وضع قرار القيادة القطرية لحزب البعث في سورية بالسماح لأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية بإصدار صحف خاصة بها، هذه الأحزاب امام استحقاق استثنائي، سيسبب عدم النجاح بإنجازه ربما إفلاس خيار استقلالها الإعلامي. ولا تبدو التحديات التي تواجه إنجاز هذا الاستحقاق محصورة في الجوانب المالية والفنية، بل إن هذه التحديات تتجاوز هذه الجوانب كلّها لتطاول إنتاج الأسباب التي من أجلها تم إصدار هذا القرار. فإن جاءت الدعوات الأخيرة المتلاحقة منذ المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث حزيران/ يونيو الماضي بأن يسمح لأحزاب الجبهة بإصدار صحف خاصة بها، كعنوان للمشاركة العادلة في قيادة الدولة، فإن هذه المشاركة تحمل في طياتها "عبئاً" بدل أن تكون "مكسباً" اعتادت الأحزاب على الحصول عليه بين وقت وآخر على مدى الثلاثين عاماً الماضية. تبدو الإشكالية الناتجة من قرار السماح بإصدار الصحف واضحة في الكيفية التي ستعتمدها هذه الأحزاب لإنتاج الحيثيات التي صدر من أجلها هذا القرار. ولا يتوقف معنى هذه الحيثيات عند حاجة الأحزاب للانفكاك أو الابتعاد "مسافة ما" عن الحزب القائد: البعث وخطابه، بل إن هذا المعنى يطاول قدرتها على إنجاز هذا الانفكاك، من دون ان يضعها ذلك خارج إطار الجبهة وميثاقها. شكّل خطاب الدولة الرسمي، خصوصاً الذي وضعه رئيس الجمهورية، على مدى عقود ثلاثة ماضية، الخطاب المركزي الموحّد لأحزاب "الجبهة التقدمية الوطنية"، منذ العام 1972 ولم ينفرد أي منها بخطاب خاص به، وإن حاول أحياناً الإيحاء بقراءات ما للواقع باستخدامه مصطلحات تنتمي في أغلبها الى القاموس اليساري العام "القومي العربي - الشيوعي". على أنه في الحالات كلّها وجدت هذه الأحزاب نفسها تحت العتبة الاستراتيجية التي شيّدها الرئيس حافظ الأسد واعتمدها كمدخل موحّد لقراءة الواقع وصياغة علاقاته. وبسبب هذه "الوحدة" وجدت أحزاب "الجبهة" نفسها أسيرة "عادة سياسية" أعفتها من إنتاج أية قراءات جديدة وإضافية، ليس فقط ما يخص الاستراتيجية العامة للدولة، بل حتى بما يعني المفردات التكتيكية مهما كان حجمها ودرجة اهميتها. وعلى ذلك لم تستطع هذه الأحزاب، باستثناءات محصورة، صوغ خطاب مميز بمصطلحات ومنهج خاص بها وقادر على إضفاء نكهة جديدة إلى الخطاب الموحّد المُنتج وفق مصطلحات ومنهج الحزب القائد وقائده. فجاء خطاب هذه الأحزاب متعدداً وفقاً لعددها وحسب، فلم يتعد بتعدديته هذه معنى كونه أحد الامتدادات الإعلامية الشرحية لأفكار مركزية تشكل هيئة الخطاب المركزي الموحّد. وفي درجة متدنية فإن حجماً ملحوظاً من خطاب الأحزاب لم يكن سوى إنشاء تقريظي مدائحي للخطاب الموحدّ وإعجازه!؟ وفي هذا المضمون دفنت الأحزاب، بكيفيات متعددة، احتمالية قدرتها على تأسيس خطاب مميز لكل منها. فضرورة ذلك لم تعد واضحة بيّنة طالما أن جوهر العمل الجبهوي يقوم على إقرار هذه الأحزاب بموقع حزب قائد لها، وتالياً استراتيجيا عليا تحتم العمل على خدمتها وتعزيز اركانها ودفع مسيرة تنفيذها قدماً. ومع انتفاء هذه الضرورة بدا الحديث عن "المشاركة العادلة" في قيادة الدولة أو "الاستقلال الإعلامي" بمعنى آخر، ذا مرجعية نفسية أكثر من ارتكازه إلى مرجعية عملية ترى إمكانية واضحة في إنجاز هذه "المشاركة - الاستقلال" أولاً، والتأسيس عليها لركائز خطاب جديد قادر على اكتساب أوصاف وعلامات من شأنها عدم الاكتفاء بمهمة شرح الخطاب الرسمي الموحّد، بل أيضاً العمل على توسيع فضائه بما يجعله متمكناً من الإحاطة بمسائل مستجدة لا يستطيع بمصطلحاته القديمة وبمنهجه الكشف عن مضمونها ولا التعرف على أوصافها وتشخيص مآلها. واستطراداً لسيطرة "العادة السياسية" ورسوخها لم يكن الشعب ينتظر خطاباً ولا حتى "قولاً ما"!؟ يصدر عن أحزاب "الجبهة" عدا "الحزب القائد". وفي المقابل لم تبادر هذه الأحزاب من جهتها لتغيير هذه العادة، ولا حتى مرة واحدة. وها هو قرار الحزب القائد يضعها دفعة واحدة خارج مجال هذه "العادة" وطقوسها التي ربما سيكون من العسير جداً انعتاق البعض منها. إزاء ذلك كله، تبدو الحيثيات الموجبة لقرار القيادة مودعة في المستقبل الآتي، وليست جاهزة في متن الحاضر وفق أوصافه الراهنة، فإن كانت القيادة قد استجابت لمطالبة البعض بهذا الأمر، فإنها أيضاً تحمّل الجميع مسؤولية تأكيد صوابية صدور قرارها، بالعمل على إنجازه وفق المعايير التي تصنّف الخطاب العام الذي ستعبّر عنه الصحف الجديدة والحزبية بالجديد والمميز والخاص. وإلا فإن هذه الصحف العتيدة لن تكون سوى نسخ إضافية مكرورة عن الصحف الرسمية التي تصدرها الدولة، وفي ذلك يستحيل قرار القيادة، في إطاره التنفيذي، ليأخذ معناه ك"عبء" بدل أن يكون هامشاً إضافياً ومساحة متاحة يحتاجها رأي مميز وجديد يعبّر عن مضمونه، بإكساب هذه المساحة ألواناً وأطيافاً تبرر إيجادها وتدفع لتوسيع آفاقها. ما من شك في أن ارتهان الأحزاب الى طقوس "عادة سياسية" أعفتها دائماً من "القول" أو "الكلام" أنتج مناخاً لغزياً مطبقاً على ماهية "القول" الذي تنتظره مختلف القوى ومفترض أن تبتدئ به هذه الأحزاب عملها الإعلامي المستقل. وعلى ذلك فإن سؤال: ماذا سيقول كل حزب؟ يبدو متصدّراً باب حلّ اللغز وفك الأحجية. ماذا سيقول؟ ولمن؟ فمن الصعوبة، بل من المستحيل تقمص دور الحزب القائد واستنساخه في سبعة أحزاب، كما من المستحيل اصطناع دور "المعارضة" لاكتساب "شرفية ما" أو لتبرير صدور القرار. وما بين الاستحالتين ستبقى اللغزية مرشحة للاستمرار كوشاح ل"قول" الأحزاب، أي أن خطابها سيجد نفسه امام مستويين متناقضين ربما، يلعبان دور الموالاة والمعارضة في آن، وفي هذا يقع هذا الخطاب في معجن تمثيلي لواقع قائم ينفذه الحزب القائد، وربما أن هذه التمثيلية لا تستمر فصولها لتفاجئها ستارة النهاية السميكة!! لا يعني هذا، أننا نضع الأحزاب كلها في مواجهة حائط مسدود أو معادلة مستحيلة الحل، بما يجعل من "الإعجاز" كيفية حصرية لوصولها الى إنجاز ناجع لاستحقاق مشاركتها الإعلامية المستقلة للحزب القائد. على أننا وفي الوقت نفسه لا نرى في حصر أسباب نجاح هذا الاستحقاق في الجوانب المالية والفنية، على أهميتها، إلا عاملاً تضليلياً يحجب المشهد الكامل الذي من المفترض ان تطاوله رؤية هذه الأحزاب. ومن المؤكد أن الخطاب الايديولوجي عموماً يعاني قصوراً واضحاً في لغته كما في منهجه، فكيف إذا كان هذا الخطاب مُضمراً في نموذج موحد كان محميّاً ومحصّناً بموقع الحزب القائد وقائده وإنجازاته الاستراتيجية!؟ لا ينتظر أحد خطاباً متعدداً لأحزاب "الجبهة" خاصاً بالمسائل الاستراتيجية العليا المتصلة بالوضع القومي الراهن وإدارة الصراع مع المشروع الإسرائيلي، بل يبدو الحقل الداخلي هو المحلّ المرشح لتشكيل مفردات أي خطاب قيد الإنجاز، لأن المشتغلين في هذا الحقل يتكاثرون باطراد، كما أن مفرداته ومسائله تبدو في حال من الفوضى يفترض بالأحزاب العمل على إعادة ترتيبها وفق أوليات محددة تمكّن من تناولها على نحو بعيد عن الإثارات الإعلامية الدارجة، بعد أن كانت سابقاً مغطاة بالقوقعة الاستراتيجية العليا. وفي هذا المجال بالذات يبدو أفق انجاز الاستحقاق الذي يواجه الأحزاب، فما بين ولائها للجبهة وميثاقها وخروجها على إحدى أصعب عاداتها السياسية، وماذا ستقول ويُنتظر منها، فإن برنامجها الإعلامي "المشارك - المستقل" يجب أن يهتم أولاً وقبل كل شيء، بالعمل على صوغ أوليات الرأي العام بما يجعله قادراً على مواجهة فوضى إعلامية محتملة الوقوع بسبب مساحات حرية الرأي التي تتوسع خريطتها باطراد، من دون أن يعني ذلك حتماً الارتكاس إلى لغة إيديولوجية قديمة لا تستطيع الخروج من فضائها "التزييني - التقبيحي" وتعمل على نحو صريح على ترسيخ "العادة السياسة" بترداد مفردات خطاب موحد، بما يعرقل الوصول الى موقع "المشارك - المستقل" ويحبط عملية إنتاج حيثيات قرار القيادة، ويقدم مادة مشوّقة لمختلف الجهات الإعلامية التي ستتشاوف وهي تشهر إفلاس خطاب الأحزاب وقدرتها على إنجازه، في الطريق الى إشهار أفلاسها النهائي. * كاتب سوري.