خلال دقائق من صدور الحكم في قضية لوكربي يوم الاربعاء الماضي اتصلت بي محطة تلفزيون عربية، وطلبت مني ان أُعلّق هاتفياً على الموضوع. وقلت ان الحكم أغلق فصلاً في القضية، وفتح فصلاً جديداً، ربما كان أخطر، لمعرفة من كان وراء منفّذ العملية، ومن كان وراء هذا، مع طلبات تعويض هائلة لأسر الضحايا. واتصل بي زميل بعد ذلك بدقائق وقال انه كان يتابع برنامج محطة التلفزيون، وقد تبعني مسؤول ليبي، سئل عن كلامي، فغضب وقال انه لا يجوز تصديق مثل هذا التخريف او التحريف، لأن القضية انتهت. القضية لم تنته، وما كان يجب ان تبدأ، ولا ادري من أين يأتي المسؤولون الليبيون بمعلوماتهم، وعلى ماذا يستندون في قراراتهم، وهم قبلوا ان يسلّموا رأس مواطنيهم الى محكمة اجنبية، والآن تدفع ليبيا الثمن. فلا بد ان يكون هناك ثمن من سمعة ليبيا واموال شعبها وحريتها السياسية والاقتصادية. ليس مهماً ان يبرأ رجل ويُدان رجل، فلو بُرئ الف ودين واحد لكان ذلك يكفي لإبقاء القضية مفتوحة. العقيد معمر القذافي قال اشياء كثيرة منذ صدور الحكم، الا انني أتوقف عند نقطتين، فهو اعلن انه سيقدّم أدلة تثبت براءة عبدالباسط المقراحي، ثم لم يقدم شيئاً، وهو قال ان الحكم صدر بسبب ضغط اميركا وبريطانيا على القضاة الاسكوتلنديين. واذا كان يعتقد بوجود ضغط فلماذا سمح لمواطنين ليبيين بالمثول امام محكمة اجنبية؟ شخصياً، لا اعتقد ان القضاة الاسكوتلنديين تعرضوا لأي ضغط، او انهم من نوع يقبل الضغط. ولكن اميركا وبريطانيا قدّمتا الأدلة المطلوبة، كما ان وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية سي آي اي لعبت دوراً رئيسياً في جمع الأدلة، وهذا ليس سراً. ففي خبر نشرته "واشنطن بوست" السبت الماضي جاء ان جورج تينت، رئيس الوكالة، قدّم الى الادعاء عشرات من برقيات الاستخبارات السرية وشاهداً اجنبياً، وهو عميل للاستخبارات الاميركية، وكل القدرة التقنية المتوافرة للوكالة. ليس في ما سبق شيء غريب او مفاجئ، بل وجه الغرابة والمفاجأة ان يكتشف العقيد القذافي هذا بعد المحاكمة، لا ان يستعد له قبل ارسال مواطنين ليبيين اثنين الى محكمة اجنبية. واذا كان من نقطة ثالثة فهي ان العقيد القذافي، في محاولة تبرئة رجاله وبلده، لمّح مرة بعد مرة الى دور فلسطيني في العملية، وتحديداً ذكر اسم الجبهة الشعبية القيادة العامة، وايران وغيرها. أترك ايران تدافع عن نفسها، ولكن اقول ان العقيد القذافي لم يقدّم الى انتفاضة الاقصى شيئاً، ثم جاء ليزيد من مشاكل الفلسطينيين بتحميل فئة منهم المسؤولية عن تفجير طائرة الركاب الاميركية. كان الحادث جريمة رهيبة يجب ان يدفع ثمنها المسؤول كائناً من كان، وسواء كان ليبياً او فلسطينياً او ايرانياً او عميلاً للاستخبارات الاميركية والبريطانية، كما يتمنى المدافعون عن ليبيا. قتل في الحادث 270 شخصاً، منهم 259 كانوا على متن الطائرة، و11 شخصاً على الارض في بلدة لوكربي. وفي كل يوم نقرأ تحقيقاً عن الضحايا وأسرهم، واختار توم فلانيغان وزوجته كيت اللذين قتلا تحت انقاض بيتهما عندما سقط جزء من الطائرة المشتعلة فوقه وانفجر. وكان ابنهما ديفيد في بلاكبول، فلم يستطع التعامل مع الحادث وأدمن المخدرات وتوفي خلال سنوات، ثم توفي الابن الآخر ستيفن عندما صدمه قطار، ولم يُعرف ان كان الحادث عرضياً او انتحاراً. وكان ستيفن هذا نجا من الموت لأنه ذهب الى بيت الجيران لإصلاح دراجة اخته الطفلة. نحن عندنا ضحايا ايضاً، وليبيا لم تنج من الارهاب، ولعل افضل تعليق على محاكمة لوكربي والحكم لم يكن افتتاحية في جريدة، وانما رسماً كاريكاتورياً في "الاندبندنت" تكرر معناه في رسم نشرته "الغارديان" في اليوم نفسه. وأظهر الرسم محكمة لوكربي وهي لا تزال منعقدة، ولكن الارهابيين هذه المرة هما رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر عن دورهما في الغارة الجوية على طرابلس سنة 1986. ريغان وثاتشر لن يُحاكما على رغم وضوح الارهاب في تلك الغارة، كذلك لن يُحاكم بيل كلينتون عن غارة على مصنع ادوية في السودان، ثبت بالوجه القاطع الآن انه لا ينتج مواد كيماوية لأسلحة الدمار الشامل. ولم تعتذر الولاياتالمتحدة او تدفع تعويضات حتى الآن. وكان يجب ان يقدّر العقيد القذافي ان امثال هؤلاء لا يُحَاكَمون، ولكن نُحَاكم نحن، فلا يبقى سوى ان نتمنى براءة المقراحي في الاستئناف. أتوقف هنا لأحكي للعقيد القذافي قصة من كتب التراث، أرجح انها صيغت في وقت لاحق، فمعاوية بن ابي سفيان يسأل عمرو بن العاص لماذا سُمّي داهية العرب. ويرد عمرو: لأنني لا ادخل مدخلاً الا وأرى لي منه مخرجاً. ويفكر معاوية ويقول: الا انني لا أدخل مدخلاً أريد الخروج منه. اليوم دخلت ليبيا مدخلاً لم تفكّر في المخرج منه. وهناك من يطالب بعشرة بلايين دولار لأهالي الضحايا، وهذا هو الثمن المالي فقط، فلا يزال هناك الثمن السياسي. وننتصر لليبيا ظالمة او مظلومة، ونقول انه لو وُزّعت عشرة بلايين دولار على سورية ولبنان والاردن وفلسطين لأنعشت اقتصاد اربع دول عربية وشعوبها سنوات وربما عقوداً. غير انني كنت أفكّر في هذا الاحتمال البعيد الى درجة ان يكون مستحيلاً، وأفكّر في ان الحصار على ليبيا منعها من شراء أسلحة فتجمعت لها أموال سيصطادها الغرب على شكل تعويضات.