عناوين هذا الفيلم تؤكد انه يحمل اسمين. كان يفترض ان يعرض في مصر باسم "عزيز عيني"، وعندما يقدم في لبنان يصبح عنوانه "بطل من الجنوب". ولكن عند عرضه في مصر ولأسباب غير معلومة حمل الاسمين معاً: "بطل من الجنوب" والى جواره بحرف أصغر "عزيز عيني". وهو الفيلم الذي تعود به نجلاء فتحي الى السينما بعد فيلمها "كونشرتو درب سعادة" الذي أخرجته أسماء البكري قبل أربع سنوات. والشريط الجديد من إخراج محمد أبو سيف الذي يعرض له في الوقت نفسه فيلم "أولى ثانوي". ليس جديداً أن تقدم السينما المصرية فيلماً سينمائياً عن لبنان. الجديد هو طبيعة موضوع الفيلم الذي يدور على الصراع العربي - الصهيوني، والجهود الوطنية اللبنانية من أجل تحرير جنوبلبنان من الاحتلال الصهيوني. في تاريخ السينما المصرية ثلاثة أفلام يرد في عناوينها اسم لبنان. كان أولها فيلم "قبلة من لبنان" الذي أخرجه أحمد بدرخان عام 1945. والثاني "لبناني في الجامعة" الذي أخرجه حسين فوزي عام 1946. والثالث "مصري في لبنان" الذي أخرجه جياني فيرنوكشو عام 1952. وسواء كان ذلك في زمن سينما الأبيض والأسود أو سينما الألوان الطبيعية، نجد أن لبنان كان مكاناً وموضوعاً مهماً للسينما المصرية. إذ كانت الأسرة المصرية تفضل تمضية الصيف في لبنان - في الأفلام في الدرجة الأولى - ومنحت الطبيعة اللبنانية خلفية مهمة وجميلة للكثير من أفلام المغامرات والغربة والحب والمشاريع التجارية خارج حدود مصر. وحتى عندما يهرب الأبطال كثيراً ما يهربون الى لبنان، أو على الأقل كان التهريب يتم إما من خلال لبنان أو اليونان بالعدل المطلق. كان الاهتمام بلبنان في السينما المصرية جزءاً من الحلم القومي العربي الجميل. وما ان بدأت صناعة السينما في لبنان بالفيلم اللبناني: "مغامرات الياس مبروك" الذي أخرجه جوردانو بيدوتي عام 1929 حتى كانت الاستعانة بمخرجي مصر تمثل جزءاً جوهرياً من تراث السينما اللبنانية. من بين 198 فيلماً انتجتها السينما اللبنانية بين 1929 و1993، نجد أن نحو 43 منها اخرجها مصريون منهم: حلمي رفلة، نيازي مصطفى، سيف الدين شوكت، أحمد ضياء الدين، يوسف شاهين، فاروق عجرمة، هنري بركات، فطين عبدالوهاب، حسن الإمام، جلال الشرقاوي، عاطف الطيب. وكان أكثرهم حضوراً فاروق عجرمة الذي أخرج بمفرده سبعة أفلام. أفلام... أفلام "بطل من الجنوب" ليس الفيلم المصري الوحيد، عن بطولات جنوبلبنان. قالت لي الفنانة إلهام شاهين إن لديها سيناريو فيلم "كارجو". وكارجو اسم مركب شحن يقل مصريين يذهبون الى لبنان، ومعهم أدوية وأسلحة، فيصلون الى الجنوباللبناني في ذروة النضال ضد العدو الصهيوني، ويعودون ومعهم الأطفال اليتامى من أجل تربيتهم في مصر. وبين السفر والدواء والسلاح والعودة بالأطفال الذين لا أهل لهم، يشارك المصريون اللبنانيين حربهم المقدسة ضد العدو الصهيوني. لاحظ أن بطل فيلم "بطل من الجنوب" طفل مصري يتيه من أسرته، ويبقى في لبنان ويظهر بعد ذلك من الجنوب ويشارك في الحرب ضد الصهاينة. قالت لي إلهام شاهين إن فيلمها سيخرجه المخرج نادر جلال، وهما الآن ينتظران الحصول على موافقة السلطات اللبنانية لتصويره في أماكنه الطبيعية. "بطل من الجنوب" أو "عزيز عيني"، والعنوان الثاني مأخوذ من مطلع أغنية شعبية مصرية شهيرة ومعروفة تقول "يا عزيز عيني وأنا بدي أروح بلدي"، مأخوذ عن قصة قصيرة طويلة نسبياً هي "الشيخ عبدالله" التي تحمل عنوانها مجموعة من القصص القصيرة، كتبها شريف الشوباشي نجل الكاتب المرحوم محمد مفيد الشوباشي والشقيق الأصغر للروائي علي الشوباشي والفنانة المرحومة فاتن الشوباشي. وشريف هو الآن مدير مكتب جريدة "الأهرام" في باريس، وقد ظهرت عليه أخيراً أعراض كتابة القصة والمسرحية وأصدر مسرحية عن القدس، وهذه المجموعة القصصية، وكتاباً عن المسلمين في أوروبا. المجموعة أصدرها على نفقته الخاصة عام 1994 عن "مطابع الأهرام التجارية". وقصة "الشيخ عبدالله" تحتل الصفحات من 5 الى 28 من الكتاب الذي يحتوي تسع قصص أخرى. وقصة "الشيخ عبدالله" تبدأ هكذا: "وقفت شفيقة هانم من البلكون الكبير المطل على حديقة المنزل تنتظر زوجها بلهفة وقلبها ينبض بمشاعر متباينة". وشفيقة هانم تنتظر زوجها حلمي بك تادرس الذي تلقى أخبار عن ابنهما "ملاك" الذي فقد وهو في الثانية من عمره، في بيروت يوم 13/7/1960. وكان ضياعه عادياً عندما كان الأب والأم يشتريان شيئاً من شارع الحمراء، وان كان التيه في الفيلم يتم خلال الحرب اللبنانية في منتصف السبعينات. وفي الفيلم، اسم البطل عزيز وهو في القصة ملاك. وفي الفيلم نجد أن الطفل وحيد أبويه. ولكن في القصة له شقيقتان هما: فايزة الابنة البكر، وسارة التي ولدت بعد اختفاء ملاك. كلاهما القصة والفيلم يستعرض الحرب اللبنانية بمراحلها المختلفة. القصة تتوقف عند التطورات التي شهدها لبنان حتى وصل الى الحرب، وهذا يتم في منتصفها، في مكانه الطبيعي. أما في الفيلم فأول ما نلقاه، ولمدة ليست قصيرة، هو صوت المذيع حمدي قنديل زوج الفنانة نجلاء فتحي، يحكي ما حدث في لبنان من تطورات سياسية مهمة. سمعت مشاهداً في جواري يقول لزميله ان المدة التي استغرقها صوت حمدي قنديل عشرون دقيقة. وإن كنت أعتقد أن في ذلك مبالغة مصرية. وبعد هذا الحكي الصوتي الذي ترافقه صور عن المأساة تنزل عناوين الفيلم. البحث عن ملاك في القصة يبحث عن ملاك رجل أعمال مصري هو حسن عبدالعال، زوجته صديقة لأم ملاك. أما في الفيلم فمن يتولى البحث هو صديق لبناني. في القصة نجد أن السيدة التي ربت عزيز - وعزيز وملاك شخص واحد - وأصبحت أمه بالتربية والتبني سيدة محجبة. ولا نعرف هل كانت محرومة نعمة الانجاب أم لا. أما في الفيلم فكانت سافرة، وعزيز هو ابنها الوحيد. لذلك تعارض في البداية عودة الصبي الى أمه المصرية. ووالد ملاك في القصة صاحب لحية مسترسلة بيضاء. ولكن في الفيلم والد عزيز انسان عادي من دون لحية. تيه الطفل يختلف بين القصة والفيلم. في القصة يتيه في تاريخ محدد، باليوم والشهر من سنة 1960. ويتم من دون اجراء تفجيرات. وإذا كان التيه في الفيلم سببه تفجير خلال بدايات الحرب، فإنه في الفيلم يبدو أقرب الى التصديق الفني والانساني. في الفيلم نجد أن عبدالله يقاتل العدو الاسرائيلي في جنوبلبنان حتى يتم التحرير وانزال العلم الصهيوني، ويرفع العلم اللبناني. وقد شهدت هذه اللحظة حالاً من التصفيق والهتافات من جماهير الصالة. ولكن في القصة نكتشف ان عبدالله كان يتردد كثيراً على المسجد القريب من البيت، لذا بدأ يحرص على قتل المسيحيين اللبنانيين. الأول يدور على نضال اللبنانيين ضد العدو الصهيوني، والثانية تحكي عن الحرب الطائفية في لبنان. وهذه مرحلة وتلك أخرى. وان كنت أرى أن طبيعة الصراع الطائفي من القصة أقرب درامياً الى الموضوع، فالبطل انتقل - من دون أن يدري - من دين الى دين. في القصة يسافر الأب والأم الى لبنان بمجرد تبلغهما اخباراً عن ابنهما ويصلان الى الشيخ الذي رباه. وعندما يعرف الابن حكاية أبيه وأمه المسيحيين، يطلب مهلة للتفكير، لكنه يهرب خلال الليل ولا يريانه أبداً. والقصة تنتهي هكذا. وضعت شفيقة راحتها اليمنى على فمها، وقالت وهي تكتم دموعها: "كان نفسي أشوفه ولو دقيقة". اختلاف لكن الوضع يبدو شديد الاختلاف في الفيلم، لأن الوالد يعود ويترك الأم بمجرد معرفته ان الابن أصبح مسلماً. والأم تستمر حتى يحضر ابنها ويدور صراع كوميدي بين الأم المسيحية المصرية التي أنجبت، والأم اللبنانية المسلمة التي ربت. والصراع على قلب الابن، وان كان هو يهرب من الجميع ويتجه الى الجنوب. وتتبعه أمه - المصرية - الى هناك حيث يشارك في تحرير الجنوباللبناني ويستشهد. من الناحية الأدبية، فضلت نهاية القصة على نهاية الفيلم لأن الابن يظل مجهولاً لنا ولأمه. وبالتالي يظل يوحي لنا بالكثير من الدلالات المهمة والجميلة التي ربما وصلت الى حدود الرمز، خصوصاً ان ظهور الابن لم يرتبط بالنظر في أعماقه ودلالة رد الفعل لديه على هذا الظهور المفاجئ لأم أخرى من ديانة مغايرة بالنسبة اليه. نحن لم نقترب من أعماق الابن. وكذلك ابتعدنا عن أعماق الأم المسيحية التي تقابل ابناً لم تره مذ كان عمره عامين فقط. هذه الأم التي لم تر ابنها من قبل، تدخل في صراع من أجل الحصول عليه وأخذه من الأم التي ربته. أيضاً فإن مسيحية الأم نجلاء فتحي والوالد أحمد خليل لم نلحظها. أنا لا أقصد علامة الصليب التي تعلق على صدور النساء. ولكن السلوك ومفردات الكلام والنظرة الى العالم. انهما فقط يقولان انهما مسيحيان وكفى. جنوبلبنان بكل روعته وبهائه وجماله، كان مجرد خلفية للأحداث. ولم يستغل أكثر من هذا. كانت هناك حال غزل بين الناس العاديين في لبنان وخصوصاً الجنوب والمجموعة التي مثلت هذا الفيلم، مع أن معظم ممثلي الفيلم من أهل لبنان. وما دامت كانت هناك مشاركة من الممثلين اللبنانيين في الفيلم حيث لم يكن هناك سوى ممثلَيْن من مصر فقط، لماذا لم تكن هناك مشاركة لبنانية في كتابة السيناريو، أو الاخراج حتى لا يقتصر الأمر على المشاركة في الأداء فقط، ولكن يتعداه؟ وهذا هو الأكثر أهمية الى المشاركة في وضع أساس الفيلم. فالمشاركة في الأمور الجوهرية والأساسية في الفيلم توفر نوعاً من الرؤية المشتركة، وتجعل "بطل من الجنوب" فيلماً مصرياً يدور على قضية لبنانية، حتى تتسق الأمور وتستقيم المعالجة. بقي ان نعرف أن فيلم "بطل من الجنوب"، "عزيز عيني"، من بطولة نجلاء فتحي التي قامت بدور الأم المسيحية المصرية، وأحمد خليل وكان دوره أقل بكثير من دورها، الأب المصري المسيحي. من لبنان هناك من الفنانين كارمن لِبّس في دور زينة، الأم المسلمة اللبنانية، وجوزيف بونصار في دور الأب اللبناني نصار، ودانيال مطر، في دور الابن المسيحي المصري عزيز، والمسلم اللبناني عبدالله، وميدا ستراح في دور مريم حبيبة عبدالله، ورياض شيرازي في دور المدرس الجاسوس. الفيلم عن قصة شريف الشوباشي "الشيخ عبدالله". وضع له السيناريو والحوار أشرف محمد وهو الشاب نفسه الذي كتب السيناريو والحوار لفيلم "أولى ثانوي" عن قصة لمحمد أبو سيف، وهو حاصل على "جائزة نجلاء فتحي" لأفضل سيناريو مكتوب في مهرجان الاسكندرية السينمائي الدولي. هذا الفيلم من انتاج الفنانة نجلاء فتحي، وان كان سوق على ان منتجه محمد ياسين، وصوّره سعيد الشيمي وأخرجه محمد أبو سيف. ويعد خامس فيلم له، علماً ان فيلمه الرابع المعروض الآن في مصر "أولى ثانوي" أفضل ألف مرة - من حيث اللغة السينمائية ومفرداتها - من فيلمه الخامس. تبقى آخر قضايا هذا العمل. ما هي رسالته؟ يريد الكلام على دور مصري في كفاح اللبنانيين ضد الصهاينة في جنوبلبنان؟ أم يريد أن يحتكم الى رسالة القصة المأخوذ عنها الفيلم والقائلة ان الانسان يمكن أن يكيف نفسه مع أي دين، وان فطرة الانسان أقوى من دور الأسرة التي تختار لابنها ديانة لم يكن له أي دور في اختيارها؟ أم أن الهدف الخروج على المواضيع السائدة والمعتادة والمكررة في السينما المصرية الآن على شكل "موضة" تسود بعض الوقت ثم تنخفض، لملل الجمهور منها. وبالتالي قدر صناع الفيلم الهرب الى لبنان الذي اختفى من الشاشة المصرية منذ بداية الحرب فيه، أي منذ ربع قرن من الزمان، أملاً بأن يحقق بعض النجاحات. شاهد المصريون الفيلم، ومتابعة مدى قدرته على الصمود في دور العرض ستمثل نصف الحقيقة فقط، لأن النصف الجوهري، وربما كل الحقيقة، حقيقة هذا الفيلم وجوهره، هو موقف الجماهير والصفوة في لبنان منه. وهذا لن نصل اليه قبل عرضه في لبنان ليس عرضاً خاصاً، ولكن أمام الجماهير العريضة، وهو ما لا يمكن الكلام عليه الآن. * روائي مصري.