ليس اسم أمان الله خان متداولاً تداول اسم رضا شاه، ناهيك عن مُجايله الآخر في السلطة كمال أتاتورك. مع هذا، فهو يثير من الاستغراب أكثر مما يثيران. يكفي القول إن الرقعة التي عرّضها هذا "المستبد المستنير" لهزّته الاصلاحية ما هي الا... أفغانستان! واذا كانت صورة ذاك البلد على ما نعرف اليوم، فكيف كانت لتبدو في زمن المغامرة التي قام بها الملك التحديثي: عشرينات القرن العشرين؟ بيد ان الاستغراب له سبب آخر: انه التعقيد والحذلقة اللذان اتسمت بهما سياسات الحاكم المتفرّع عن سلالة أسسها أحمد شاه دورّاني الذي حكم بين 1747 و1772. ودورّاني، وإن ارتبطت باسمه ولادة أفغانستان كوحدة ترابية، خلّف موته فوضى تفاقمت في القرن التاسع عشر. وهذا ما لم يكن منه بد في ظل التركيب الفسيفسائي الشهير، مصحوباً بالوقوع بين النفوذين الروسي والانكليزي في الهند. هكذا اتصل التاريخ الافغاني اللاحق بالصراع ضد النفوذين، كما بالتحالف معهما. وفعلاً سال دم كثير، فيما لم يخلُ الأمر من حبر سال هو الآخر في توقيع المعاهدات. ففي 1879 وقّعت معاهدة غانداماك بين الأمير يعقوب خان والبريطانيين، جاعلةً أفغانستان دولةً عازلاً بين الامبراطوريتين العظميين. وراحت بريطانيا، بحسب شروط الوضع الجديد، تقدّم المال والسلاح لكابول مقابل مصادرة سياستها الخارجية وربطها بالهند. فإذا صحّ أن أفغانستان ذات الحروب الثلاث الشهيرة مع الانكليز احدى البلدان القليلة التي لم "يخترقها" الاستعمار، صحّ أيضاً ان سيادتها تعرّضت للانتقاص عبر حرمانها وضع سياسة خارجية مستقلة. وهذا، في المقابل، لقي مكافأته المجزية والمفيدة سياسياً ومالياً. فعبد الرحمن خان الذي حكم من 1880 الى 1901، حظي بالدعم البريطاني الذي استخدمه لبناء دولة مركزية كلّفت، رغم ذلك، أكلافاً انسانية باهظة. ولئن استطاع ابنه "المعتدل" حبيب الله متابعة خطى الوالد بعنف واضطهاد أقل، فإنه لقي مصرعه في 1919. الا انه، في هذه الغضون، عاصر الحدث الكبير الذي تمثل في المعاهدة الروسية - البريطانية للعام 1907، تلك التي كرّست حرمان أفغانستان، ب"رعاية" الجارين الكبيرين، صوغ سياستها الخارجية. والواقع ان التجاذب البريطاني - الروسي الحاد كان من العوامل الكثيرة التي قوّت شوكة الاسلام في المجتمع الافغاني، لا سيما في أريافه. ذاك ان الحذر من الطرفين "الكافرين"، والداهم "خطرهما"، عزّز الالتصاق بالموروث والتمسك بالمألوف، بغض النظر عن مدى الدقة في نسبتهما شعبياً الى الاسلام. غير ان الملكية الافغانية في القرن التاسع عشر كان لها سهمها، وهو ما دفع أمان الله لاحقاً ثمنه: فقد نظرت الى الشريعة كلحمة ممكنة، تقارب بين اطراف المجتمع وتسهّل جعله قابلاً لأن يُحكم. وكان الافتراض الضمني ان الولاء والتنظيم الدينيين يسعهما الحد من فعالية التركيب القبلي في الارياف، والذي يحمل التهديد الراسخ للسلطة المركزية. وكما نعرف، لم تبرأ أفغانستان حتى اليوم من آثار تلك المرحلة "التأسيسية". ففي كتابه "طالبان - قصة المحاربين الأفغان"، كتب أحمد رشيد: "فقيراً كان أم غنياً، شيوعياً أم ملكاً أم من المجاهدين، يبقى الفارق ضئيلاً. حين التقيت الملك السابق العجوز ظاهر شاه في روما عام 1988، قطع المقابلة بهدوء كي يذهب الى الغرفة الثانية للصلاة. الوزراء الشيوعيون كانوا يصلّون في مكاتبهم. مقاتلو المجاهدين كانوا يوقفون قتالهم كي يصلّوا. الملا عمر يقضي ساعات على سجادة صلاته، وغالباً ما يمارس تفكيره الاستراتيجي بعد صلاته. أحمد شاه مسعود يتخلى لفترات عن توجيه المعركة كي يصلي، ثم يذهب في صمت روحي عميق، فيما البنادق التي تلعلع والكلام باللاسلكي يملآن الفضاء كله". الحرب الثالثة في 1919، على اثر مقتل والده حبيب الله، تولى أمان الله البلد بلقب أمير، فلم يتكاسل في التعامل مع الواقع الذي كرّسته معاهدة 1907. هكذا خاض، بعد شهرين فقط على توليه، حرباً مع البريطانيين عُرفت بالحرب الأنكلو أفغانية الثالثة واستغرقت شهراً كاملاً من القتال. وبالفعل افضت الحرب الى توقيع معاهدة روالبندي التي أقرّت لكابول بإدارة شؤونها الخارجية، أو ما عُدّ "استقلالاً" لبلد لم يكن من قبل خاضعاً للاحتلال. ولم يكن انتصار الحاكم الشاب معزولاً عن متابعة المحاولات المديدة لأسلافه من الحكام الباشتون. فللتوّ قام بمركزة السلطة على حساب أخوته الذين توزّعوا السلطات في المناطق والاطراف. الا ان معاهدة روالبندي التي ادت اليها الحرب، حرمته المعونة المالية البريطانية التي لم يعد من موجب لها. هنا زُرعت بذور صدام امان الله بالبنية الريفية والقبلية التي كانت التحمت وراءه في لحظة الحرب. لقد وجد نفسه اول حاكم لبلده يواجه مهمة تطوير قاعدة اقتصادية داخلية للدولة. هكذا اعلن اول خطة للتنمية في تاريخ افغانستان، حيث صدر التمويل، اساساً، عن رفع الضرائب المباشرة على الزراعة والماشية حتى بلغت خُمس قيمة المحاصيل. فلم يأزف العام 1926 حتى شكّلت 5،62 في المئة من عوائد الدولة الداخلية. وبدا الأمر بمثابة اضعاف للقوى التقليدية ومواردها وتمثيلها الأهلي، لا سيما وأن أمان الله حاول أيضاً انشاء جيش حديث ومحترف لم يحالفه فيه التوفيق. ثم، وفي موازاة سعيه المركزي هذا، سمّى نفسه، عام 1923، ملكاً. بلغة أخرى، وهذا ربما كان أهم دروس التجربة، لم يجد الموقف الوطني والاستقلالي لأمان الله أي مقابل تعويضي في بيئة لا تستند "وطنيتها" على اي وعي حديث، بل تترادف مع العداء للغريب المصحوب بتوطيد التكوينات والافكار الاهلية الموروثة. لكن الغضب الشعبي على الملك وصل الى ذروته مع الانتقال الى ذاك الشق التحديثي الذي بدا للدينيين اكثر حميمية واتصالاً بعالمهم الداخلي: ففي 1925 أوقف أمان الله العمل بالشريعة كمصدر تشريع، داعياً الى اعتماد قانون مدني. اما الدولة فراحت تتولى تدريب "العلماء" ليصيروا "قضاة" دينيين. كذلك حثّ النساء على ترك حجابهن الأفغاني المعروف بPurdah وهو ما استجابته نساء كثيرات. فهو اعتبر مشكلة التأخر والاحتجاب عن العالم أمّ المشاكل، فعوّل على التعليم لبثّ المفاهيم الغربية في الجسم الوطني، ولمقاومة ما خاله افكاراً فات زمنها. ولم يُخفِ "العلماء" استياءهم من هذا التركيز المفروض عليهم من منصّة سلطوية، والذي يضعف قبضتهم و"يُضعف - في رأيهم - الاسلام". الثورة الشعبية وتعاظمت الرغبة التحديثية لدى أمان الله بعد جولته الشهيرة، في 1927-1928، والتي طالت الهند البريطانية ومصر "الحقبة الليبرالية" وايران الشاهانية وتركيا الأتاتوركية، وخصوصاً اوروبا. وبمجرد عودته أدخل اصلاحات أخرى كنزع الحجاب، ومنع زواج القاصرات، ونقل شؤون تنظيم الأسرة من رجال الدين الى الدولة. ولم تخلُ دعوته، هو المشدوه بما رأى، من مبالغات في تقليد الغرب، كمطالبة المقيمين في كابول او الداخلين اليها بلبس اللباس الغربي، بما في ذلك القبعة! وكانت القشة التي قصمت ظهر أمان الله ظهور مئة امرأة، عام 1928، في مناسبة عامة وهن حاسرات. اما السيدة التي كانت تتصدّر المجموعة فلم تكن اقل من الملكة نفسها. وهذا جميعاً ما جعل المرأة، بالنسبة الى القوى المحافظة الأفغانية، ارفع تعبيرات الحداثة والتغريب شراً. لكنْ الى هؤلاء النساء، كان الاشد حماسة لسياسة التحديث النواة الصغرى من المتعلمين والنواة الأصغر من تجار المدن. وغني عن القول انهم مجتمعين أضعف بما لا يُقاس من أن يصدّوا معارضة مستاءة من الضرائب ومفجوعة ب"التغريب" و"انعدام الأخلاق". وليس من الصدف ان الثورة الشعبية الأولى التي عرفتها أفغانستان كانت ضد هذا الملك الوطني التحديثي، وكانت باسم الاسلام. فمن قبل اقتصرت أعمال التغيير على الاغتيالات والمؤامرات الانقلابية. لا بل حتى ابتداء "الجهاد" ضد السوفيات في 1979، ظل الأمر هكذا: فأطيح ظاهر شاه في 1973 بانقلاب قريبه محمد داود عليه. وكانت الانقلابات العملة المتداولة بين الجناحين الشيوعيين خلق وبارشام. لقد انفجرت الثورة على أمان الله في تشرين الثاني نوفمبر 1928، قادها حبيب الله غازي الملقّب "ابن السقّاء"، وكان طاجيكياً بما أثار عليه الباشتون ممن بقي حكم هذه الرقعة الجغرافية قروناً في يدهم. ولئن انتصرت ثورة حبيب الله مطالع 1929، ففي نهايتها اطيح وأُعدم هو نفسه على يد ضابط باشتوني كان القائد السابق لجيش أمان الله. لكنْ، بحبيب الله او من دونه، انطلق بعيداً نهج التراجع عن الاصلاحات، ورجع الحجاب الى النساء أو أُرجعن هن اليه. وكان لإخفاق تجربة أمان الله أن علّم ورثته الحكام، حتى وصول الشيوعيين الى السلطة، ضرورة الانتزاع البطيء لحيّز الدولة من السلطات الأهلية، وغالباً ما كان هذا يترجم نفسه تنازلاتٍ من الدولة لمواقع النفوذ تلك. روسيا البلشفية غير أن الفصل الأكثر تكتماً عليه في سيرة أمان الله المكتومة، علاقته بموسكو البلشفية. وهنا، خصوصاً، نقع على التعقيد والحذلقة المبكرين اللذين اتسمت به سياساته. فمفوضية الشعب السوفياتية كانت اول حكومة تعترف باستقلال افغانستان الكامل في 1919، وأول من أقام معها علاقات ديبلوماسية. وقبل هذا، وقبل اندلاع الحرب الانكلو افغانية الثالثة، كان قد حصل تبادل في الرسائل بين أمان الله ولينين تناول احتمالات اقامة صلات بين بلديهما. ولئن ابتدأ أمان الله المراسلة، فان السوفيات انتهزوا الفرصة واستفادوا منها، فيما كان الحكم الثوري يتجه باهتماماته شرقاً، يائساً من امكانات "التحول البروليتاري" في أوروبا. وبالفعل ففي تشرين الأول اكتوبر 1919، تبادل البلدان المبعوثين المكلفين بحث تطوير العلاقات. ثم في آب أغسطس 1921 وقّعا وصدّقا على معاهدة صداقة كانت الاولى من نوعها توقّعها افغانستان بعد اكتمال استقلالها، واول معاهدة من هذا الصنف توقّعها الحكومة السوفياتية. والحال ان هذه المعاهدة تحديداً هي التي مهدت لاقامة قنصليات والحصول على مساعدة تقنية روسية ومعونة سنوية من موسكو بقيمة مليون روبل، فضلا عن مد خط تلغرافي بين كابول والاراضي السوفياتية. وبعد حادثة حدودية صغيرة وقّعا، في 1926، اتفاقية أخرى للحياد وعدم الاعتداء، قضت باقامة خطوط جوية بين العاصمتين عبر طشقند. وفي السنوات الثلاث الاخيرة من عهد امان الله، بلغ الوجود السوفياتي اوجه في افغانستان. وقد اعتبر بعض الذين تناولوا التاريخ الافغاني ان البذور الاولى التي اثمرت الشيوعية اللاحقة زُرعت آنذاك. فيومها وُجد اكبر عدد من الموظفين الديبلوماسيين الروس في الخارج في افغانستان، كما زوّدت موسكو حكومة كابول 13 طائرة حربية بطياريها وتقنييها. ووصل الأمر بالسوفيات أنهم، بعد اطاحة امان الله، حاولوا ارجاعه الى الحكم فأرسلوا قرابة ألف رجل الى شمال افغانستان، مُقنّعين كأنهم أفغان، ويقودهم، شكلياً بالطبع، سفير كابول في موسكو. وتمكنت هذه القوات من الاستيلاء على مزار الشريف وتاشكورخان، ثم اتجهت الى العاصمة، الا ان الاحتجاجات الدولية قضت بسحبها. لكن الانفتاح على السوفيات لم يكن مهمة سهلة. فأمان الله حصل على ما حصل عليه منهم في الفترة التي كانوا يجدّدون وضع اليد الروسية على آسيا الوسطى، ويقمعون الاسلام واللغات والتقاليد المحلية، كما تقوم في وجههم تمردات كان مهزوموها يفرّون الى افغانستان وايران. وعلى امتداد هذه المرحلة كان أمان الله يقدّم معونات للمتمردين المسلمين، لا بل ينظر الى نفسه كقائد للمسلمين عموماً. وفيما يرى البعض انه نوى انشاء فيدرالية اسلامية لآسيا الوسطى، يذهب آخرون الى انه كان ينوي نقل الخلافة التي الغيت في تركيا الى كابول! وفوق ذلك لم يُبد أمان الله اية اشارة تدلّ الى اعجابه بنظريات السوفيات الاجتماعية وموقفهم من توزيع الثروة. فهو كان معنياً بتوطيد السلطة المركزية وتحديث المجتمع عناية كلية لم تترك اي حيّز للمسائل الطبقية او غيرها. كما لم تُضعف علاقته بموسكو علاقاته ببلدان الغرب واعجابه بها، حتى ظهر من يقول إن أمان الله هو مؤسس سياسة حياد أفغانستان التي بلغت ذروتها في عهد حفيده ظاهر شاه.