لا أحد يفهم الموتى! لطيفون، هادئون، وُدعاء وطيبون... وكسالى. لكن، أكثر من ذلك: عنيدون! عنيدون أكثر مما يُصدَّق عن موتى... وأكثرَ مما يليق بهم أيضاً. .. .. .. .. ذات صباح، وعلى غير توقُّعٍ من أحد، جاؤوا إلينا. جاؤوا في الصباح وكانوا يصخبون. جاؤوا في صباح شديد... وتحت شمسٍ كثيرةْ... يحملون أقفاصاً بلا أسلاكْ ودرفاتِ نوافذ بلا مقابض وبواباتِ زنازين مخلَّعةْ ورفوشاً!... لماذا الرفوش؟!... وقالوا كرجلٍ واحدٍ يقول: أخيراً... حانَ وقتُنا لنموتْ. .. .. .. .. ناسٌ بأذرعٍ ورؤوس وناسٌ بلا أذرعٍ ولا رؤوس ... وموتى. "موتى؟..." لا، أبداً: ناسٌ حقيقيون وغامضون جاؤوا من جهةٍ غامضةٍ ما... من طَرَفِ كوكبٍ غامضٍ ما... من ذاكرة نسيانٍ ما..." : جاؤوا من الغموض! فقطْ جاؤوا ليصيحوا ويعربدوا ويدمّروا! دمَّروا كل ما تقع عليه الأعينُ والأيدي الأيدي!!...: دمّروا الغبارَ، والهواءَ، والسكينةَ، وحجارةَ النعاسِ، وأسلاكَ الهواتفِ السرّيةْ... ورفعوا قناديلَ الأعراس وسُرادقاتِ المآتمْ وراحوا يتبسّمون! وقالوا: أخيراً، نحن هنا. ... "جئنا لنموتَ على أرضْ": هتفوا بصوتٍ واحد كمواطنين صالحين ومُدرَّبين... قالوا "نموت..." كمن يقول: سأشرب!... وفسّروا: على أرضٍ حقيقيةٍ تحتَ سقوفِ منازل حقيقيةْ فوقَ وسائد بيضاءَ نظيفةْ ناعمةْ وحقيقيةْ و... تحت نورِ سماواتٍ حقيقيّ. : وأينَ هي - سألناهم - الأرضُ الحقيقيةُ والمنازلُ الحقيقيةُ والوسائدُ والنورُ والسماواتُ وال... حقيقيّ؟!... - هنا... وهنا... وهنا/ قالوا، كمنْ يقولُ: "الماءْ..." وراحوا يرفسون الأرضَ بأقدامهم ويصفعون مواضعَ قلوبهم بما يشبه راحاتِ الأيدي وإذ لم نكن نؤمن بما يقولونْ، وإذ لم يكونوا يعرفون أنهم يُكذَّبون، وإذ كنا خائفين الى حدٍّ كبير، فقد كان علينا أن ندّعي أننا صدّقناهم / فقلنا: صدَّقْنا. .. .. .. .. ... ومرةً أخرى قالوا: جئنا لنموت... "جئنا لنموت..." قالوها كمن يتلذّذ بمذاقِ لقمةٍ محلاّة! سُمِعَ مَن يقولُ لهم: إرحلوا. - بلْ جئنا لنموت. : إذنْ، إرحلوا وموتوا بعيداً. موتوا في بيوتكم. - لا بيوت لنا إلا هنا. : إذنْ، موتوا هناك، على حافّة المكان... - بلْ هنا، وفي قلب المكانْ... قالوا "قلب المكان"... ودقّوا على صدورهم ورفسوا حجارة المكان بأرجلهم الحافية : اذهبوا وموتوا هناك... في أحضان آبائكم وأمهاتكم وزوجاتكم. - لا آباء لنا، ولا أمهات، ولا زوجاتْ... هنا الأبُ والأمّ والزوجة والحفيد هنا المكان: هنا قلبُ المكان ورفسوا الأرضَ ودقّوا على الصدور!.... .. .. .. .. جاؤوا ليقولوا وقالوا: نحن هنا ومن هنا.. وهذا ال"هنا" بيتنا ومأوانا وساحةُ عرسنا وحظيرةُ مواشينا... وأيضاً سيكون قبرنا - قبرنا الأخير. مكاننا. قالوا: "مكاننا"... فتهدَّلوا ساقطين على قلبِ المكان... وماتوا... ماتوا على القلب. .. .. .. .. .. ماتوا "هنا" - في قلبٍ، وعلى قلبْ. ماتوا تحت أعينِ الجميعْ ورغماً عن إرادةِ الجميعْ وكراهيةِ الجميعْ وفزعِ الجميعْ..." : ماتوا في النور. كانوا - إلى حدّ كبير - مغرمين بمزاولةِ الموتِ على مرأى... لهذا قالوا "هنا..."... وماتوا. ماتوا حقاً، ماتوا جميعاً، وماتوا: على قلبٍ، وتحت نورْ... ليسَ تماماً كما يموتُ موتى... وليس تماماً كبشرٍ لا يعرفون كيف يموتون... بلْ تماماً كبشرٍ يعرفون جيداً كيف يموتونْ وكما يَحسُنُ أن يكونَ موتُ الأموات: تحتَ نورٍ... وعلى مرأى.... .. .. .. .. ... وفي تلك العهود لم تكن النباتاتُ قد وُجدتْ بعد" لكنْ، في تلك الساعةِ - المعجزةِ، الموتةِ - المعجزةْ، امتلأت الأرضُ بالأشجار والسواقي وأعشابِ الرعي، وارتفعت فوق عواميدِ الأرض سماواتٌ ضاحكةْ... وامتلأ ما بين السماوات والأرضِ والأشجارِ والسواقي وحقولِ الرعي بكائناتٍ رشيقةٍ، صغيرةٍ، ضاحكةٍ... وتُغرّد...! : الأمواتُ يطيرون!!... 16- كانون الأول - 2001