زعيم يميني "قوي" مثل شارون. لكن الحجج تبقى ضعيفة. فشارون قد يكون أقل دوغمائية من نتانياهو لكنه ليس على وشك الانضمام الى "السلام الآن"! وربما أفضل ما يمكن أن نأمله خلال عهد شارون هو تجميد عملية السلام نحو سنة وصولا الى انتخابات اسرائيلية عامة جديدة. صراع السلطة في المعسكرين يعاني شارون من نقطة ضعف اضافية، مصدرها هذه المرة ليس شخصه ولكن النظام السياسي الاسرائيلي. اذ تشهد اسرائيل حالياً صراعاً شرساً على القيادة داخل معسكري اليسار واليمين، وليس من بين المتنافسين، سواء في ليكود أو العمل، من يريد لشارون النجاح، بل يتمنون له الفشل. المنافس الأقوى على القيادة في معسكر اليمين هو رئيس الوزراء السابق بنيامين نتاياهو، الذي يأمل أن ينهار أي تحالف يقيمه شارون خلال شهور، لكي يحصل نتانياهو بالتزكية على قيادة ليكود، ويخوض انتخابات عامة تلحق هزيمة جديدة بحزب العمل المنقسم على نفسه والمفتقر الى المصداقية. في الوقت نفسه يشهد حزب العمل تنافساً حاداً على القيادة، لكن دون تفوق بارز لأي من المرشحين حتى الآن. وقد يجد السياسي المخضرم شمعون بيريز في هذا ما يغريه بدخول الحلبة، لكن الأرجح أن فرصته فاتت. واذا ما أدرك ذلك فقد يوافق على الانضمام الى حكومة شارون وزيرا للخارجية، لكن هذا يعني ان عليه مغادرة حزب العمل. النكتة في اسرائيل هي أن بيريز يكره باراك الى درجة أنه صوت لشارون! من المتنافسين على رئاسة العمل أيضا الوزير حاييم رامون ورئيس الكنيست أبراهام بورغ، لكنهما من دون وزن سياسي يذكر. وهناك يوسي بيلين، وزير العدل في حكومة باراك، بسجله الذي لا ينافَس كمؤيد حقيقي للسلام. لكن اسمه يرتبط في اذهان الناخبين بأوسلو، العملية التي وصل رصيدها الى الحضيض. الشخصية الأقوى في معسكر اليسار قد تكون شلومو بن عامي، الأكاديمي السابق المختص بتاريخ اسبانيا، وسفير اسرائيل السابق في مدريد، والاعلامي التلفزيوني اللامع سابقا، ووزير الشرطة في حكومة باراك ثم وزير الخارجية المكلف بالتفاوض مع الفلسطينيين في الحكومة نفسها. وقد يكون بن عامي القائد الأفضل للحزب، على رغم كراهية الاسرائيليين العرب له بعد مقتل 13 منهم في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، عندما كان وزيراً للشرطة. القاسم المشترك بين "بيبي" نتانياهو من اليمين، وبيلين وبن عامي من اليسار هو رغبتهم في فشل شارون، وبأسرع ما يمكن. انهم يعارضون اقامة حكومة وحدة وطنية، ويأملون بالعودة الى السلطة والى عملية السلام عن طريق انتخابات عامة مبكرة. الواقع ان باراك، رغم كل نواقصه، أحدث تغييراً جذرياً في الأسس التي يقوم عليها أي اتفاق بين الفلسطينيين واسرائيل، بعد ما أدخل في الاعتبار أمورا كانت من المحرمات. فلا بد للقدس الآن ان تكون عاصمة لدولتين، ولا بد من ازالة المستوطنات في مرحلة ما، لتعود الضفة الغربية الى الفلسطينيين. والمؤكد ان شارون لا يستطيع التفاوض على هذه الأسس، لكن خلفه سيضطر، في شكل أو آخر، الى سلوك سبيل العدالة التاريخية والمنطق السياسي السليم.