قد يكون صحيحاً تمام الصحّة نقد الحرب الأميركيّة والأطلسيّة في أفغانستان، والذي تجدّد بعد قرار باراك أوباما إرسال ثلاثين ألف جنديّ إليها يضافون إلى جنوده هناك. وربّما كان صحيحاً كذلك قول القائلين إنّ الفشل سيكون حليف هذه الحملة تماماً كما كان حليف حملات سابقة استهدفت ذاك البلد العصيّ على الخارج. ما ليس صحيحاً إطراء الصمود الأفغانيّ في مواجهة «الإستعمار» وفي مقاومة ذاك الخارج لأنّه، في الوقت عينه، صمود في مواجهة الحضارة والتقدّم. وهذا ما يقوله تاريخ أفغانستان الحديث منذ نشأتها في 1747 على يد أحمد شاه دورّاني، كما يقوله واقعها العنيد والمتكرّر. فباستثناء فترة عابرة امتدّت من 1919 إلى 1923 حاول فيها الحاكم المستنير أمان الله خان تحديث بلده، وأنتج لهذا الغرض دستور 1923، ظلّ تاريخ ذاك البلد صنيع طبيعته الخام. ولئن نجحت بريطانيا في «جرّ الهند من شَعرها إلى الحضارة»، والتعبير لكارل ماركس، فإن أفغانستان التي أجبرت أمان الله على الاستقالة لم تنشدّ، فبقيتْ «كما خلقتَني يا ربّ». وغنيّ عن القول إنّ نقص الاستعمار، لا الاستعمار، هو ما طغى على صدر البلد المذكور، الموصد عن البحر والمحاط ببلدان، هي الصين وإيران وباكستان وتركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان، لا تملك من طاقات التقدّم ما يفيض عنها إلى سواها. هكذا، وفي القرن التاسع عشر، بقيت أفغانستان دولة عازلة في «اللعبة الكبرى» الشهيرة بين الإمبراطوريّتين الروسيّة والبريطانيّة، فاستطاعت الاثنتان أن تتقاسماها من خارجها بوصفها مناطق نفوذ، لكنّهما عجزتا عن اختراق صلبها وتكييفها من داخلها. ومثلما استعصى التحديث «اليمينيّ»، استعصى التحديث «اليساريّ» الذي افتتحه انقلاب 1978 والغزو السوفياتيّ في العام التالي. ولئن نجحت القوّات الأميركيّة في 2001 في تقويض النظام الطالبانيّ، فإنّها لم تنجح في استخلاص فئة سياسيّة حاكمة تجتمع فيها الشعبيّة والشفافيّة، فلاح فساد كارزاي بديلاً أوحد من تخلّف «الطالبان». هكذا يمكن القول إنّ المناعة في وجه الخارج كانت دائماً تعبّر عن مناعة في وجه إنشاء سلطة مركزيّة حديثة وفعّالة، إن لم يكن في وجه قيامها أصلاً. فما أن هُزم الشيوعيّون بعدما سحب ميخائيل غورباتشوف القوّات الروسيّة، أواسط الثمانينات، حتّى وقعت البلاد في حرب أهليّة طاحنة بين قوى «المجاهدين» أنفسهم. وما إن سقط حكم هؤلاء حتّى أمسك بالسلطة «الطالبان» بوصفهم عصارة النزعة الاستقلاليّة القصوى التي تضمّ إلى عدائها السياسيّ للغريب عداءها الثقافيّ المتمكّن له. ودائماً ظلّ الانقسام إلى باشتون وطاجيك وأوزبك وهازارا وإثنيّات أصغر، يقود كلاًّ منهم أمير حرب أو أكثر، أقوى، بلا قياس، من إنشاء دولة أفغانيّة تتولاّها هيئات سياسيّة منتخبة. وبدورها بقيت حريّة الدين والإصلاح الزراعيّ، وخصوصاً تعليم المرأة وعملها، القضايا الأساسيّة الثلاث التي تشقّ الأفغانيّين ما بين كثرة «الوطنيّين الأصلاء» الذين لا يريدون شيئاً من هذا كلّه، وقلّة «العملاء للأجنبيّ» الذين يسعون إلى استيراد نموذجه في التعامل مع القضايا تلك. وفعلاً قد تتكشّف «حرب أوباما» عن حماقة أميركيّة أخرى، وعن هزيمة أميركيّة جديدة. إلاّ أنّ الهزيمة الأكبر ستطال أفغانستان نفسها. ذاك أنّ التقدّم وحبّ الشعب، أقلّه في ذاك البلد التعيس، ليسا مساويين ل»مناهضة الاستعمار». هنا تبدو المحفوظات البسيطة بسيطة جدّاً.