وافق الشعب البحريني في استفتاء عام أمس وقبله على مشروع ميثاق العمل الوطني الذي سيجعل من البلاد مملكة دستورية، ويعيد اليها الديموقراطية والانتخابات النيابية... بمشاركة المرأة. وجاءت الموافقة الكبيرة على الميثاق نتيجة استراتيجية اتبعها أمير الدولة الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة بإزالته الشكوك التي ساورت بعضهم في العلاقة بين الدستور والميثاق، وبتأكيد ولي عهده الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في مؤتمر صحافي ان الدستور سيتم تفعيله بالميثاق، مشيراً الى انه "لا يوجد في أي مكان في العالم مجلس مُعيّن له سلطة إعاقة سلطات المجلس المنتَخب". إضافة الى ذلك ان اللقاءات التي عقدها الأمير مع الفعاليات السياسية والدينية والاجتماعية التي انتهت بخلو السجون في البحرين من أي معتقل سياسي والسماح لجميع المُبعدين بالعودة الى ديارهم، ساهمت مساهمة كبيرة في إيجاد مناخ ملائم لنجاح الاستفتاء. كان الاستفتاء الثاني بعد الأول عام 1969 عندما اختار البحرينيون استقلالهم فكان لهم. وأصدر الأمير عام 1971 مرسوماً بقيام المجلس التأسيسي ونصفه منتخب ونصفه الآخر بالتعيين ووضع هذا المجلس الدستور. وفي 1973 انتخب المجلس الوطني كاملاً مباشرة... لكن ظروفاً دفعت أمير البلاد إلى حله عام 1975. ومن يومها إلى الاستفتاء الثاني أمس كانت أصوات تنادي بإعادة العمل بالتجربة الديموقراطية التي مارسها الجميع بكل ما فيها من سلبيات وايجابيات، لكنهم فشلوا قيادة وشعباً في المحافظة عليها. اليوم، مع مسيرة عودة البحرين الى الديموقراطية التي أطلقتها القيادة فإن نجاحها، كما يرى مراقبون، يتطلّب كثيراً من التضحيات والوعي السياسي والافادة من أخطاء التجربة الاولى. وأول ذلك ان تكون كل قوة من القوى السياسية مستعدة للعمل السياسي ضمن الاطار والشروط التي تستلزمها الديموقراطية والبعد عن المذهبية والطائفية وعدم انتهاز هذه الفرصة واعتبارها مرحلة تكتيكية لأهداف لا تصبّ في مصلحة البحرين. ويضيف هؤلاء ان التفاعل الشعبي مع هذه المبادرة شرط اساسي وضروري لاستمرارها لئلا تبقى هبة من الحاكم الى المحكوم. فما جاء في الميثاق يؤكد ان أمير الدولة قرر تبديل اسلوب الحكم الذي يستند إلى مبدأ السيادة المطلقة للرئيس. الاستفتاء على الميثاق، أدى غرضه في تصفية تركة سياسية كبيرة لم تخل من العنف منذ أن ألغي العمل بالدستور عام 1975. أدى غرضه في تفعيل الساحة السياسية بتوحيد كل التوجهات في البلاد التي ستكون مستعدة في الأيام المقبلة للتعامل مع الحكم الذي ستصدره محكمة العدل الدولية لإنهاء الخلاف الحدودي البحريني - القطري. وعلى رغم أن المنامة مرتاحة إلى أن الحكم، حسبما تشير أجواء لاهاي، لن يغير الكثير في الوضع القائم على الأرض في ما خص الجزر والأراضي المتنازع عليها، إلا أنها تؤجل خطوات داخلية، سياسياً واقتصادياً، في انتظار حل النزاع. بعد ذلك يبدأ العمل على تنفيذ الميثاق، ويتطلب ذلك فريق عمل جديداً. وهذا يعني حكومة جديدة او على الاقل تعديلاً وزارياً كبيراً يشمل الوزارات الاساسية التي ستتولى الاشراف على تنفيذ الميثاق، ولم يستبعد وزير الاعلام السيد محمد ابراهيم المطوع اجراء تعديل توافقاً مع مقتضيات التغييرات السياسية في البلاد، مؤكداً ان الميثاق مشروع سياسي له صفة الشأن الداخلي الخاص بالبحرينيين وحدهم ولا علاقة لأية دولة بالأمر. ولعل أولى المهمات المقبلة أمام التشكيل - التعديل الحكومي عملية إصلاح إداري واسعة تتطلبها المرحلة الجديدة، لقطع دابر الفساد والمحسوبيات. إذ لا يخفى أن في البحرين قوى ومواقع تمثل الحرس القديم الذي لا يزال يعاند في مواجهة التغيير وطي صفحة الماضي، حفاظاً على مصالحه التقليدية في السلطة والاقتصاد وغير ذلك. وقد اتبع الأمير حتى الآن سياسة مرنة جداً في التعامل مع هذه القوى، واستطاع بالفعل احتواء مقاومتها بهدوء وروية. ولا شك في أنه سيواصل هذا النهج حتى تحقيق التغيير المطلوب لإطلاق عجلة الاقتصاد. والشق الاقتصادي هو أصعب بكثير من الشق السياسي ويحتاج الى استراتيجية تعيد اموال المستثمر البحريني الى البلاد، وهذا ما ستعمل من اجله القيادة كما اعلن ولي العهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في مؤتمره الصحافي في الخامس من شباط فبراير الحالي، اضافة الى حل ازمة البطالة والافادة من الطاقات الموجودة في كل المجالات. بعد تهيئة المناخ السياسي السليم في ظل إدارة للشؤون العامة والاقتصادية خصوصاً، بشفافية كاملة، يبدأ الإعداد لتفعيل المشاركة الشعبية في إدارة البلاد، أي الإعداد لقيام مجلس منتخب انتخاباً حراً مباشراً بعد سنتين يتولى المهمات التشريعية، إلى جانب مجلس معين يضم أصحاب الخبرة والاختصاص. وهي صيغة ثنائية للمجلس الوطني ارتأت البحرين اعتمادها من أجل تحقيق توازن في السلطة الاشتراعية. وهذا التكوين الثنائي يتميز، كما جاء في نص الميثاق ب"أنه يقدم في آن مجموعة من المزايا يتضافر بعضها مع بعض، فهو يسمح بالمشاركة الشعبية في الشؤون التشريعية، ويسمح بتفاعل كل الآراء والاتجاهات في إطار مجلس تشريعي واحد"، وهو "يؤدي إلى فتح آفاق أرحب لديموقراطية تعمل من أجل البناء والتنمية والاستقرار والرخاء، ديموقراطية تعمل من أجل السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية". هذه الوحدة التي بدا للحظة أثناء أحداث العام 1995 أنها راحت تهتز، ليس بفعل عوامل داخلية بحتة فحسب بل بفعل تدخلات خارجية أبرزها من الجارة إيران التي عادت في عهد الرئيس خاتمي أكثر تفهماً للوضع البحريني ونأت بنفسها عنه.. كذلك إن هذا التكوين الثنائي للمجلس الوطني يجنّب البحرين مستقبلاً الخلافات في وجهات النظر بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية التي يختار الأمير وزراءها، فلا تتحول هذه أزمات مشابهة لما يحصل في الكويت بين حين وآخر، حيث يبدو مجلس الأمة كأنه في مواجهة دائمة مع الحكومة مما يعطل الحياة الدستورية. ولن يكون المجلس المعين وحده ضابط الميزان في ممارسة حياة سياسية واشتراعية سليمة. بل إن القانون الذي سيسن للانتخابات سيراعي المشترع فيه، بتوزيع الدوائر وغير ذلك من اجراءات، حقائق ومرتكزات توفر للمجتمع البحريني قاعدة تمثيلية متوازنة، بصرف النظر عن الكتل والأحجام الشعبية الناخبة بتوجهاتها وتياراتها المختلفة.