خلال عشر سنوات من الحروب في يوغسلافيا السابقة 1991 - 2001 برزت الى السطح أسماء شعوب وأماكن لم تكن معروفة على نطاق واسع بعد ان كانت مخبأة ضمن عباءة "يوغسلافيا"، ومن هذه الأسماء برز ما يعرف بإقليم "جنوب صربيا" الذي يطلق عليه الألبان كوسوفو الشرقية خلال 2000 - 2001، وشهد مواجهات عسكرية بين القوات الصربية و"جيش تحرير بريشيفو وبويانوفاتس ومدفيجا" أسماء أهم المدن في هذا الاقليم، انتهت في ربيع 2001 باتفاق سياسي وتدخل دولي ينص على تخلي الألبان عن السلاح في مقابل إقرار بلغراد بدور أكبر للألبان في هذا الاقليم ينسجم مع حجمهم السكاني نحو مئة ألف. ونظراً للموقع المهم لهذا الاقليم، الذي يربط بقية صربيا بكوسوفو، اعتقد ان هذا الاتفاق السياسي قد يصبح مدخلاً لاتفاق سياسي أعم بين صربيا وكوسوفو، وتحديداً بين الصرب والألبان. وعلى رغم هذا التفاؤل المبكر، إذ ان هذا الاتفاق السياسي بين الطرفين لم يثمر بعد كما كان متوقعاً، ويبدو ان أصحاب "البزنس" من الطرفين يوفقون أكثر مما هو الأمر مع رجال السياسة. وفي الحقيقة ان الأمر هنا يتعلق ب"بزنس" جديد بالنسبة الى الطرفين، ولكنه في ازدهار متواصل نظراً لما يحققه من أرباح كبيرة: الدعارة. وهكذا يمكن القول ان هذا الموقع المثالي لجنوب صربيا كوسوفو الشرقية أصبح يفرض نفسه على أصحاب "البزنس" في الطرفين للتعاون معاً في الوقت الذي لا تزال تجري بعض الاشتباكات من حين الى آخر بين القوات الصربية و"جيش تحرير كوسوفو الشرقية". وفي الواقع ان هذا "البزنس" الجديد الذي تضخم بسرعة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي دفع بالآلاف الى هذه السوق المجهولة التي تبدأ من البلقان وتنتهي في أوروبا الغربية، وتدر على أصحابها ملايين الدولارات. وعادة ما يبدأ الأمر بإعلان صغير في الصحف المحلية في روسيا ومولدافيا وأوكرانيا ورومانيا عن طلب فتيات للعمل في نواد ليلية براتب شهري يصل الى 400 مارك الماني، أي ما يفوق أضعاف متوسط الراتب في تلك البلدان. وبعد الوصول الى صربيا، المحطة الأولى، تكتشف الفتيات أن عملهن يتضمن مسائل أخرى. ومع استسلام الفتيات لهذا المصير، بالترغيب والترهيب تصبح صربيا بداية الطريق في مسيرة طويلة لا يعرف أحد أين تنتهي. ربع مليون حال وتفيد تقديرات "المنظمة الدولية للاجئين" IOM ان هناك نحو ربع مليون حال متشابهة من بلدان أوروبا الشرقية تجوب صربيا والمناطق المجاورة. وتعتقد هذه المنظمة ان هذا "الجيش" من الفتيات، اللواتي ينتمين في غالبيتهن الى رومانيا ومولدافيا وأوكرانيا، يتدرجن في المهنة من شمال صربيا الى جنوبها وصولاً الى طريقين: الأول يقود الى كوسوفو المجاورة، إذ تزدهر هناك السوق بفضل وجود نحو 50 ألفاً من القوات الدولية وأفراد الإدارة الدولية المقيمة هناك منذ 1999، والثاني يعبر شمال البانيا الى ايطاليا ومنها الى بقية أوروبا الغربية. وتعتقد هذه المنظمة وغيرها من الجهات المعنية، ان هذه التجارة الجديدة تحقق ملايين الدولارات سنوياً للمافيا الصربية - الألبانية. فالسلطات الصربية تكشف عن وجود ملفات لهذه "التجارة"، ويتضمن كل ملف المعلومات المتعلقة بالسوق، نظراً لأن الفتاة، بعد دفعها الى سوق العمل، تكسب في اليوم الواحد نحو ألف مارك لا تأخذ منها سوى أقل القليل. وعلى هذا الحساب يمكن تخيّل حجم الأرباح التي تحصل عليها المافيات التي تنشط في هذا المجال. وفي هذا الإطار يشهد جنوب صربيا كوسوفو الشرقية أفضل تعاون بين المافيا الصربية والمافيا الألبانية، أو أصحاب "البزنس" كما يفضلون ان يطلق عليهم. ففي النوادي الليلية في بويانوفاتس وبريشيفو يلتقي الزبائن الصرب والألبان، ويحظون بمعاملة واحدة من دون "تمييز قومي". ومن ناحية أخرى يتواصل التعاون بين طرفي الحدود بين الصرب والألبان من المافيات، إذ ألقت السلطات الصربية في آخر حادث القبض على الصربي ميروسلاف ستانكوفيتش وهو يقود 146 فتاة الى حدود كوسوفو، وكان يفترض ان يتسلمهن هناك أفراد المافيا الألبانية التي تعمل على الطرف الآخر من الحدود. ولا بد من الاعتراف بأن ما يحققه رجال "البزنس" يعجز رجال السياسة هنا وهناك عن تحقيقه في المجالات الحيوية الكهرباء والمواصلات والاتصالات الخ التي لا بد من التعاون فيها. وأصبحنا في وضع نأمل ان تحذو الحكومتان الصربية والكوسوفية الجديدة حذو المافيتين الصربية والالبانية وأن تصل الى نوع من التعاون الذي يحقق مصلحة الطرفين في حقول الاقتصاد والبيئة والتنمية.