أفلح الديموقراطيون الاجتماعيون خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي في الوصول إلى الحكم في عدد من دول الاتحاد الأوروبي، وكان ذلك مؤشراً على تقبل تلك الدول لفلسفتهم السياسية التي تحرص دائماً على تحديد أفكارها وتحديث برامجها السياسية والاجتماعية وتؤمن بالعدالة الاجتماعية والدينامية الاقتصادية وإتاحة المجال لانطلاق القدرات الابداعية للأفراد والجماعات مع المحافظة في الوقت ذاته على القيم الإنسانية التقليدية كوسيلة للقضاء على التفكك الاجتماعي الذي يهدد المجتمع الأوروبي بكثير من الأخطار وذلك بحسب ما ورد في البيان المشترك الذي أصدره في التسعينات الماضية رئيس وزراء بريطانيا توني بلير والمستشار الألماني غرهارد شرودر حول مفهوم "الطريق الثالث" والدعوة إليه كسياسة بديلة عن النظامين الرأسمالي والاشتراكي اللذين أخفقا - بدرجات متفاوتة - في تحقيق السعادة والرخاء والتفاهم بين شعوب العالم. و"الطريق الثالث" هو التسمية البريطانية لهذه الفلسفة السياسية التي تعرف بأسماء مختلفة في بعض الدول الأوروبية الأخرى، كما هو الشأن مثلاً بالنسبة إلى سياسة "الوسط الجديد" في ألمانيا، ولكنها كلها تتفق في الاعتراف بعدم جدوى النظرة القديمة للعالم على أنه ينقسم إلى معسكرين متنافسين أو حتى متصارعين هما اليمين واليسار، واعتبار الديموقراطية الاجتماعية هي الأقدر على التعامل مع الأوضاع الجديدة مع التمسك بقيم العدالة الاجتماعية والحرية وتكافؤ الفرص والتضامن الاجتماعي على المستويات كافة والشعور بالمسؤولية إزاء الآخرين. ومع الاعتراف بأن هذه القيم مبادئ ثابتة وراسخة ولا يمكن المساس بها تحت أية ظروف، فإن المتغيرات العالمية تفرض ضرورة العمل على إتباع سياسة واقعية وبراغماتية قادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بأساليب ترتفع عن مجرد محاولات التحديث البسيطة السطحية. ففي هذا العام الجديد المتغير يحتاج المجتمع الى سياسيين يعالجون المشاكل الاجتماعية والاقتصادية من دون أن يصدروا في ذلك عن ايديولوجيات مسبقة وجامدة لا تأخذ الواقع الجديد في الاعتبار ولا تعطي الأهمية الكافية للمبادرات الفردية في اتخاذ القرار السياسي أو تنمية الثروة أو تطوير المجتمع المحلي أياً كان حجم ذلك المجتمع، خصوصاً أن ثمة مشاكل جديدة لم يعهدها المجتمع الأوروبي من قبل - على الأقل بمثل هذه الحدة والكثافة - مثل مشاكل الفقر والبطالة والعنف والجريمة والإدمان وعمليات التهميش أو النبذ والإبعاد الاجتماعي، والحاجة إلى التوفيق بين التقدم المادي والمحافظة على البيئة، والتصدي لهذه التحديات يقتضي تعاون كل الدول الأوروبية التي تؤمن بالديموقراطية الاجتماعية وإعادة النظر في بعض المفاهيم التي تسود العالم وتؤخذ على علاتها كأمر مسلَّم به. فالعدالة الاجتماعية مثلاً يجب ألا تؤخذ على أنها المساواة المطلقة في الاستفادة من الناتج العام، لأن ذلك يعني إهدار الجهود المتميزة وإغفال قيمة تحمل المسؤولية وتجاهل إمكانات الإبداع والمبادرة. كذلك يجب ألا تعني العدالة الاجتماعية ارتفاع مستوى الإنفاق، إذ على رغم أن تقديم الخدمات الاجتماعية على أعلى مستوى ممكن، هو أمر يهم الديموقراطيين الاجتماعيين، فإن ما يسمونه الضمير الاجتماعي لا يمكن قياسه بالإنفاق العام وحده، لأن المحك الحقيقي هو مدى فاعلية ذلك الإنفاق في تمكين الناس من مساعدة أنفسهم بأنفسهم. كذلك يجب ألا تعني العدالة الاجتماعية إعطاء الأولوية المطلقة للحقوق على الواجبات والالتزامات وإلقاء كل المسؤوليات على عاتق الدولة، لأن إهمال فكرة الالتزام المتبادل من شأنه تدهور الروح الجماعية وفقدان الإحساس بالآخرين، ما قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات الجريمة والالتجاء إلى التخريب والتدمير... وهكذا. والأمر الذي يشغل بال أنصار الطريق الثالث هو تآكل روح الجماعة في المجتمعات المحلية في الدول الأوروبية وسيطرة قيم السوق، حيث أصبحت قيم الاستهلاك هي الوسيلة الأساسية لتحديد الهوية في المجتمع بعد أن تراجعت قيم الروابط التقليدية مثل الانتماء إلى الطبقة أو الوطن أو الدين. وأسهم التفكك الاجتماعي الناجم عن ازدهار الرأسمالية الاستهلاكية في ازدياد العنف والجريمة من جانب أعضاء الجماعات الفقيرة والمهضومة حقوقها والتي لا تشعر بالولاء للرأسمالية، ولذا فإن الخوف من مثل هذه الانحرافات - أكثر من أي شيء آخر - هو الذي يدفع هؤلاء الرأسماليين الاستهلاكيين الى البحث عن وسيلة لتخفيف وطأة الرأسمالية وتوجيهها لخدمة بعض الأهداف الاجتماعية. لهذا كله يرى توني بلير أن الطريق الثالث هو صيغة معدلة للديموقراطية الاجتماعية، ويقول في الصفحة الأولى من الكتيب الذي أصدره تحت عنوان "الطريق الثالث: سياسة جديدة لقرن جديد": "إن الطريق الثالث هو مراجعة تقويمية للديموقراطية الاجتماعية تحاول الوصول إلى أعماق اليسار من أجل إيجاد مداخل جديدة تماماً". والحكم على أي نظام من النظم بأنه يتبع الطريق الثالث هو مدى مراعاته للقيم الأساسية التي ترتكز عليها تلك الفلسفة السياسية، وهي الديموقراطية والحرية والعدالة والالتزام المتبادل والنزعة العالمية، إلى جانب إتاحة الفرصة للأفراد للتملك واتساع نطاق توزيع الثروة بين السكان، وكذلك وجود سياسة تساعد على المشاركة في اتخاذ القرار وتشجيع المبادرات الفردية والجماعية. وواضح أن فلسفة الطريق الثالث تخاطب المجتمعات الأوروبية في المحل الأول. ولكن بيان بلير/ شرودر، الذي سبقت الإشارة إليه، ينص في إحدى فقراته على أن سياسة الوسط الجديد أو الطريق الثالث تأخذ في الاعتبار في الوقت ذاته اهتمامات ومصالح الشعوب التي تمر بتغيرات واسعة وسريعة وهو ما ينطبق بالضرورة على مجتمعات العالم الثالث التي تخضع لتأثير التيارات الفكرية والاتجاهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاصرة والوافدة إليها من الغرب مثل تيارات العولمة ودعاوى الحداثة وما بعدها والنزعات النسوية وما بعد النسوية، وذلك فضلاً عن تجربتها المريرة تحت النظامين الرأسمالي والاشتراكي، علاوة على النظم الشمولية التي لا يزال بعضها يرزح تحتها ويقاسي من أهوالها وتنكرها بل وإنكارها لكل حقوق الإنسان. وكل هذه التيارات والاتجاهات والفلسفات تخلف وراءها بغير شك آثاراً خطيرة في بناء هذه المجتمعات ونظرة شعوبها إلى ذاتها حيث كادت تنسى تقاليدها وإن كانت بدأت تراجع نفسها أخيراً وتعيد قراءة تراثها وتاريخها، وتسترشد في كثير من جوانب حياتها بتلك التقاليد والأعراف التي طال إهمالها، وهذا كله يثير التساؤل عن مدى إمكان تطبيق مبادئ الطريق الثالث على هذه المجتمعات، وهل يمكن أن يكون في ذلك خلاصها مما تعانيه من تخلف وجهل وفقر ومرض؟ أي هل هناك ما يمكن اعتباره طريقاً ثالثاً للعالم الثالث الذي عانى الكثير تحت النظامين الرأسمالي والاشتراكي حيث يأخذ في الاعتبار المقومات والظروف الخاصة بتلك المجتمعات والتي تختلف اختلافاً جذرياً عما هو سائد في المجتمع الأوروبي الذي يؤمن بالديموقراطية الاجتماعية؟ وعلى رغم أن للعالم الثالث شكوكه وتحفظاته إزاء العولمة وأساليبها ونتائجها وأهدافها فإن حكومات الديموقراطية الاجتماعية لا تشك في إمكان تطبيق سياسة الطريق الثالث بنجاح وفاعلية على مجتمعات ذلك العالم وخصوصاً على المجتمعات الافريقية التي تؤخذ دائماً على أنها النموذج المثالي للتخلف بكل أبعاده ومظاهره، وأن في الاستطاعة، خصوصاً، القضاء على الفقر الذي توليه سياسة الطريق الثالث أهمية قصوى باعتباره أحد أهم ملامح التخلف وسبباً في الوقت ذاته في ظهور كثير من المتاعب التي تعانيها تلك المجتمعات وتعوق تقدمها. وإذا كانت دول جنوب شرق آسيا استطاعت أن ترتفع بمستواها الاقتصادي حيث أصبح يشار إليها باسم النمور الآسيوية وأن تغزو بإنتاجها الأسواق العالمية وتستثمر بعض مدخراتها في النهضة بالتعليم وتنفيذ كثير من مشاريع التنمية الناجحة وتوفر لشعوبها مستوى من المعيشة يضاهي المستويات الأوروبية. فليس ثمة ما يمنع دول العالم الثالث الأخرى من أن تحقق مثل هذا النجاح والتقدم، وخصوصاً إذا اتخذت الاحتياطات التي تكفل لها عدم التعرض للأخطار التي تعرضت لها النمور الآسيوية بسبب بعض الأخطاء التي ارتكبتها في تقدير الأمور. ولكن النظرة المتأنية في هذه الدعاوى سوف تكشف عن أن دعاة الطريق الثالث في أوروبا يرون أن إصلاح الأمور في العالم الثالث لن يتحقق إلا من خلال سياسة رأسمالية في جوهرها حتى وإن كانت تأخذ في الاعتبار الأوضاع الخاصة ببعض الدول النامية مثل عمالة الأطفال التي تعارضها الديموقراطية الاجتماعية. ولذا فإن المناهضين للطريق الثالث يرون أنه ليس في آخر الأمر سوى حركة لتكريس سياسة الغرب ومصالحه. وتقع مسؤولية علاج الأوضاع المتردية في مجتمعات العالم الثالث على عاتق الحكومات الوطنية خصوصاً أن ذلك التردي جاء نتيجة الفساد الذي سيطر على نظم الحكم الوطني وعلى السياسيين الوطنيين في عقود كثيرة سابقة. وهذا لا يعفي دول الغرب الغنية من المسؤولية وضرورة تحمل تبعات سياستها الاستعمارية التي يعتبرها الكثيرون من المثقفين في العالم الثالث السبب الرئيسي في تدهور الأوضاع وفساد السياسيين أنفسهم. ومهما يكن الأمر، فإن دعاة الطريق الثالث يرون أن الوسيلة الوحيدة الفاعلة التي ينبغي على الحكومات الوطنية الحالية في العالم الثالث، وخصوصاً في افريقيا جنوب الصحراء إتباعها هي الاستثمار الداخلي مثلما فعلت النمور الآسيوية، وأن هذا يتطلب منها استرداد الأموال الطائلة التي قام الحكام السابقون بتهريبها إلى الخارج واستخدام هذه الأموال في مشاريع التنمية البشرية في المحل الأول، إلى جانب تنمية الموارد الطبيعية وتصنيعها بدلاً من تصدير المواد الخام، وبذلك تستطيع هذه الدول المشاركة في التجارة العالمية، وبعد ذلك يسهل تحقيق الأهداف الاجتماعية والسياسية التي تبشر بها فلسفة الطريق الثالث. وهذه كلها نصائح وآراء سبق تكرارها بشكل يثير الملل خصوصاً أن هناك عوائق كثيرة تحول دون تحقيقها. بل إن الغرب نفسه سوف يضع كثيراً من العقبات التي تمنع من استرداد تلك الأموال الموضوعة في المصارف الأوروبية وتسهم في اقتصاديات الدول الأوروبية ذاتها. وإصلاح الأوضاع في معظم مجتمعات العالم الثالث بدرجة تسمح باتباع سياسة الطريق الثالث، ولو في حدود ضيقة، يتطلب حدوث تغييرات جذرية في أساليب الحكم وفي النظرة الى الحياة وإلى الإنسان الفرد وفي تعديل العلاقة بين عالم الفقر وعالم الثراء والغنى وتغيير سياسة الغرب المتقدم علمياً وتكنولوجياً نحو العالم الثالث حيث يمده بالخبرات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية التي تساعده على تجاوز الأوضاع المتردية التي يعيش فيها وينطلق في طريق التقدم. ولكن، كما يقول أنتوني غيدنز، استاذ الاجتماع وعميد كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية والذي يعتبر المرشد الروحي لتوني بلير وسياسة الطريق الثالث "إن الحكومات الوطنية تتحدد قدراتها بالتطورات التاريخية التي خضعت لها مجتمعاتها". وليس في التطورات التاريخية في العالم الثالث ما يدعو إلى الظن بأن معظم مجتمعات ذلك العالم ستصل إلى المستويات التي ترضى بها الديموقراطية الاجتماعية، ولذلك سيظل الطريق الثالث حتى وقت طويل فلسفة غربية من اختراع غربي للعالم الغربي. * انثروبولوجي مصري.