خلال فترة حكم العثمانيين شهدت بلاد الشام تطوراً مهماً يتعلق بانتقال امارة الحج الى دمشق وتعيين ولاة الشام باستمرار لهذا المنصب منذ العام 1120 ه 1708-1709م. وترتب عن انتقال امارة الحج اليها نتائج عدة، فمن المتفق عليه ان مدينة دمشق كانت منذ القدم مركزاً مهماً لكل القادمين من مناطق الساحل الشامي والقاصدين بلاد الحجاز ومنطقة الرافدين. وهذا التلاق البشري المتنوع جعل منها قاعدة اقتصادية وحضارية تتجمع فيها عناصر شتى من شعوب هذه المنطقة التي دأبت على السفر والترحال بدوافع اقتصادية ودينية لأداء فريضة الحج وممارسة شعائرها الدينية في بلاد الحجاز. وأهمية هذا التلاق أنه يتيح لكل العناصر كي تتحاور وتتبادل الآراء طوال مدة الاقامة وأثناء السفر، وهذا ما لم يعد متوافراً في هذه الأيام، نتيجة للتطور العلمي الهائل المتمثل باستخدام الطائرات وغيرها من وسائل النقل الحديثة، الأمر الذي قصر المسافة وقلل من المدة الزمنية التي تفصل بين بدء انتقال الحجاج من أقاصي العالم الاسلامي وانتهاء بوصولهم الى مكة والمدينة. وعودة الى الحديث عن التطورات التي رافقت انتقال امارة الحج الى دمشق خلال فترة الحكم العثماني ترينا ازدياد نفوذ الانكشارية في تعيين الدولة بعض افرادها أمراء لقافلة الحج الشامي. وبعد نجاح الأمير فخرالدين الثاني بالقضاء على نفوذ الأمراء المحليين، الذين كانوا يعينون أمراء لقافلة الحج الشامي، منذ الربع الأول من القرن السادس عشر، ضعف هؤلاء الأمراء وأصبح الانكشارية، بازياد سلطتهم يعينون أمراء لقافلة الحج للمحافظة عليها. وأدت هذه التطورات الى تناقص تعيين الأمراء المحليين في ولاية الشام أمراء للحج والى تزايد تعيين انكشارية دمشق في هذا المنصب. إلا أن تطور الأحداث الداخلية في الدولة العثمانية وما رافق ذلك من تدهور وضع الانكشارية بعد عام 1660، دفع الادارة العثمانية الى تعيين موظفين عثمانيين الى جانب بقايا الأمراء المحليين، لإمارة الحج، ونتج من هذا التنوع في هويات أمراء الحج عدم استقرار في علاقتهم مع البدو مما دفع هؤلاء الى مهاجمة قافلة الحج، خصوصاً أن الموظفين العثمانيين المعينين أمراء للحج لمدة عام أو نحو ذلك غالباً ما امتنعوا عن دفع "الصر" أي المال المخصص من الدولة لشراء رضا البدو. كما يلاحظ أيضاً أن بعض المعينين، لامارة الحج عينوا في الوقت نفسه حكاماً على صنجق أو أكثر من الصناجق التابعة لولاية الشام. وهذا استمرار لتقليد، شاع في النصف الأول من القرن السابع عشر حين عين أغلب أمراء الحج من حكام هذه الصناجق. وكانت العادة أن يأتي أمير الحج حاكم الصنجق مع قواته الى قبة الحج الواقعة جنوب حي الميدان في دمشق خارج "باب الله" وسمي بذلك لأنه يؤدي الى الأماكن المقدسة في الحجاز والقدس لتسلم قيادة قافلة الحج. واستفادت دمشق من عدم دخول أمير الحج اليها لأنها سلمت من تعديات القوات المرافقة له. وحين عين الموظفون العثمانيون أمراء لقافلة الحج لم يعين جميعهم حكام صناجق، لذلك أقاموا مع قواتهم في دمشق، وعانى الدمشقيون نتيجة ذلك من وجودهم. ويذكر عبدالكريم واثق في كتابه "العرب والعثمانيون" أن هذا الأمر حفز الشيخ مراد المرادي الطلب من السلطان العثماني "رفع إمارة الحج عن دمشق وعودها الى حكام القدس وعجلون". وقد وجهت للشريف يحيى بن بركات المكي بمنصب القدس "لأنه كان موجوداً في الروم بعد خلعه عن شرافة مكةالمكرمة" فذهب المذكور في تلك السنة أميراً للحج ولسوء تصرف الشريف يحيى عزل هذا الأخير وأعيدت إمارة الحج الى دمشق. وكانت امارة الشريف يحيى للحج من عام 1102 ه 1690-1691، وعزل عنها إثر مهاجمة البدو قافلة الحج بسبب إهماله وأصبحت دمشق منذ ذلك التاريخ مركز امراء الحج، ولكن لم يعين ولاتها باستمرار اثر ذلك أمراء للحج. ونلاحظ في الفترة بين 1102-1120 ه 1690-1708، حين عين نصوح باشا والياً على الشام "أن ثمانية على الأقل من ولاة الشام عينوا أمراء للحج". وتزايدت هجمات البدو على القافلة في هذه الفترة نظراً لكثرة تبدل الولاة وطمع بعضهم بأخذ "الصر" المخصص للبدو لأنفسهم ولتأمين سلامة الحج بدأ السلطان منذ العام 1120 ه 1708-1709 يعين باستمرار ولاة الشام أمراء للحج، وكان والي دمشق يبغي في الولاية والإمارة ما دام يؤمن سلامة الحج. ونتجت من نقل مركز إمارة الحج الى دمشق ومن تكليف ولاة الشام هذه الإمارة باستمرار تطورات مهمة تركت آثارها في تاريخ بلاد الشام بكاملها، واعتبر تعيين ولاة الشام لمنصب أمير الحج قمة تطور سياسي وصراع على النفوذ حدثاً في بلاد الشام في القرن السابع عشر. كما أدى تعيين ولاة الشام لمنصب أمير الحج الشامي، "لاضطرارهم الى التغيب عن دمشق لفترة طويلة". وكان الوالي أمير الحج يغادر دمشق مع القافلة عادة في النصف الأول من شهر شوال ويعود اليها من الحجاز حوالى النصف الأول من شهر صفر، وقد تتأخر عودته أكثر من ذلك اذا ما هدد البدو قافلة الحج وأعاقوا سيره. وكثيراً ما عاد الحجيج في مثل هذه الحالات بواسطة الطريق الفرعي عبر غزة، وهكذا وجب على والي الشام - أمير الحج - أن يتغيب عن دمشق مع قافلة الحج قرابة أربعة أشهر. الى ذلك قضى تعيينه لهذا النصب غيابه عن دمشق فترة أخرى اذ كان عليه اعداد قافلة الحج وتمويلها بالمال اللازم والذهاب بنفسه لجمع الأموال الميرية من الملتزمين في ولايتهم. وكان والي الشام أمير الحج يخرج كل سنة قبيل خروج القافلة بفترة من الزمن، يجمع المال اللازم لتمويلها، لأنه أصبح المسؤول المباشر عن ذلك وسمي خروجه هذا لجمع المال من الملتزمين في الولاية ب"الدورة". وفي حين كان تاريخ خروجه للدورة يتوقف على مشاغله ورغبته الخاصة، فإن تاريخ عودته من "الدورة" كان يقرره موعد خروجه مع قافلة الحج الى الحجاز. وكان الوالي يضطر أحياناً الى قتال الملتزمين الأقوياء الذين يرفضون دفع المال الميري، وتزداد عادة في هذه الحال مدة "الدورة". ونظراً لانشغال الوالي بهذه المهمات التي لا يمكن التهاون فيها بسبب طبيعتها الدينية، أعفي من الخروج مع عساكر دمشق لنجدة الدولة من حروبها الداخلية أو الخارجية، كما كان الأمر قبل ذلك ولم يحدث في القرن الثامن عشر أن ولاة الشام قاموا بمثل أعمال النجدة هذه. وعلى غرار التطور الذي أصاب إمارة الحج فإن أمراء الجردة الذين كانوا يخرجون لتموين وحماية قافلة الحج في طريق العودة، عينوا من الموظفين العثمانيين بعد ضعف الأمراء المحليين والانكشارية. وفي الوقت الذي أصبح ولاة الشام أمراء للحج انحصرت امارة الجردة بوالي صيدا أو بوالي طرابلس، وفي حالات نادرة بوالي حلب، ويعود سبب كثرة اختيار ولاة صيدا وطرابلس هذه المهمة الى قرب تعيين هاتين الولايتين من دمشق وبصورة أهم الى كون هؤلاء يمتون غالباً بصلة القربى الى ولاة الشام. وما يهمنا هنا أن أمير "الجردة" بعد تعيين ولاة صيدا وطرابلس لهذا المنصب أصبح يأتي الى دمشق بعد شهر على الأكثر من مغادرة أمير الحج لها، وبعد أن يتم استعدادته في دمشق يغادرها في أواخر ذي القعدة أوائل ذي الحجة لملاقاة قافلة الحج. وعلى رغم المصاعب التي تجشمها ولاة الشام فإنهم افادوا من امارة الحج ببقائهم مدة أطول في مناصبهم ما داموا يؤمنون سلامة قافلة الحج وأفادوا أيضاً من الناحية الدينية نظراً لما تمتع به أمير الحج من مكانة مرموقة، كما أنهم كسبوا مادياً لأن قافلة التجار كانت ترافق قافلة الحج. وكثيراً ما اضطر التجار الى شراء حماية أمير الحج لهم من خطر البدو، كما جرت العادة ان ينال أمير الحج حصة كبيرة من أموال الحجاج المتوفين. والى جانب المخاطر التي كانت تتعرض لها قوافل الحج وهي في طريقها للديار المقدسة، فإنه لا يمكننا اغفال الآثار الايجابية التي خلفتها تلك القوافل. فعلى صعيد المعلومات التي دونها وكتبها الكثير من الذين شاركوا في تلك القوافل أمكن لنا التعرف إلى يوميات الأحداث التي حفلت بها تلك الرحلات، خصوصاً أن بين من شاركوا في قوافل الحج البرية كتّاباً ومؤرخين ورحالة دونوا ما شهوده، ووصفوا مشاهد عمرانية وحضارية للكثير من المدن والأماكن التي مروا بها، ما أغنى المكتبة العربية بكتب قيمة حفظت للمكتبة العربية سجلاً حافلاً من المعلومات الدينية والاجتماعية والاقتصادية. * كاتب وأستاذ جامعي.