قبل عامين تقريباً، شغلت الممثلة الأميركية الحسناء جوليا روبرتس، أهل المهنة السينمائية وجمهور المعجبين، حين نالت - بعد انتظار طويل - جائزة أوسكار أفضل ممثلة عن دورها في فيلم "ايرين بروكوفتش". والحال انه كان على جوليا ان تمثل نحو عشرة أدوار لافتة قبل ان يرى المعنيون انها - أخيراً - قامت بدور جيد وذي نزعة انسانية تستحق ان تكرم بفضله. فما هو هذا الدور ولماذا كانت له كل هذه الأهمية" كان دور امرأة ربة بيت تأتي من عامة الشعب ومن وسط مشاغلها العائلية ومسؤوليتها عن اطفالها للكشف عن غش أصحاب رأس المال الذين لا يتورعون عن قتل الناس بالمياه الملوثة من دون رادع أو ضمير. ان الفيلم، في هذا المعنى، هو معركة تخوضها بطلته الرئيسة، ما يجعلها بعد معاناة تعتبر صديقة الشعب والمدافعة عن حقوقه. وإذا كانت جوليا/ ايرين اعتبرت هنا عند نهاية القرن العشرين صديقة للشعب بفضل كشفها تلوث المياه وغش أصحاب الشأن، فإن الكاتب المسرحي النروجي هنريك إبسن، قدم قبل ذلك بأكثر من قرن، سلفاً لإيرين بروكوفتش لم يأتِ هو، من عامة الشعب، بل من أوساط النخبة ذات الامتيازات. وحين خاض نضالاً يشبه نضالها تماماً، لم يعتبر صديقاً للشعب بل "عدواً للشعب". وذلك هو، على أية حال، العنوان الساخر والاستفزازي الذي اختاره هنريك ابسن، في العام 1882 لمسرحيته التي قدم فيها هذه الشخصية واعتبرت دائماً من أكثر مسرحياته مرارة وقوة و... ذاتية أيضاً. المسرحية هي "عدو الشعب" إذاً، كتبها ابسن خلال شهور اقامته في ايطاليا في ذلك الحين. وإذا كانت المسرحية قد تنطحت لمعالجة تلوث المياه وخطرها على المجتمع في زمن لم يكن فيه أنصار البيئة قد وجدوا بعد، وكان بالكاد يمكن لأحد ان يتصور وجوداً حقيقياً لمثل تلك القضايا التي لن تولد حقاً إلا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فإنه من الواضح ان ابسن لم يكن يقصد التنبيه الى معضلة بيئوية، بقدر ما كان يبتغي تقديم نص يكشف فيه عن مثاليته وايمانه بالفرد وحمق المجتمع حين يجابه الفرد الذي هو على حق، ليسحقه ويدمره على مذبح المصالح الجماعية - وحتى الطبقية -. بالنسبة الى ابسن كانت المسألة تقوم في الصراع بين وعي الفرد ونذالة الجمع، حتى وان كان الجمع متمثلاً هنا في طبقة معينة تضم السياسيين والرأسماليين وأصحاب المصالح عموماً، طالما ان هؤلاء يبدون قادرين على التأثير، عبر الصحافة التي يسيطرون عليها، على رأي عام نجده هنا سلبياً، على رغم لمسة الأمل التي يتركها ابسن تنسرب في نهاية الأمر. "عدو الشعب" في هذه المسرحية هو الطبيب الدكتور توماس ستوكمان. وهذا الطبيب يعيش أول الأمر حياة هادئة إذ يتعاقد معه شقيقه بيتر لكي يكون الطبيب الخاص بالمنتجع البحري الذي كان هذا الأخير أقامه ويتولى ادارته. والشقيق بيتر ستوكمان هو في الوقت نفسه عمدة البلدة، والرجل النافذ فيها وبه يرتبط الكثير من اعيانها عبر مصالح مالية وصداقات وما شابه. وكان توماس هو أصلاً من شجع شقيقه على تمويل المشروع إذ حدس بأنه سوف يحقق نجاحاً كبيراً. ومن هنا فإن سعادة الطبيب تبدو أول الأمر مزدوجة، خصوصاً ان عمله الجديد هذا يمكنه من ان يعيل في شكل مريح أسرته الصغيرة المكونة من ابنته المدرِّسة، وابنيه الصبيين. ولكن بما ان الرياح تجري بما لا تشتهي السفن يحدث للطبيب ان يكتشف ذات يوم ان مياه المنتجع البحري ملوثة وتشكل خطراً قاتلاً على المرتادين. فما العمل؟ كيف يمكن لهذا الطبيب ذي الأخلاق العالية والنزعة الإنسانية أن يوفق بين مصلحته الخاصة ومصلة شقيقه من ناحية، وبين مصلحة المجتمع من ناحية ثانية؟ انه لن يتردد طويلاً. ذلك ان اخلاقه وقسمه المهني يحسمان الأمر بالنسبة اليه، فيبدأ بالاستعداد لنشر مقال يكشف فيه عن الفضيحة، وهو يعلم علم اليقين ان نشر ذلك المقال من شأنه ان يدمر المشروع، وان في صورة موقتة ريثما تصلح الأمور. وهكذا يتحول الصراع من صراع داخلي لدى توماس ستوكمان، الى صراع بينه إذ جعل نفسه ناطقاً باسم المصلحة العامة وبين شقيقه وما يمثله من مصالح. وهذا الصراع يتمثل في سلسلة من الحوارات التي لا يكتفي فيها هنريك ابسن، بأن يضع على لسان بطله الذي من الواضح هنا انه ينطق باسمه ويمثله في هذا العمل الفذ عبارات تندد بتلوث البيئة وبالمصالح المالية التي لا تهتم بهذا، بل انه يضع على لسانه أيضاً عبارات وتنديدات لو تفحصناها جيداً سنكتشف انها تشبه، الى حد التطابق، خطابات مماثلة سوف تظهر بعد قرن وفيها شجب للحضارة الحديثة التي تؤله المصلحة المادية على حساب مصلحة المجتمع وصحته. ان ما ينتفض ستوكهمان لأجله هنا انما هو الكذب والغش اللذان هما عماد الكسب الرأسمالي. هنا، امام هذا الهجوم العنيف والمهدد بالدمار الذي يشنه الطبيب، يكون الكيل قد طفح. ويعتبر شقيقه بيتر ستوكمان ان ما يفعله توماس انما هو اعلان حرب حقيقية ضده وضد مصالحه. ويفاجأ توماس بأن المعركة التي فتحها تبدو كأنها تنقلب ضده، بدءاً بزوجته نفسها التي لا تريد أبداً ان تضحي بمصلحتها ومصلحة عائلتها ورفاهها على مذبح كشف الخطر المحيق بالمجتمع. أما بيتر فإنه سرعان ما يؤلب السياسيين والأعيان والقضاء وحتى الصحافة، بل خصوصاً الصحافة ضد شقيقه. وهكذا تنقلب المعركة من معركة الحق ضد الغش والكذب، الى معركة تخوضها هذه الأطراف مجتمعة ضد توماس ستوكمان، الذي يجد نفسه وحيداً في آخر الأمر، وقد تخلى عنه الجميع، وصار في عرفهم "عدو المجتمع". لقد انقلبت الموازين بالنسبة الى بطلنا، وها هي الصحافة تؤلب ضده حتى الرأي العام الذي قام هو أصلاً ليدافع عن مصالحه. وهنا ذات لحظة يقف توماس بينه وبين نفسه متسائلاً عما إذا كان حقاً يخوض معركة الشعب؟ أم إنه في حقيقة الأمر يخوض معركته الخاصة: معركة خلاصه وضميره وسط مجتمع لم يعد يحفل بالقيم، ولم يعد يريد من الفرد إلا ان يكون تابعاً مسخراً طاقاته لخدمة كل ما هو مادي. وفي وسط تفكيره هذا يصرخ توماس ستوكمان وهو في عز وحدته: "ان أقوى انسان في العالم كله انما هو الإنسان الأكثر وحدة وعزلة". وستوكمان يقول هذا بعدما تحيق به الهزيمة ويفكر للحظة في الهجرة الى أميركا، ثم يمتنع مفضلاً البقاء حيث هو، وخصوصاً في وحدته التي هي انتصاره الوحيد والأكيد. انطلاقاً من هذا البعد، وتحديداً من ايمان ستوكمان توماس بأن معركته الحقيقية انما كانت تلك التي خاضها مع نفسه وأودت به الى اكتشاف خلاصه الفردي، اعتبرت مسرحية "عدو الشعب"، كما أسلفنا، المسرحية التي فيها عبر هنريك إبسن خير تعبير عن نزعته "المثالية الفردية"، وعن خيبة ازاء الجمع، ازاء العدد. وهذا ما جعل الكثر من مناوئي إبسن، يعيدون النظر في الكثير من مسرحياته، ليبنوا على ذلك نظرة تقول ان ابسن انما يعبر هنا عن موقفه "الفردي البورجوازي" المعادي لحق الاقتراع العام، وللديموقراطية الشعبية، في نهاية الأمر. غير ان الذين نظروا الى الأمر على ذلك النحو فاتهم ان ابسن جعل بطله يفرق، ولو ضمنياً، في صفوف الآخرين بين أقلية خادعة كاذبة تدمر العالم حفاظاً على مصالحها، وبين أكثرية مخدوعة بدفع من الإعلام الذي يجعلها تشتغل، ليس ضد مصلحة الطبيب الفاضل، بل ضد مصالحها نفسها. ومن هنا تحمل نهاية المسرحية بارقة الأمل، التي يعبر عنها الطبيب، حيث تصبح المسرحية مسرحية عن الوعي، لا عن اليأس. عندما كتب ابسن "عدو الشعب" كان في الرابعة والخمسين من عمره وفي أوج نضوجه. وكان انكبابه على رسم شخصياته المتنوعة في الكثير من المسرحيات التي كتبها أكسبه قدرة على رسم المواقف الجدلية التي تحمل الكثير من الأبعاد والتفسيرات، شرط ان تنظر اليها بتعمق. وما "عدو الشعب" سوى أفضل مثال على ذلك. ومن هنا اعتبرت دائماً من أقوى أعمال هذا الكاتب النروجي الذي يعتبر من أعمدة المسرح الحديث.