قد يكون كتاب "جنيات لار" الاول من نوعه في المملكة العربية السعودية اذ يجمع بين الرسم والكتابة. واحتفى بالكتاب والرسوم معهد العالم العربي في باريس واعتلت جدرانه لوحات الطباعة الملونة بالشاشة الحرير ويبلغ عددها اثنتي عشرة، بعدد الجنّيات الراقصات، وهي مجموعة انجزت شادية عالم اصولها عام 1996 بألوان الغواش، ثم اختير منها هذا العدد لمشروع الكتاب المشترك مع رجاء عالم. صدر الكتاب عن "مؤسسة المنصورية" للثقافة والإبداع وهي المؤسسة التي تلعب دوراً فعالاً في رعايتها للفنون التشكيلية السعودية وإطلاقها للعروض والطباعات الزاهية، وذلك من اجل تعريف الذائقة الغربيّة بإضاءات التصوير السعودي. ويعتبر الكتاب من أبرز مشاريعها في باريس. وقامت بتكليف تقنيين في الشاشة الحريرية، ومترجمين معروفين. وتابعت صالة "تانتوروري" الطباعة والإخراج. وأشرف على التنسيق العام ريما خضر تقي الدين. طبع من الكتاب 200 نسخة بقطع كبير 60 x 42 سم، زاهية التجليد والتعليب والتلوين، منها عشرون نسخة للقطاع الثقافي، أودعت واحدة في جناح الكتب النادرة في المكتبة الوطنية في باريس. تشرح المقدمة الآفاق البعيدة في الكتاب: "شعرنا أن للجنّيات القدرة على السفر في الثقافات محملة بمخزوننا الحضاري" "وقادت فكرة إلغاء الحدود التي تعبر عنها" الى صيغة "البورتفوليو" الذي تم توزيعه في ثلاث لغات، ترجمت الشاعرة اللبنانيّة إيتيل عدنان النص الى الفرنسية وترجمه الشاعر العراقي سركون بولص الى الانكليزية. تتصل عوالم التوأم الابداعي شادية ورجاء برحم الاساطير التي تسكن اللاشعور الجمعي المحلي، تتظاهر أصالة خصائصهما الثقافيّة من خلال وعيهما الحداثي. تستحضر رجاء حساسية مذكرات الرحالة وما يحمله رواتها من إثارة معرفية وتخيلية خاصة. وها هي تصف نهر المعرفة "لار" الذي إنبثقت منه حكمة الجنيات: "من قديم غاب النهر وغيب معه جنيات جزيرة العرب وحورياتها المعروفات بجنيات لار ... وانه سيبث من جديد". و"ذهبت القبائل تفتش عن عيونه الخفية في ذاك الرمل" أما فروعه الاربعة فهي إشارة الى اتصاله بصورة نهر الفردوس. تصف ما تراء للمسافر من مفرد الجنية: "إمرأة محبوكة في سواد يبرق جسدها ويتخفى فلا تمسكه نار ... إن الانثى نهر وأن لها قرينات محبوسات في جلد حية". يقودنا الراوي على لسانهن في مسالك شطحيّة مجبولة بالتراكم الروحي وتواصل الثقافة النخبوية، فالنصوص مثل الرسوم تتناسخ عن ذخائر المخطوطات ومنمنماتها، والإشارات والاوشام وسواها. تتقمّص المادتان البصرية والنثرية تحولات من الأمزجة السيميائية مجزأة الى محطات وجدية ممثلة في اثنتي عشرة حورية يلامس رقصها شغاف القلوب، متقاربة في رسمها من رموز الأبراج الفلكيّة. تتجلّى ثقافتهما العرفانية من خلال إندماج الجنيات في العناصر النورانية: النار والنور والسديم وعصف الهواء ومرآة صفحة مياه "نهر لار"، ثم لعبة الأعداد والحروف الجفرية" وديمومة التخلّق: "أنا الجنية والجنية، أنا الجنية وثلاث، أنا الجنيتان والعشرة، ومع ذلك فأنا لا أشبه أياً منهم ولا أشبه ذاتي الآن وبعد الآن وقبلها، أنا لا أشبه شيئاً سابقاً أو لاحقاً في التجلّي، أنا تأكيد فعل الخلق وإعادة التخلّق" وتقول الجنية الثانية: "إنشقت العقيقة ... بقلب السحب وهي مثل السيف من نور" أما السادسة فتقول: "في تلافيف الألف التي إنبثقت منها ينام النور المتجه نحو الداخل". وتقول رجاء: "بوسع الجنية أن تتحوّل إلى قطرة ماء وتنفذ في الصخر، أو الحرباء فتنفذ في المغاور السحيقة". تصف عرائس أختها المرسومة قائلة على لسان الجنية الثامنة: "إن لجسدي القدرة على الإنطواء والتكوّر ... وراء أي زاحف مكتنه لروح المعرفة". إذا راجعنا رسوم شادية للجنيات وجدنا ان الفرق الرهيف لا يكاد يبين إلا من خلال تباينات خرائط الرقص في الفراغ. تتوالد شخصية الجنية من حالات رقصها في الخط واللون والاكسسوارات وليس فقط من خلال الإيماءة الحركية. تتخلّق الجنية كل مرة، تخلع جلد الحية الزرقاء أو تتوحد مع إلتواءاتها الحلزونية، تختلط بصورة حواء المعروفة. تلتف حول جسدها وذاتها كما يلتف الحلزون حول العالم، فتلدغ الفراغ محررة مفاصلها من ربقة جاذبية الجسد الارضي. توحي مقدمة الكتاب وكأن شادية ابتدأت رسم الجنيات ثم أخذت رجاء في الكتابة عنها. ولكن تلاحم علاقتهما التوأمية لا تدع فرصة للتساؤل عمن بادر بالسياحة قبل الآخر: الكلمة أم الرسم؟ وأغلب الظن أنهما حاكتا توهجهما في زمن واحد، تتطابق فيه حيرتهما الذوقية والوجودية، تعانيان تجربة عناء البقاء والفناء نفسها، لا يفترقن حتى لا نكاد نميّز الذات عن المرآة، تروي رجاء تورية للقاح بين الصورة والعبارة على لسان الجنية الثالثة تقول: "أنا الطريق التي لا تسلك متفرداً، ولا بد أن تحمل فيها الجسد والروح على الحوار معاً حيث واحدهما للآخر مرآة". تنحت كلماتها من صور أختها فتجتمع أشواق الكلمة مع أشواق الخط واللون. "تحيا الكلمة ... حين تملك مهارة الحرفيين الذين ينقشون المطلق" وتصف الجنية العاشرة زغبها بأنه ملون كالفسيفساء، وتؤكد الأولى: "أنتقل بين الصورة وغيرها، بين الجسد ونقيضه"، وترسم الرابعة بشارتها باللون: "لا يصلكم مني لا الاصفر ولا الاخضر ولا الاحمر، لا يبطئ مني قزح ولا نحيب: كل لون ضارب مني إليكم ويشرب بنهم" وتعتلي الحادية عشرة ما ترسمه شادية: "تصعد نثرات الودع على نحري، وفي طويتك دخيلتك انت". ثم تطالع النصوص باطن الوشم الذي يصمم بواطن جلد الانثى في الرسم: "تطلب سيوفاً تسلخ عنها جلدها حتى تكشف الإشارات المخفيّة فيه". واذا كانت رجاء قد عُرفت قبل شادية، ثم تسارعت شهرة شادية بعد المعرض الاستعادي الذي أقامته المنصورية في جدة السعودية فإن العلاقة التوأمية بين الاثنتين لا تحكمها هذه الحسابات حتى ليكاد تحالفهما الابداعي يمثل حالاً متفردة، وفي مناخ لا تسيطر فيه الكلمة على الرسم، تكسر هذه العلاقة المتوازنة غطرسة بعض الادباء باعتبارهم قوامين على الفنانين. ولكن، ما سر تصاوير شادية التي سرت مثل النار في الذائقة العربية حتى اصبحت من الرموز الثقافية في المملكة، مثلها مثل باية رمز الجزائر؟ تقاوم أصالة تجربة شادية ما أشاعه الاستشراق الفني عن تحريم التصوير التشخيصي واختزال الموروث البصري الى الزخرف والرقش والفولكلور، وقد اخذت عقيدة التجريد سلطتها على اللوحة العربية ابتداءً من ركوب بعض الفنانين العرب لهذه الموجة التبسيطية. يتجاهل هذا التعميم الخسائر البليغة الظاهرة والباطنة التي منيت بها رسوم مخطوطاتنا - وإندثار المنمنمات منذ زلزال هولاكو سنة 1258، وفيه تجاوز للأيقونات والرسوم الشعبية ومسرح الظل والتصوير على الزجاج والكثير من ميادين التعبير البصري المشخّص. تواصل رسوم شادية مع معنى "التنزيه" الاسلامي في التصوير، وهو طابع ذوقي وعرفاني في آن، يُمثله غياب الظل والمنظور والبعد الثالث والحجوم. فرسوم شادية مثل تقاليد رسوم مقامات الواسطي العباسي "وعجائب المخلوقات" ومنمنمات بهزار، والطيور المغولية وعرائس مسرح الظل في القاهرة، تعتمد في توقيعها الخطي واللوني على الحركة باتجاه الاعلى والاسفل وليس الى الامام والخلف كما هو وعاء الواقع، ووهم التصوير الواقعي التشبيه. وحتى لتبدو الجنيات وكأنها عرائس مربوطة بخيطان كواليس مسرح "خيال الظل". إن بعض التجارب التعبيرية والتشخيصية العربية أضافت الى التصوير العالمي بما يتفوق على عطاء التجريديين العرب، واذا كان تعميم اي حكم نقدي من هذا النوع لا يخلو من مخاطرة فإنه لا ينطبق على تجريد نبيل نحاس وصليبا الدويهي، ولكن التوقف عند "التجريد الحروفي" يفضح جوهر الصراع المضمر، واذا كان الرواد من أمثال صايغ وشاكر حسن وعزاوي وحماد وشبرين اسسوا للبعد الروحي في الحرف فقد تحول الى مادة تجريدية استهلاكية تخضع للمواصفات الساذجة نفسها التي يلفقها المستشرقون حول فولكلور ثقافة الشرق، وبالمقابل لتنذكر اصالة اشكال حامد ندا وفاتح المدرس وزيات والزعبي وصلادي وعلي طالب والحجري وشلبية وفخر النسا. شادية بعد باية صححت هذا الوهم ممعنة في تأكيد ان الرسم التمثيلي اشد تنزيهاً في بعض الحالات واشد تواصلاً مع خزائن التخييل الشعبي من بعض انماط التجريد المكرور والمبني في اصله الغربي على ذاكرة المكان والمشهد والجاذبية الارضيّة. تمثّل شادية اليوم واحدةً من رموز التمسك بالفن النخبوي بخصائصه وتمايزاته الثقافية أمام عولمة المثاقفة التغريبية.