أيادٍ مرفوعة، نظرات امرأة مستيقظة أو ربما مستسلمة، رأس حصان ومصباح كهربائي... شكلت جميعها ما يشبه "غرينكا" اللوحة التي رسمها بيكاسو. سنة 1937، وتعتبر من أشهر اللوحات في تاريخ الفن، وإذا كان المكسيكي دافيد سيكويروس الرسام والمقاتل في صفوف اليساريين الإسبان تورط في لوحته، "الطفل الباكي"، أكثر من بيكاسو بالحرب الإسبانية، إلاّ ان الأخير تعمّد في لوحته غرينكا على ابقائها صورة معبّرة عن كل مجزرة ترتكب ضد الأبرياء والضعفاء... لوحة "غرنيكا" هذه تحولت خلفية اساسية لمسرحية "فصيلة على طريق الموت" للمخرج المغربي حسن بنجدي. عمل ثاني يطل بنجدي عبره في لبنان، بعد مسرحيته الأولى، "يرما" غارسيا لوركا، التي عرضت السنة الفائتة على خشبة مسرح "مونو" أيضاً. والملاحظ تأثر بنجدي واهتمامه بالمسرح العالمي بيكيت، لوركا، جينيه، على رغم تقديره العميق لقياديي المسرح المغربي أحمد الطيب العلج والطيب الصديقي واعجابه أيضاً بأعمال "ونوس" والكتّاب المسرحيين الطليعيين... "فصيلة على طريق الموت" نص مسرحي للناقد والكاتب المسرحي الإسباني "الفونسو ساستر" مواليد مدريد سنة 1926. وكما هي حال معظم فناني الحقبة الستينية نرى نصوص ساستر المسرحية مرآة لمجتمع يسوده العنف ودماء الحرب. مجتمع يتميز بالفوضوية واللاعدالة، بالاستبداد واللامستقبل... "بخار" متصاعد، موسيقى تعلن التوتر العام وخطى تعكس العنف والموت. هكذا بدأت "فصيلة على طريق الموت". بدأت بخطى خمسة جنود يتحركون تحت إمرة عريفهم "خوان". جنود يمتلكون ماضياً قاسياً. هم مجبرون على القيام بأعمال أكثر قسوة... أحداث تراجيدية متصاعدة لا تخلو من التراجيكوميديا خصوصاً في شخصية "أنديا"، الجندية الفوضوية التي لا تؤمن بالنظام ولا تتقيد بالقوانين... "تراجيديا" تبدأ من صراع الجنود الستّة داخلياً. جنود أوكلت القيادة العسكرية اليهم مهمة تفجير حقل للألغام. فصيلة تجسد مآسي الحرب والحكم العسكري والصراعات الأهلية والدولية. أما السينوغرافيا فمتشابكة، من لوحة "غرينكا" لبيكاسو الى الأشياء العسكرية المنتشرة علب ذخائر، أفرشة... ووصولاً الى صناديق موضوعة الى جانبي الخشبة. صناديق استطاعت ان تخلق ضمن اللوحة إطاراً مشهدياً "يعكس" مآسي الحياة العسكرية. شباب اقتادتهم ظروف مجتمعهم الى غمار حرب ليسوا مسؤولين عن اندلاعها. وهنا نتلمس اسقاطاً تاريخياً مستخدماً في المسرحية. فإحدى الجنديات الأربع والمجبرات على الخدمة، الأستاذة أغاتا"، تعمد الى ادخال الحرب الإسرائيلية - العربية. كيان اسرائيلي متغطرس حكم على أجيال عدة بالنفي والعدم. كيان يرى الذل منبعثاً عليه من محيطه! وروعة هذا الإسقاط في أنه نقل على يد الأستاذ "أغاتا" التي تؤمن بالحب والسلام والعدل. وتؤمن بالإنسانية الغائبة عن عصرنا. الى جانب الإسقاط التاريخي هناك "تغريب" على طريقة "بريشت" و"ونوس" تقريب يحاول اقحام الجمهور المشاهد في مجريات خشبة المسرح خصوصاً انه جاء مرافقاً مع أشجان أنغام العود المتوترة والمنذرة بالخطر الراهن... هكذا يحمل الفصل الأول تراجيديا الواقع العام. فالجنديات معذبات بسبب العريف خوان وحكومته العسكرية، وينتهي الفصل الثاني بإظهار المشاكل الطبقية - النفسية التي يعاني منها الجنود الخمسة. انه وضع جنود يتراءى العدو من أمامهم والمحكمة العسكرية بأنظمتها الديكتاتورية من خلفهم... ونجحت أنغام عود زياد الأحمدية مع طبلة "جامبا" الأفريقية في اداء دور مهم. سواء في ألحان الكآبة والحزن أم أجواء الجدية والخطر... ولكن ابراز قدرة تمازج الموسيقى مع الإطار الحركي التمثيلي يظهر في إصدار طبلة "الجامبا" أصوات الطلقات النارية لحظة قتل "أنديا" العريف "صوان" وفي التعبير الموسيقي على رنين الجهاز اللاسلكي. علماً أن كثيرين من المخرجين يلجأون الى موسيقى مسجلة. لوحة "غرينكا" لم تكن منفصلة أو مكملة للمشهد العام بل انسجمت مع الثياب العسكرية المرقطة. فمن صورة الجنود الى أجواء الحرب في الخلفية ووصولاً الى سماء "غرينكا" الرمادية الغاضبة. أما الأداء التمثيلي العام فكان منسجماً مع أسلوب أو منحى ستانيسلافسكي الخيالي. وخصوصاً ان المخرج بنجدي متأثر بهذا المنحى عن طريق دراسته على احدى تلامذة ستانيسلافسكي. ولا شك ان هذا المنحى الخيالي ما زال يعتبر الأكثر توافقاً مع المسرح الطليعي، والأعمال السينمائية ذات المشاعر الحميمية. ويركز المنحى الخيالي على الأفكار والمشاعر الداخلية للشخصيات حيث يعدّ مخرجو هذا المنحى ممثليهم بأسلوب يعتمد على احياء ذاكرتهم الانفعالية وتحليلهم لأدوارهم المؤداة وجاءت اللغة مكمّلة لامتزاج الممثلين الستة مع أدوارهم استخدام اللغة العامية - اللبنانية - لغة ترافقت في أحيان كثيرة مع تكرارات موسيقية مرتفعة البهجة ومنخفضة الحزن مع استخدام مسار نغمي Tomal Course مرتفع على نحو قوي أولاً ثم ينخفض للتعبير عن الإثارة والتصاعد التراجيدي... ولعل أروع اللحظات الموسيقية جاءت منسجمة مع مونولوغ "أغاتا" في رسالة منها الى أمها المنتظرة، "أم أرضعت وليدتها حب السلام" إذ نرى مفاتيح السلالم الموسيقية متنوعة بين الخلاص والحنين فالقلق. ومن هنا كانت الموسيقى مؤثرة على هذا النحو العميق. بدت المسرحية على شيء من القوة بموسيقاها وممثليها وسينوغرافيتها مع ضعف ظاهر في الإضاءة نظراً الى الامكانات المتاحة. ولعل العامل الأهم في مسرحية حسن بنجدي الجديدة فضيلة على طريق الموت هو فكرة التمازج بين المسرح المغربي واللبناني والذي يسمح بانتقال التجربة والثقافة المسرحية بين الدول العربية... دول ما زالت أجيالها المتعاقبة - الثقافية والفنية خصوصاً - تعاني من "دكتاتورية" الرقابة. * مسرحية "فصيلة على طريق الموت" للمخرج حسن بن جدي. عن نص الفونسو ساستر... تمثيل بيتي توتل، روزي الخولي، نبيل عساف، نادين نعوم وجويس العم وبهاء هرموش/ سينوغرافيا حسن بن جدي/ موسيقى: زياد الأحمدية وحسن بن جدي / على خشبة مسرح "مونو".