كشف مهرجان بيروت للسينما في دورته الثالثة بعض الجوانب التي تحيط بالعملية السينمائية كافة. جوانب تتعلق بالانتاج وبالتوزيع وبالتمويل وبالثقافة السينمائية والاقبال الجماهيري من عدمه. لكن الأهم منها جميعا هو السؤال عن السبب الذي من اجله يواصل السينمائيون السعي لتحقيق الافلام. والحديث ليس عن المخرجين الذين تمكنوا من تحقيق افلامهم الطويلة فقط، والذي يمسك كل منهم بسيناريو فيلم جديد يريد تنفيذه اليوم قبل غد، بل ايضاً اولئك الذين قاموا ويقومون حالياً باخراج الأفلام القصيرة روائية أم تسجيلية. هذا السؤال جائز بسبب الوضع الاقتصادي العام والوضع الاقتصادي الخاص بالعمل السينمائي. الاول لا يخلو من الجمود والحذر بسبب الوضع السياسي وتكلفة عملية السلام التي لا تبدو تتقدم كثيراً على الجبهة اللبنانية/ السورية، والثاني مترد الى حد بعيد ليس فقط بسبب الوضع الأول، بل ايضاً لأن السينما اللبنانية عمرها ما كانت مزدهرة فعلياً الا في ثلاث مناسبات: الأولى عندما ورد السينمائيون من مصر في مطلع الستينات بحثاً عن فرص تحقيق افلامهم في الربوع اللبنانية فتلقفهم الممولون اللبنانيون الذين طالما أحبوا السينما المصرية السائدة ورغبوا الانخراط فيها. نتيجة ذلك نحو 35 فيلماً مصرياً في سنتين ونصف جلبت الى جبال لبنان وسواحله فاروق عجرمة وهنري بركات وحسن الامام ويوسف شاهين وكمال الشناوي وشادية وعبدالسلام النابلسي ونبيلة عبيد والساحرة الى الأبد سعاد حسني من بين آخرين كثيرين. والثانية في مطلع السبعينات عندما اقدم اربعة مخرجين لبنانيين لم يسبق لهم العمل من قبل على تحقيق خمسة افلام روائية طويلة… هؤلاء كانوا رفيق حجار الذي بدأ مشروعاً بعنوان "النهر" ثم جف التمويل قبل ان ينتهي، جورج شمشوم الذي قدم فيلمه الأول "سلام بعد الموت"، سمير الغصيني الذي حقق "قطط شارع الحمرا" وسمير خوري الذي اندفع وراء مغامرة جريئة بعنوان "الذئاب لا تأكل اللحم". اما الثالثة ففي مطلع الثمانينات، ووسط الحرب عندما طغت موجة من افلام المغامرات والكوميديا ميدان العمل السينمائي في عز الحرب الأهلية. يوسف شرف الدين وقف وراء "الممر الاخير" و"القرار" و"الليل الاخير" ما بين 1979 و1981 وسمير الغصيني اخرج ثلاثة افلام بدوره هي "حسناء وعمالقة" و"نساء في خطر" و"المغامرون"، بينما قدم مروان رحباني فيلمه اليتيم الى الآن وعنوانه "آخر الصيف" وأخرج رضا ميسر "المتوحشون" الذي صوره في خمسة عشر يوماً بينما عمد محمد سلمان شيخ السينما اللبنانية على اكثر من مقياس الى تقديم "من يطفئ النار". مشروع معلق هذه المجموعة كانت تجارية، لكن الفترة ذاتها شهدت انتاج عدد من الأفلام ذات المضامين الجادة: رفيق حجار انجز "الملجأ" ثم "الانفجار" وبرهان علوية كان سبقه الى "بيروت اللقاء" بينما اخرج مارون بغدادي فيلمه المفاجأة "حروب صغيرة". ومن زاوية قصية قدم اندريه جدعون فيلمه الأول والاخير ايضاً "لبنان رغم كل شيء". قبل هذه الموجات وبعدها بقيت السينما اللبنانية مشروعاً معلقاً على خطوط المتغيرات والفرص المتقلبة. لكنها لم تتوقف تماماً الا لتلم انفاسها وتلتحم من جديد بالطموحات الفردية التي تحقق مخرجيها. في العامين الماضيين اطلقت السينما اللبنانية اربعة افلام روائية طويلة هي حسب ورودها "بيروت الغربية" لزياد الدويري و"أشباح بيروت" لغسان سلهب ثم "المتحضرات" لرندة الشهال و"البيت الزهر" لجوانا حجي توماس وخليل جريج. الجامع بينها كلها هو ان التمويل ورد من فرنسا وليس من لبنان وهو الأمر الطارئ على السينما اللبنانية ككل، فهي لم تتعود الذهاب الى فرنسا طلباً للتمويل الا في السنوات الاخيرة من الحرب وما بعد. وهناك خيط آخر مشترك بين هذه الافلام الأربعة وهو ان الحرب الأهلية موجودة بكثافة ان لم يكن في المقدمة ففي الخلفية. "بيروت الغربية" يدور حول تجربة فتى وصديقيه صبي وفتاة خلال السنوات الأولى لتلك الحرب و"متحضرات" يدور في رحاها. لكن غسان سلهب غلف، بذكاء، هذه المرجعية فاذا بفيلمه يدور في رحى الحرب انما من دون ان نرى مشهداً واحداً منها وعنها نسمعها من بعيد. اما "البيت الزهر" فتقع احداثه مباشرة بعدها. وبينما تناولت المقالات النقدية الافلام الثلاث الاولى، بالايجاب معظم الاحيان، يحين الوقت لإلقاء نظرة على الفيلم الرابع الذي كان، و"متحضرات" الاشتراكين اللبنانيين الطويلين في الدورة الثالثة لمهرجان بيروت. خلاف بعد الحرب يفتح "البيت الزهر" على حياة تنشط بعدما سكتت المدافع. الحي الذي تنقله الينا لا بد واقع في مكان من شرقي خط التماس. وهعناك زحمة سير وشخصيات تتكدس على الطريق وتحدث في ما بينها بنبرة تبدو عالمية بعدما صمت الرصاص. لكن عائلتين لبنانيتين العضيمي ونوفل تشتركان في العيش في "البيت الزهر"، وهو بيت قديم لجأتا اليه بعدما هجرتا من منطقتيهما قبل عشر سنوات. في اليوم الأول من الأحداث يستقبلان رجلاً اشترى البيت من اصحابه الاصليين وينوي هدمه وبناء مجمع تجاري مكانه، وهو يطلب، بلطف ملحوظ، من افراد العائلتين اخلاءه لقاء تعويض مقداره 12 الف دولار لكل عائلة. رغم اختلاف في الرأي الا ان العائلتين تقرران الصمود والتحدي وعدم الإخلاء. وهذا ما يحدث انشقاقاً في الشارع. اذ هناك من يفضل هدم البيت واعمار المبنى لعل تجارته تتطور. وبعض المعارضين ليسوا سوى شق من احدى العائلتين. مع هذه الشخصيات المتعددة والخلاف بين كل فريق وآخر يمضي المشاهد مدة عرض الفيلم نحو ساعة ونصف في متابعة مثيرة وموحية معظم الوقت. ما يميز "البيت الزهر" عن غيره من الافلام اللبنانية التي انتجت اخيراً، كونه لا يريد فتح ملفات القتال ذاتها، بل البحث في بعض آثارها على بعض الفئات الاجتماعية. الميزة الثانية هي انه في حين يتحدث "بيروت الغربية" عن شخصيات بيروتية سنية و"أشباح بيروت" عن شخصيات من بيروت الغربية غير محددة طائفياً و"متحضرات" عن شخصيات مسلمة ومسيحية، فان "البيت الزهر" يخص نفسه بالحديث عن شخصيات مسيحية وبذلك يحدد اطاره منفصلاً اكثر عما سبقه من افلام خصوصاً وان قلة من الأفلام اللبنانية التي لها علاقة بالحرب، سبق لها وان تعاملت مع وجهة النظر المسيحية في ما حدث. هذه المزايا مهمة لكنها لا تمنح "البيت الزهر" الا حدودها من الحسنات. في الحقيقة لا يخلو هذا البيت من مشاكل بناء كمنت في السيناريو الذي وضعه المخرجان قبل ان يجيء الطرف الفرنسي بكاتب ثالث انجز السيناريو الذي تم التصوير عنه. قيمة رمزية المشكلة هنا هي ان الفيلم يبدأ ساخراً مليئاً باللقطات الحية التي توفرها فكرة ذكية قابلة للتطوير. لكن لمعانها هو اول ما تفقده في النصف الثاني من الفيلم عندما تتضح المواقف ويتم انقسام شخصيات الفيلم الى فئتين. ما يحدث هنا هو ان السخرية تضمحل وتبقى الاحداث سائرة على نحو مستقيم اقل إثارة مما بدأت عليه. ربما كمنت المشكلة في السيناريو الاول او برزت بعد اعادة كتابته، لكن الوضع تطور من عمل يعلق على حال النقلة الاجتماعية التي صاحبت تلك الفترة، الى عمل يتحدث "أساساً - عن شخصيات ترفض شيئاً ثم تقبل به من دون قراءة في ذواتها الداخلية. وهذا القبول ثم الرفض لا يمتد ليخلق صراعاً حاداً ما بين شخصيات البيت الواحد، بل يبقى على صعيد اهله والشارع بنتيجة محدودة التبلور بدورها. في الفصل الاخير تتبدى رغبة المخرجين في الاتجاه بفيلمهما الى حالة من الفوضى المدروسة، مبررة فقط بعدم قدرة احداث الفيلم ومفارقاته تأييد المجرى الاخلاقي الذي حاول المخرجان بثه. على ذلك، وحتى في هذا الفصل هناك قيمة رمزية شفافة قد تصل الى فريق من الناس دون آخر، وهي ان البيت اللبناني التقليدي انهار من بين ما تم انهياره وهدمه في تلك الحرب وعائلتاه آثرتا أخذ المال والهرب على البقاء فوق آلام الأمس. التالي جزء من حديث دار مع المخرجين المتزوجين جوانا وخليل، بعد عرض الفيلم، يكشفان فيه عن كيفية وضع الفكرة والتعامل مع الشخصيات والسيناريو والنظر الى الوطن في الحرب وخارجها. جوانا: لا ادري كيف ولدت الفكرة لكني وخليل كنا خلال السنوات الماضية نلتقط صوراً كثيرة عن مخلفات الحرب وآثارها. وكان يستوقفنا دائماً سؤال حول ما الذي يمكن فعله بتلك الآثار المهدمة. السؤال لم يكن يتطلب اجابة هندسية او معمارية، بل اجابة ربما اجتماعية او ابداعية خصوصاً وان المستوحى منها جميعاً هو اسئلة لم تطرح كفاية. خليل: عندما بدأت التصوير الفوتوغرافي توجهنا الى اقامة معارض كتبت "الحياة" عن احدها ذات سنة. لكننا لاحظنا ان هناك اختلافاً في هذه الصور الملتقطة كل عام عن العام الذي قبله. وهذا أسّس عندنا نظرة عن بيروت وحاولنا ان نستلخص من هذه النظرة مراجعة شاملة للمفهوم الميثولوجي لبيروت القديمة، ولما هو مطلوب من وراء اعادة اعمار بيروت - أي: أي بيروت نريد: تلك القديمة التي تلغي الحرب وتحاول مواصلة المسيرة من السبعينات او تلك الجديدة التي تقطع جذورها مع كل الماضي. خليل: كنا نصور وكنا نكتب في الوقت ذاته. وبالتدريج صار لدينا مرجع مكتوب اشبه بسيناريو تجريبي. كنت وجوانا ننقل فيه كل الأحداث والمفارقات والملاحظات على نحو قصصي. هذا كان في البداية الاولى قبل ان نفكر في وضع السيناريو لهذا الفيلم. جوانا: كان من الصعب تناول 23 شخصية ناطقة وتقديم وضع خاص مميز لكل منها. رغم ذلك نلاحظ ان كل شخصية لها دور في التركيبة العامة. ولكل شخصية من العائلتين، خصوصاً، لديها قصة خاصة. بالتأكيد لم تكن هناك مساحة في الفيلم للتوسع في هذه القصص لكنها محسوسة، هي والمواقف المختلفة للبعض منها. خليل: مشكلتنا كانت مع وجود كل هذه الشخصيات في فترة تطوير محدودة. لم يكن سهلاً خلال التصوير الذهاب الى كل منهم والتحدث اليه منفصلاً. كان لا بد من حلول قبل التصوير للاستفادة من الوقت ضمن الميزانية المحدودة. وهذا جعل الادارة جماعية الى حد معين والتحضير مفصلاً كان لا بد ان يسبق التصوير حتى تكون المواقف واضحة ومفصلة. خليل: ألاحظ في الأفلام اللبنانية جانبين: الاول يحاول القول ان ايام القتال كانت افضل، والثاني يحاول ان يرسم خطوطاً توفيقية. وبيننا، الجانب الثاني يخيفني اكثر. اما الاول فله علاقة بالهوية التي نريدها وهذه العلاقة هي الدافع للحديث عن الحرب حديثاً جاداً.