بدا ان الأزمة التي خلفتها اقالة وزير الدولة للعدل السوداني أمين بناني من منصبه أماطت اللثام عن الانقسام داخل الحكومة الذي عبر عنه بشكل مباشر وزير التجارة الخارجية مكي علي بلايل، بصورة أقلقت القيادة السياسية في الدولة فدخلت في اجتماعات متلاحقة لكفكفة الصراع الذي بدا انه سيتسع. واظهرت الأزمة ان هناك تيارين داخل الحكومة تتقاطع مواقفهما منذ انعقاد المؤتمر العام للحزب الحاكم في تشرين الأول اكتوبر الماضي، يقود اولهما مسؤولون في الدولة والحزب ينادون بحريات واسعة واختيار حكام الولايات عن طريق الانتخاب المباشر وتحقيق قسمة عادلة في الثروة والسلطة. ويعبر عن هذا التيار وزير النقل الدكتور لام اكول، ووزير التجارة الخارجية مكي علي بلايل، ووزير الدولة للعدل الذي اقيل أمين بناني، وجميعهم ينحدر من غرب البلاد وجنوبها. ويعتقد هذا الفريق ان قلة متنفذة في السلطة تستأثر بالثروة والحكم. اما المجموعة الثانية فرمزها النائب الأول للرئيس علي عثمان محمد طه، وتضم وزير الطاقة الدكتور عوض الجاز ومسؤول الاتصال التنظيمي في الحزب الحاكم الدكتور نافع علي نافع وتقود موقفاً حرص خلال مؤتمر الحزب الحاكم على منح الرئيس دوراً في اختيار الولاة وعزلهم. وتتهم المجموعة على نطاق واسع بأنها تدير دفة الحكم من وراء ستار منذ ابعاد الدكتور حسن الترابي عن مركز اتخاذ القرار في الدولة، الأمر الذي اثار عليها القيادات التي انحازت الى الرئيس عمر البشير في خلافه مع الترابي، وأتخذ النزاع بين التيارين طابعاً جهوياً واضحاً. وأراد النائب الأول للرئيس ابلاغ رسالة قوية الى التيار الذي يناهضه داخل الحكومة بتصريحات عزز بها قرار اقالة بناني، لكن مراقبين وصفوا التصريحات بانها انفعالية واعتبروا ان نتيجتها كانت سالبة على الحكومة، وأتت برد فعل معاكس من وزير التجارة الذي لم يصدر قرار مماثل باقالته ولا حتى الرد عليه مع ان ما قاله هو تأكيد وبذات اللهجة للكلام الذي كلف بناني منصبه. بل ان معلومات راجت خلال اليومين الماضيين تحدثت عن اتصالات حكومية مع التيار الآخر بغرض تهدئة الأوضاع واتخاذ ترتيبات لاحتواء الأزمة. ويبدو ان القيادة السياسية فطنت الى ان اسلوبها في مواجهة التيار يثير حفيظة مساندين يتقلدون مواقع مهمة في الدولة لا مصلحة لها في دفعهم الى اتخاذ موقف ضدها، اضافة الى ان البلاد تستضيف قمة رؤساء دول منظمة الساحل والصحراء وليس من الحكمة نشر غسيلها على ضيوفها. ويجمع المراقبون على أن تطورات النزاع بين التيارين ستكون خصماً على رصيد النائب الأول للرئيس لتصديه للمجموعة "المتمردة" على الحكومة التي سيكون همها تقوية جبهة معارضة له داخل الحكومة والبرلمان، ومحاولة اقناع البشير بأن بقاء نائبه في موقعه سيسبب لحكمه متاعب هو في غنى عنها ما قد يدفعه الى تقليص نفوذه وان بدا مستبعدا اخراجه بالكامل في المرحلة الحالية. ويبدو أن نائب الرئيس يستند الى قوة لن تمضي معه حتى نهاية المشوار في معركته لأن حساباتها السياسية وأجندتها تلتقي معه جزئياً ومرحلياً. وتذكّر أزمة الحكومة الجديدة بالخلاف بين الرئيس عمر البشير والدكتور حسن الترابي الذي عصف بوحدة الاسلاميين، وركز خلاله الرئيس على ضرورة انتهاء الازدواجية وتوحيد مركز القرار. ويشير مراقبون الى ان قرار اقالة بناني الذي صدر من الرئاسة لم يكن بحاجة الى تعزيز بتصريحات حادة من نائب الرئيس إلا أن يكون غرضها اثبات نفوذه وسطوته والإيحاء بأنه بات مركز اتخاذ القرار. ووفرت الخلافات الجديدة قناعة بأن مؤسسات الدولة والحزب ليس لها وجود حقيقي وان القرارات الكبيرة تطبخ خارجها، الأمر الذي أدى الى ارتفاع أصوات احتجاج داخل السلطة، وبات كثير من المسؤولين لا يبالون في انتقاد الحكم وقادته، وتمرد عدد من اعضاء البرلمان الذين رشحهم الحزب الحاكم. ويرد مراقبون الحالة التي وصل اليها الحزب الحاكم بعد ثمانية اشهر من انقسامه الى مظاهر الضعف التي باتت تعتريه بعد انسلاخ رموز سياسية وقواعد ناشطة ما أدى الى خلل تنظيمي وفكري لأن الذين خلفوا الترابي لم يأتوا بجديد، ولم يجددوا أنفسهم، الأمر الذي اشار اليه البشير في اجتماع مجلس الشورى في الحزب الاسبوع الماضي. ويستبعد المراقبون نجاح علي عثمان الذي يعد نفسه لخلافة البشير، بعد انقضاء فترته الرئاسية الجديدة، وفي زعامة الحزب الحاكم، في هدفه لأنه يعتمد على أدوات وآليات السلطة في تعامله السياسي وهي ليست الاداة المناسبة لحمله الى مبتغاه، كما أنه لا يحظى بإجماع بين الاسلاميين، أو ثقة كبيرة من القوى السياسية التي تصنفه بأنه يقود تيار الصقور الرافض للوفاق واتاحة الحريات.