توزع الألق الذي عرفته القصة في سبعينات القرن الماضي بين خطين: أولهما استأثرت به "التامرية" نسبة الى زكريا تامر، بما يعني ذلك من القصر واللغة الشاعرية ولعب المخيلة، وهو ما اصطلح عليه بالقصة الحداثية أو الجديدة أو التجريبية، مقابل الخط الآخر الذي كان ولم يزل عبدالسلام العجيلي علمه الأكبر - ومن كتّابه المرموقين حسن صقر -، وبما يعني ذلك من الطول وأولوية الحكي، مما اصطلح عليه بالقصة الكلاسيكية. وفيما ران ظل الخط الأول على ما تلا من كتابة الأجيال الجديدة للقصة، تراجع ظل الخط الثاني. و من هنا تطلع المفاجأة الأولى في مجموعة إياس محسن حسن "خرائط مدن محروقة" التي صدرت قبل أسابيع عن "دار الكنوز الأدبية" بيروت، إذ بعد العهد كثيراً عن أن يكتب شاب لم يناصف عشرينيته، وما زال يدرس الهندسة، عشر قصص في مائتي صفحة، وبأسلوبية تؤكد نسبها الكلاسيكي مقدار ما تتوشح باللحظة التامرية أيضاً، ومن فعل التوشيح في النسب تخرج بصوت مختلف وببصمة خاصة. وصدّر الكاتب مجموعته بنص يشتبه بالمقدمة أو البيان، تحت عنوان "بمثابة بداية أو أنثى المدن المحروقة"، ويلفحه القص بلفحته وهو يرسم ذلك المحكوم بالوقت البغيض وبجاسوسيه: عقربي الساعة، في وحدته على الرصيف متسائلاً: "هل هي قصة أحكيها لك؟ أم هي هذيان قبيح على آلة ناقصة الأوتار؟ أتساءل هل هي أنا؟". ولئن كان مقتطف من قصة لزكريا تامر سيصدر القصة الأولى لإياس حسن أمنيات صغيرة فالتامرية تلوح منذ النص - المقدمة، حيث نقرأ مثلاً: "غيمة دخان بصقته سيارة في وجهي، أشنق في مخيلتي ثلاثة رجال مختلفين في كل مرة، يرمقون بعيون صفراء نهديك الهاربين من المحاكم والإسفلت و...". ويمكن للمرء أيضاً أن يتقرى صدى آخر قادماً من سبعينات القرن الماضي، في القصة الطويلة التي كتب - مثلاً - حيدر حيدر، حيث فخامة الإنشاء اللغوي وهيولى الأنثى، وهو اللون الذي لم يقيض له من يوالي فيه مريداً حبيساً أو متمرداً. غير أن قصص "خرائط مدن محروقة" سرعان ما تستبطن ذلك وتتمثله - في الغالب - لتتقدم بخصوصيتها وباختلافاتها، وهي تحكي حكاياتها وترسم شخصياتها، وتلفع بحساسية الجيل الجديد الذي أنجبه القرن العشرون في عقديه الأخيرين. إن عين القصّ مشرعة هنا على تفاصيل العيش الشخصي جداً والاجتماعي جداً. فللمدينة صورتها الكالحة: الضباب الأسود وحجارة الرصيف النتنة والكتل البشرية الرمادية المستوحشة المتحركة في شرايين المدينة الإسفلتية. وليست القرية ولا البادية في صورة أبهى. وفي هذه الفضاءات المتنوعة التي تتطلب خبرتها، فتدلّ القصص بالخبرة، ويقوم مدرس للفلسفة يعمل أيضاً دهاناً وهو يتطوح بين حكاية لطفلته ولعبة مشتهاة وراتب شحيح وأعباء لا ترحم في الحياة اليومية قصة أمنيات صغيرة. ويقوم مدرس الرياضيات في قصة المتوازيان "يكوبس" الاعتقال حياته، بأعباء العيش، ويُنقل الى بلدة ريفية نائية، فيباغته التلميذ الذي علمه من سبق أن الخطين المتوازيين يمكن أن يلتقيا. وبين الرسالة التي يكتبها الأستاذ فاتح عبدالجبار لزوجته، ويومياته في تلك البلدة، تغلب المعجزة علم اللامعجزات: الرياضيات، ويُلقى بالأستاذ في حاوية القمامة، فنقرأ: "في الأزمنة الضيقة القاسية، الشبيهة بعنق زجاجة نبيذ رديء النوع متعفن، تستحيل أبسط الممكنات، دراجة مثلاً. إن استحالة الممكنات أحياناً قد تولد إمكانية المستحيلات في لحظة ما". يوالي هذا العيش الكابوسي فعله في قصة "ليلة سبت" موحداً بين الإنسان والحيوان، فالكلب هنا هو الجائع المكبوت الذي ترعبه المدينة وتطحنه، وهو الذي يتفرج على الواجهات كأستاذ الفلسفة "الدهان"، وتصرعه عصا من يبحث في الحاوية، لينتهي نهاية أستاذ الرياضيات. على أن هذا العيش الكابوسي يبلغ مداه في القصة الأخيرة من المجموعة: "اليوم الأخير للإسهال"، حيث يتقاطع هدير الطائرات المعادية مع انهماك رهط الزعيم برفع الدعم عن المواد التموينية، مع تقدم الغزاة وفشل التوسط لوقفهم، مع المغص والتبرز وهرب الزعيم ورهطه، فالكابوس يودي بصانعه في تلك البلاد المسماة جداً، مع أن القصة لا تسميها. على نحو آخر، أقل تعييناً وأكبر تخييلاً، تأتي قصتا "غزال" و"إنسان". أما الأولى التي يسجل الكاتب بلا ضرورة، أنها ذات أصل كان في بادية الشام، فهي توالي أنسنة الحيوان وحيونة الإنسان، عبر اصطياد دورية عسكرية للغزلان التي ينطوي بينها مواطن مطارد، سيناله الصيد، فيما ترسم هلوسة سجين في قصة "إنسان" قطيع الذئاب وصحبة راعي الماعز للأولاد، والفرار الى حيث ينتصب التمثال الذي يصدع الفضاء: "أنا الشمس وأنا القمر، لي كروم ونساء، أنا الليل وأنا النهار وكفي ظلام وكفي نور، خيولي أقوى من الخيول وسيفي من صوان ... وأنا الصخر والصحراء ... وأنا الرمل والماء والهواء، وأنا المكان وأنا الزمان ... وأنا وأنا وأنا وأنا...". لكن القصة تقابل شمولية أو توحد التمثال بفرادة الإنسان الذي يشكو "كلبيته" ووحدته في هذا الفضاء القاتل الذي تترجع فيه نكتة الحقيقة، فالمرء يقتل ذئباً كي لا يأكله، والذئب يأكل المرء كي لا يقتله هذا. وعلى نحو أقل تخييلاً وأكبر تعييناً تأتي القصص الباقية التي تهجس بالجنس في جسد الرجل وجسد المرأة. ففي قصة "القلعة" تدفع الفتاة بالفتى الى مقعدها في ثانوية الحرية للإناث - هذه هي إذاً القلعة - وتعلمه القراءة والكتابة بالجسد. وهذه هي القصة الوحيدة التي يكون فيها للجنس ألقه، من دون أن ننسى إشارتها في الخاتمة الى الرجل الذي كان ذلك الفتى، وهو يستذكر إذ يعبر قرب الثانوية بصحبة زوجته، في طريقه الى البيت الآمن السعيد. إن هذا الظل من السخرية والأهجية يغدو هتكاً مريراً، ويغدو الجنس كابوساً يعري الذكورة العتيدة. فالمحامي الشاب المتدرب في قصة "رجل تحت النافذة" والذي يحاضر في منظمة الشباب التقدمي، يضبط في أطراف المدينة عاشقين. وبعد أن يتلصص عليهما تثور ثائرته وينتفض. وفي قصة "جنازة البنت سوداء الرموش" يعتدي الثري عبدالمعين على ابنته، فتنتحر، ويتواطأ الضابط والطبيب الشرعي على إنكار الانتحار. وفي قصة "الند" يوصد الأب نافذة ابنته التي تتلصص كأبويها على الهر والهرة، وحين يظفر الأب بالهر ويقطع خصيتيه، ينتشي بالنصر على عجزه عن زوجته. ويبلغ الجنس الأشوه مداه في اغتصاب العساكر للغزال في قصة "غزال". بهذه المفردات من العلاقات والفضاءات يرسم إياس محسن حسن خرائط المدن المحروقة، بلغة لا توفر محرماً، فتزلزل بصدقها، وتتخلص بالاقتصاد اللغوي من الاستطالات والزخرف، لكأنها تقترح بهذا وبسواه كتابة جديدة للقصة الطويلة. وهي بقدر ما تتأسس في الكلاسيكي، تتأسس في الحداثي، وتخرج منهما الى أفق ملون وزاخر وإلى مغامرة يصدح منها أيضاً ما يبدو أنه النقيض: القصة القصيرة جداً، وتتلامع الأسماء طوال العقد الماضي. وهنا يطلع السؤال - ولعل المفاجئ هو مصادرة نسخ مجموعة "خرائط مدن محروقة" بقرار وزير الإعلام اللبناني رقم 101 تاريخ 27/4/2000، بدعوى أن "مضمون بعضها يخل بالآداب والأخلاق العامة"، فهل بلغ الأمر في لبنان حقاً هذا المبلغ؟ *كاتب سوري.