تقدم زكريا تامر فجأة الى صدارة المشهد القصصي العربي، بمجموعته الأولى "صهيل الجواد الأبيض" 1960 معلناً مفصلاً جديداً في تطور القصة القصيرة العربية. وعلى رغم أن الحداثة القصصية ستجعل من هذا المفصل عنواناً وتتخصّب فيه وتخصبه، إلا أن اللحظة القصصية التامرية ستظل حاسمة فيه حتى اليوم، كما لم يتحقق للحظة كاتب آخر سوى هذا الذي تقدم من القاع الدمشقي، غير متدرع بالتحصيل العلمي والمثاقفة، بل بالحساسية التي يبدعها - كما تبدع هي - التجريب والتمرد والشعبي والتراثي واللعب والمخيلة المشبوبة - أم المجنونة؟ - والكثافة. قبل زكريا تامر، ومنذ ثلاثينات القرن الماضي، كان ميشال عفلق ومحمد النجار وعلي خلقي وفؤاد الشايب وعبدالسلام العجيلي، رسموا أفقاً جديداً للقصة القصيرة. ومع بعضهم ستمضي القصة الى أفق آخر: حسيب كيالي وسعيد حورانية، ورعيل زكريا تامر: مطاع صفدي وعبدالله عبد وجورج سالم وهاني الراهب ووليد اخلاصي ومحمد حيدر وياسين رفاعية وغادة السمان وحيدر حيدر. من بين هؤلاء وسواهم - وكثيرون منهم رحلوا - وباشتباك السنوات المعدودات بينهم، وحده زكريا تامر ظل مخلصاً للقصة القصيرة، فلم يشركها بغير المقالة والخاطرة، وإذ نضيف الى هؤلاء من لحظات المفصل القصصي الحداثي، لحظة يوسف ادريس أو ادوار الخراط أو غاليري 68، يبدو زكريا تامر وحده من ظلت له طوال أربعين سنة غواية الأجيال التالية، فتضافر مريدوه، واجتره بعضهم، وبدا معوقاً لبعضهم، وكأن اللحظة التامرية في ذلك هي اللحظة الأدونيسية في الشعر. ولعل ما يلي من تقديم محمد برادة لندوة مكناس 1983 أن يضيء الجواب عما جاء في اللحظة التامرية، وعما أدامها حتى اليوم: "ان القاص والناقد يجدان نفسيهما أيضاً أمام انفصال المجتمع المدني عن الدولة، أمام العنف وتكميم الأفواه، أمام الاعتصاب والفئوية، أمام التفقير والاستغلال، أمام الاحتلال والخطب البلاغية الجوفاء، أمام استقالة المواطنين من وطنهم، أمام استحالة التواصل ونصول الكلمات، أمام اشياء كثيرة تندّ عن التسمية، إلا انها تجسد واقعنا المتحول الغائص في سديمية عجائبية... سديمية لم تعد تفيد في تجلياتها لا الشاعرية المجنحة ولا الالتزام المؤمثل". هكذا يضطرم عالم زكريا تامر بالجريمة مجموعته: الرعد ويتشهى الدمار مجموعته: دمش الحرائق. ومن "ربيعه الرمادي" الى "نموره في يومها العاشر" الى نداء نوحه الى... تنادي النوستالجيا عمر المختار وطارق بن زياد ويوسف العظمة والشنفري وعمر الخيام... تقوم المدينة التامرية من المقابر والخرائب وغابة المآذن والحجر الشاحب، ويتدافر فيها الغراب والآس والكركدن والخراف الذبيحة والنابالم والقنابل الموقوتة والعصفور والشرطي والغيمة والأطفال الذين يحبّون بنهم، والتقاليد التي تنحر الأنوثة، والسجن والانتحار. في هذه المدينة - العالم، يتحيون الإنسان، ويأكل الجرائد الزاخرة بمقالات تمتدح نظام الحكم، وتظفر اللغة العربية بأرفع وسام لإسهامها في تحويل الهزيمة الى نصر، وينهض الواقع الكابوسي بطلاً للقصة التي تنجبل من ثراء الحكاية الشعبية والتاريخ، والايقاع والكثافة والمونتاج. في البداية بدا الإنسان التامري - بلغة صالح الرزوق - نصفاً من غريب غربي، ونصفاً منا، كما كتب عام 1960 محيي الدين محمد عن "صهيل الجواد الأبيض". وفي عام 1974 سينسب حسام الخطيب كتاب زكريا تامر ورعيله الى أدب الضياع ذي الأسّ الوجودي الملفوع والهزيمة 1967. وفي الآن نفسه، سيرسل قوله في قصص زكريا تامر ذلك الكتاب المشترك لبوعلي ياسين صاحب "الأدب والايديولوجيا في سورية" فتثور ثائرة زكريا تامر الذي كان عضواً في المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب ورئيساً لتحرير مجلة الاتحاد الموقف الأدبي فرئيساً لتحرير مجلة "المعرفة" التي تصدرها وزارة الثقافة، قبل ان يمضي الى مقامه اللندني. وسواء صح اليوم ما قيل في ذلك الشطر من انتاج زكريا تامر، أم لا، فإن قصصه لم تنِ تهتك هذا العالم الذي توحّد غرباه بنا كما توحدنا به، فوصلنا الى اعلان الولاياتالمتحدة وتوابعها للأحكام العرفية كأي دولة عربية عتيدة، ووصلت جائزة العويس في القصة والرواية والمسرحية الى زكريا تامر - مع المبدع المصري الكبير محمد البساطي - فلعلها اللحظة المناسبة لتكريم هذا الذي ما فتئ يقدم جائزته للقصة - العربية والعالمية - طوال أربعين سنة، ولعلها أيضاً اللحظة المناسبة لقراءة جديدة في ابداع زكريا تامر.