في واحد من حوارات أفلاطون السقراطية، يرينا الفيلسوف استاذه وقد شاء أن يثبت ان المعرفة الحقة موجودة في داخل الانسان، لا تأتيه من خارجه، وانه يكفي أن يوجد الظرف والدافع حتى تطلع من داخل الانسان معارفه وقدرته على الربط بينها. ففي ذلك الحوار، وإذ يتحدى البعض سقراط أن يؤكد هذا، يلتفت سقراط الى عبد فتى ويروح طارحاً عليه جملة أسئلة متشابكة ومترابطة، يجيب عنها الفتى بالتدريج، من دون أن يكون هو، أصلاً، عارفاً بقدرته على الاجابة. هذه المعرفة الداخلية هي الموضوع الأساس لواحد من أجمل الأعمال في تاريخ النصوص الفلسفية العربية: "حي بن يقظان" للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، هذا النص الذي لا يتردد كثيرون أمام اعتباره "رواية" حقيقية يحمل سمات العمل الروائي كافة، ويرى كثيرون انها أثرت في عدد كبير من الأدباء والفلاسفة وانها هي الأصل الأول لرواية "روبنسن كروزو" الشهيرة. غير ان ابن طفيل، حين كتب "حي بن يقظان" في أواسط القرن الثاني عشر، لم يكن يتوخى منها، طبعاً أن تكون عملاً أدبياً، أو فلسفياً، أراد من خلاله ان يثبت ويوضح الكثير من نظرياته الفلسفية. وهنا لم يكن من قبيل المصادفة، أن يستخدم ابن طفيل حبكة كان سبق لابن سينا، في المشرق الاسلامي أن استخدمها من قبله، في عمل مشابه، وأيضاً للتعبير عن مواقف فلسفية. ما أراد ابن طفيل التعبير عنه كان، كما يمكننا ان ندرك بسرعة، قدرات العقل الانساني على ادراك الحقائق، حتى من دون أي تدخل تعليمي من الخارج. إذ هكذا يقيض لحي بن يقظان أن يدرك حقائق الوجود والالوهية، وعلاقته هو نفسه بالدين والايمان، من دون أن يكون ثمة وسيط في ذلك. إذا كانت الأجيال المتلاحقة من القراء اكتفت دائماً من "حي بن يقظان" بجزء أول منها، يروي حكاية الفتى الذي وصل طفلاً الى جزيرة نائية في المحيط الهندي، ثم بدأ يعي الوجود وما حوله بالتدريج، فإن في النصوثمة جزءاً ثانياً، قلما التفت اليه القراء، على رغم انه أثار دائماً اهتمام الباحثين المتخصصين. وهذا الجزء هو الذي يشكل خاتمة الرواية، بعد عودة حي بن يقظان وآسال أو أبسال بحسب بعض الروايات من جزيرة سلامان، التي كانا توجها اليها لكي يتولى حي بن يقظان تعليم الناس الحقائق الصوفية، عبر غض النظر عن أية أشكال خارجية من أشكال التعليم الديني. إذ بعد تلك العودة تبدأ الأمور بالاتضاح ويتبين انه من الأفضل عدم اثارة تلك الأنفس البسيطة المعتادة على التعاليم التقليدية التي تأتيها من أعلى، عن طريق متنورين، بل ينبغي تركها على ما هي عليه. إن حي، إذ يدرك هذه الحقيقة ويدرك أهمية التعليم الخارجي بالنسبة الى الجموع يعود الى جزيرته مع ابسال ويكرس نفسه للمعرفة الاشراقية مكتفياً بالعمل على تلك النفس. هل فشلت تجربة حي بن يقظان؟ ليس تماماً... كل ما في الأمر أن حي و"أستاذه" يدركان أن المجتمع البشري "مستعصي الشفاء" بحسب تعبير الاستاذ هنري كوربان، ويعودان الى جزيرتهما و"قد عرفا، بالتجربة، ان الكمال وبالتالي السعادة، لا يجد اليهما سبيلاً إلا نفر قليل من أولئك الذين توافرت لديهم قوة التخلي والاعراض". حي بن يقظان هو، كما نعرف، طفل ولد من غير أم أو أب أو من زواج سري، ووضع في صندوق رمي في البحر، وهو حين يفيق على حاله، يجد نفسه في جزيرة موحشة نائية، وعلى الفور تلتقيه ظبية كانت فقدت وليدها فترضعه وتربيه. وهو حين يصل الى سن الصبا يبدأ التعرف الى ما حوله، ويظل على تلك الحال قرابة الخمسين عاماً، متوحداً وفي هذا ما يلتقي مع "متوحد" ابن باجة يتأمل الكون حوله، ويكون لنفسه آراءه ومعارفه، من دون لغة ومن دون استاذ ومن دون أي عون بشري من الخارج. وفي سن الخمسين يكون لقاؤه مع آسال أبسال، ومغامرة توجههما معاً الى جزيرة سلامان، وفشل التجربة. من الواضح أن ابن طفيل، لم يشأ هنا أن يروي حكاية، مقدار ما شاء أن يرسم سيرة ذاتية فكرية للفيلسوف له هو أيضاً مستنداً الى نص لابن سينا. ومن هنا فإن الأحداث والمواقف والتبدلات، سرعان ما تتخذ طابعاً رمزياً لا شك فيه، ما يجعل النص كله عملاً فلسفياً لا روائياً، وعملاً فلسفياً موضوعه الانسان نفسه، مجرداً من كل عنصر يخرج عنه. وكأن ابن طفيل أراد أن يبرهن على صحة مقولة سقراط الشهيرة "اعرف نفسك بنفسك". ويقيناً أنه نجح في ذلك، حتى ولو كانت النتيجة عودته الى وحدته والى ذاته. ولد ابن طفيل عند بدايات القرن الثاني عشر الميلادي في قادس وادي آش ومن هنا لقبه "فيلسوف قادس" وتوفي في مراكش بين العامين 1185 و1186. وعرف بسعة اطلاعه إذ كان طبيباً ورياضياً ومنجماً وشاعراً وفيلسوفاً. عمل وزيراً لدى أمير غرناطة قبل أن يتوجه الى مراكش ليعمل طبيباً ووزيراً لدى أبي يعقوب يوسف، وكان هو الذي قدم صديقه ابن رشد الى ذلك الخليفة المتنور واقترح عليه شرح أرسطو. وعلى رغم تعدد كتابات ابن طفيل الفكرية، فإن "حي بن يقظان" تبقى الأهم والأشهر بين أعماله.