أدخله عمر البشير السجن جدياً هذه المرة. يوم 29 حزيران يونيو 1989 اعتقله مناورة مع قادة الأحزاب الآخرين ليضمن تأييداً للانقلاب. كان من سجنه يدير كل شيء. وعندما طالت إقامته همس في أذنه أحد رفاقه في الجبهة القومية والزنزانة: "لعل صاحبك نسينا"! أسكته الشيخ: "إخفض صوتك. لا تفضحنا". وطال الاعتقال نحو ستة شهور. وسأل الرئيس الراحل حافظ الأسد الفريق البشير وهو يزوره في دمشق عن الشيخ.. طلب منه اخراجه من السجن، فارتبك. ضحك الترابي وقال لي عندما التقيته قبل أشهر: "الأسد الذي أعرفه جيداً وكانت لي معه جلسات وهو يحترمني، لم يكن يعرف أن اعتقالي كان تمثيلية لا بد منها لإنجاح الانقلاب". كان الشيخ زار دمشق إبان حرب الخليج الثانية، وانتقل منها إلى بغداد. سعى يومها إلى جبهة تواجه التحالف ضد العراق. يعاني الشيخ في سجنه الآن. جلسنا في دارته بالخرطوم، في غرفة بلا ستائر. مكشوفة إلى الخارج. قال: "أنا مصاب بالكلوستروفوبيا الخوف من الأماكن الضيقة بعد دخولي السجن مرات. لا أحتمل الأماكن المقفلة". لكنه لا يخاف السجن... "حتى زوجتي سجنت". سيلجأ إلى القراءة. "قرأت في السجن نحو ألف كتاب. هذا ليس متاحاً لي خارجه حيث زحمة الناس". يجتمع في منزله ظهر كل يوم المئات للأكل و...الديوانية. أما النفقات فلها من يتولاها. "بنت المهدي. إنها الآمرة في... الداخل". يقصد الدار. سعيه إلى حلف بين بغدادودمشق ليس وحده لم يتحقق. حاول من قبل في حوارات في ليبيا "حيث الإسلاميون موجودون، لكنهم بلا تنظيم". من قبل ذلك حالف جعفر نميري وأقنعه بسن "قوانين إسلامية" أثارت الجنوبيين. وسرعان ما انقلب عليه الجنرال وأدخله السجن. ودخل حلفاً مع الأمة والاتحادي نهاية الثمانينات، وتولى وزارة الخارجية. لكن الحليفين تخلصا منه وهو في تونس مع اللجنة الوزارية العربية لحل مشكلة "الحكومتين" في لبنان. وعزلاه من الوزارة. عاد إلى الخرطوم ليثأر. كان البشير في الجنوب. جاء به إلى العاصمة ليقود انقلاباً مع مجموعة من ضباط الفرقة الموسيقية وفرقة الأطباء! بعد عقد من التحالف انفرط العقد، وانقلب الجنرال على الشيخ وأدخله السجن. هذه المرة ليست تمثيلية. اتقن العيش بين انقلاب عليه وانقلاب على الآخرين، من يوم انقلب على "الإخوان" الذين خرج من عباءتهم، وشق طريقاً ثالثاً محفوفاً بالمخاطر والتآمر، بين الختمية والأنصار، الطائفتين الكبيرتين. "الطريق الثالث" تحديه الدائم. وسبب توتر علاقته مع مصر، الشقيقة الكبرى. لماذا لا تكون الخرطوم "عاصمة إسلامية" قائدة، مثل قاهرة الأزهر؟ أطلق مشروعه الحضاري ونهج خطاً جلب له الكثير من المتاعب، في الداخل كما في دول الجوار ودول العالم الأخرى التي رأت فيه "مشروعاً مشابهاً للجمهورية الإسلامية في إيران". أعطى دوراً جوهرياً للمرأة. قال لي: "فاجأتهم في قم عندما دخلت مع وفد كبير على الملالي. كانت معنا سودانية. لم يكتشفوا وجودها إلا بعد بدء الحوار. أربكتهم"... "كفرني بعض الاسلاميين بسبب نظرتي إلى المرأة. أنا من دعاة الاجتهاد والحوار والجدل. لماذا نقفل باب الاجتهاد؟ أنا من دعاة حوار الحضارات. انا مثل محمد خاتمي يهمني الشباب، وهم معي، ومعي النساء. والنقابات ونصف الضباط وجيش الدفاع الشعبي... وهؤلاء يمكن أن يفعلوا أي شيء". ماذا سيفعلون الآن وهو في السجن؟ هذا المشروع انتهى به إلى فراق مع البشير. لكن المشروع لم ينتهِ. يرفض مقولة ان السودان لا تؤهله ظروفه وتاريخه لقيادة العالم الإسلامي، كما هي حال السعودية مثلاً أو مصر أو... "لماذا لا يقوم مشروع حضاري في السودان؟ ألم تنطلق الدعوة الإسلامية من مدينة متواضعة وانتقلت الى أرض الحضارات في ذلك الزمن، إلى أرض فارس وبيزنطيا؟". مع ذلك يؤكد أنه لم يصدر مرة واحدة في حياته فتوى. "أنا أصدر رأياً، مشورة، موقفاً فقط". "أنا لا أعترف بالجماعات الأصولية المتطرفة... لكنني لا أغيّب أسباب قيامها". أما مجموعة العلماء الذين يقفون إلى جانب الفريق فيسميهم "مجموعة القلماء"، نسبة إلى القلم. يشعر بمرارة لأن رفاق درب "خانوه وطعنوه". يروقه دور المنظّر. "بعد الستين يجب أن يتقاعد السياسي، ليكون مستشاراً، مرشداً، كاتباً مفكراً مخططاً...". لكنه لا يخلو من تلون. يعطي جليسه أحياناً كثيرة ما يرغب في سماعه. ولا تخونه الثقافة هنا، وإن رأى بعضهم أنها "خليط سهل". واسع الاطلاع، درس في بريطانيا وفي فرنسا. عالم في الشرائع الدينية وحقوقي في القانون الدولي من السوربون. يؤلمه في سجنه أن البشير أمر باعتقاله. شبه العلاقة بينه وبين الجنرال، عندما انفجر الخلاف علناً بينهما نهاية العام 1999، بالعلاقة بين تروتسكي وستالين! يقول بعض حاشيته "كان عليه أن يرفض رئاسة البرلمان لأنه بذلك كان في مرتبة دون الرئاسة! لكنه كان مضطراً من أجل تمرير القوانين التي تخدم مشروعه". كانت الحواجز العسكرية المنتشرة إلى مقر الرئاسة توقفه وهو في طريقه للقاء حليفه الفريق، وتسأل السائق "من معك؟". يضحك: "عندما سأل العسكري السائق مرة أين الشيخ... أجبته بنفسي: ليس هنا!" يشعر برفعته إلى حد يبدو فيه أحياناً منفراً. لديه اعتداد بالنفس كبير. مشروعه الحضاري كان خطوة على طريق نهجه باكراً. فالشيخ إبن الشيخ صاهر المهديين ولم يدخل عباءتهم. حاول أن يغير واقعاً متجذراً في المجتمع السوداني. سعى بجبهاته وحركاته إلى بناء طريقٍ ثالث، ونجح وأخفق. انقلب وتقلب. "أنا لست طائفياً كغيري. ليست عندي طائفة كالمهدي والميرغني". لهذا ربما اهتم بالسياسة الحزبية أكثر من اهتمامه بالتيارات الدينية التقليدية، وأعطاها زخماً شبابياً. وذهب إلى حرم اللغة. أعاد ترجمة المصطلحات السياسية ومفاهيم الكلمات المعربة عن اللاتينية واليونانية ليمعن في التغيير. وضع كتاباً أطلق فيه مسميات جديدة بدءاً من كلمة "دولة" التي لا تعني بالعربية الثبات والاستقرار بقدر ما تعني التحول. "نحن قبائل متحركة، كل واحد له خيمته وعشيرته فقط! يجب أن نترجم State "السلطان"، أي بمعنى السلطة". يريد أن يختلف عن السائد. كنا نهم بالغداء إلى مائدته. ضحك وهو يتحايل لئلا تغوص أكمامه في الطعام: "لماذا لا نغير ثيابنا التقليدية؟ هذا ثوب فضفاض يناسب طبيعتنا الحارة. لتكن الأكمام مزمومة فلا تسابق أفواهنا إلى الطعام. لتكن العمة قطعة واحدة مهواة كما القبعة لتبريد الرأس في الجو الحار فلا نرتبك في ترتيب هذه. ليكن السروال ربما شبيهاً بما يرتديه الباكستانيون". قال مرة ممازحاً الصينيين الذين جاءت شركاتهم للعمل في السودان بعدما قاطعته الشركات الغربية: "لماذا لا ترسلون إلينا مليون صيني يتزوجون فننجب عرقاً هجيناً جديداً يعرف كيف يجد ويعمل جماعياً؟". ويضيف: "أهلنا هنا كسالى. في الجنوب يجلسون تحت الشجرة وينتظرون حتى يتساقط عليهم ثمرها. لا يكلفون أنفسهم عناء الصعود إليها لقطف الثمار"! رجل يسكنه هاجس التغيير، كبيره وصغيره، لا يفاجئ انتقاله من جانب البشير إلى جانب جون قرنق زعيم "المتمردين الجنوبيين". ما يفاجئ أن يتذكر الذين انقلب عليهم عام 1989 أنه يوم عاد من تونس كان الميرغني يبرم اتفاقاً مع قرنق في أديس أبابا وكان رأس الترابي هو الثمن، فأخرجوه من الخارجية فرد بأخراجهم من الحكم... والبلاد. واتهموه لاحقاً بأنه لا يمانع في انفصال الجنوب. لماذا إذاً لا يلتقي وقرنق؟ لكن له وجهة نظر أخرى. قال لي، إثر خلافه مع البشير، والحديث عن الجنوبيين: "عندما طرح الجنوبيون الفيديرالية رفض الشماليون. أنا طرحت الفيديرالية، وقلت: لهم قوانينهم ولي قوانيني. أنا اؤمن بأن قرنق يريد وحدة السودان. أنا لا أريد انفصال الجنوب. أنا وضعت قانون انتخاب الولاة ومجالسهم وحكوماتهم المحلية. وهذا ما أخاف الجيران، انها الديموقراطية. المصريون يخافون من حكاية تقرير المصير للجنوب بسبب النيل. لديهم عقدة النيل. الحزب الاتحادي في السودان حليفهم هو الذي انتزع استقلال السودان منهم ومن بريطانيا". يضحك: "قال مبارك لعمرو موسى: فين الترابي جيبوه لي!"