لا يسع قارئ قصص رياض بيدس المضمومة في كتاب "حكاية الديك الفصيح"، الصادر حديثاً عن "منشورات دار المقدس" في رام الله، الاّ التوقف عند حقيقتين تقعان خارج حدود النصّ نفسه: الاولى، ان هذه القصص وإن إختيرت من ثلاث او اربع مجموعات سبق صدورها، فإنها في النهاية تنتمي الى اعمال الكاتب المبكرة. واحسب ان اقتصار امر الاختيار على القصص المكتوبة عام 1990 فما قبل، مرده الى رغبة الكاتب في جمع أنضج قصصه المبكرة وإصدارها في كتاب يكون التمهيد الملائم لاعماله اللاحقة. الحقيقة الثانية ان رياض بيدس كاتب فلسطيني من الاراضي المحتلة عام 1948. لا يمكن تجاهل هاتين الحقيقتين نظراً الى دورهما في تفسير النقص الذي لا بد لقارىء هذه القصص من ملاحظته. وحريّ بالاستدراك ان هذا النقص وإن نجم عن عيب جماليّ بالضرورة، فإننا في هذه السطور، وإنطلاقاً من الحقيقتين المذكورتين، نؤثر إعتباره بمثابة ظاهرة جمالية مثيرة، تستحق الفحص والمعاينة بمعزل عن الحكم والتقويم. يسم قصص بيدس هذه قسط من الإختلاف والتضارب، على غير مستوى واحد، بما يجعلها تبدو وكأنها موضوعة من مؤلفين عدة. ومثل هذا الإختلاف لا يعود الى حقيقة انها كتبت خلال مدة مديدة نسبياً 11 عاماً وإنما الى حقيقة انها كتبت خلال الطور الاول من حياة الكاتب، وتحديداً، ما بين التاسعة عشرة والثلاثين. ومثل هذا الطور غالباً ما يشهد توزع الكاتب وتردده ما بين مؤثرات جمالية ومواضع اهتمامات وأساليب سردية متفاوتة. فلا يفصل بين كتابة بعض هذه القصص من الوقت سوى اسابيع قليلة، وفي بعض الاحيان، ايام معدودة. مع ذلك فإننا نلفاها على درجة من الاختلاف تفسّر بدورها صعوبة إستيفاء مطلب كلٍ منها. خذ على سبيل المثال قصتيّ "كلب ابن كلب" و"البؤرة" اللتين تعودان الى اسبوع واحد. وعلى رغم ان الكاتب يتوسل لغة من السرد مشتركة في نزعتها التهكميّة، الاّ ان بين بنائيهما ومداري حدوثهما وسياقيهما الدرامي من التباعد ما يجعل التقارب الزمني في كتابتهما امراً مثيراً للفضول. فالاولى تتوسل بناءً سردياً بسيطاً يستوى على اساس اسلوب المخاطبة المباشرة بما لا يتجاوز المدار الخاص الشخصيّ. فليست هذه القصة سوى بضع رسائل متصلة يتوجه بها أب عاجز الى ابنه المهاجر املاً بالحصول على مساعدة ولكن من دون جدوى. اما قصة "البؤرة" فإنها تتكون من ثلاثة مشاهد منفصلة ومتصلة في آن واحد. فهي ذات بناء معقد يمزج السرد الوصفي بالحوار المسرحي والمونولوغ الداخلي، وذلك في سياق درامي يشمل السياسي والشخصي، التاريخي والوقتي وبما يفضي بنا الى غير منعطف واحد. اذ يجد الراوي، العربي، نفسه جالساً في حافلة بين ثلاثة ركاب إسرائيليين منهمكين في جدال حاد حول ما يجري في الضفة الغربية وقطاع غزة. وجلوس الراوي، العربي، صامتاً، تماماً كما هو مضمون الحوار الدائر بين الركاب الاسرائليين إنما يلخص الوعي بموقف الحيرة المزدوجة التي يعيشها الإسرائيليون والعرب على السواء. وهي حيرة سياسية وجمالية معاً. فعلى رغم ان العربي هو راوي الحكاية، وان الحوار يتناوله هو وأبناء ملته، الاّ انه يضطر الى ملازمة الصمت. الى ذلك فهناك الحيرة التي يعبّر عنها الاسرائيليون، ان في ما يتعلق بما ينبغي فعله حيال ما يجري في "المناطق"، او بما يتوجب على احد المتحاورين فعله حيال ابنه المستنكف عن الخدمة العسكرية هناك. وما هذا الاّ تلخيص للمشهد الاول من القصة. اما المشهدان الآخران فإن كلاً منهما يمضي أبعد في تفجير التوتر الذي يفصح عنه المشهد الاول وبما يبلغ حدّ التصوير العبثي للإمر. وهكذا ففي حين ان هذه القصة تنهال على شكل اصوات حادة تستولي على إهتمام القارىء، فإن القصة الاولى تترامى اشبه بصدى بعيد لأحد هذه الاصوات وتحديداً علاقة التوتر القائمة ما بين الاب والابن. ولكن على رغم البون الشاسع ما بين القصتين الاّ إنهما تعانيان النقص نفسه. يتجلى النقص المقصود في حقيقة ان كلاً منهما تبدو اشبه بإسكتش او إسكتشات سردية، اي في شكل من الكتابة لم يفلح بعد في تأسيس معناه الخاص الكامن اسفل السرد. ونظراً الى قصر حيزها، فإن القصة القصيرة، سواء توسلت الاسترسال التفسيريّ سبيلاً ام الايجاز الايحائي، فإنها لا بد في ان تعمل على إنشاء ذلك المستوى العميق من المعنى والاّ فإنها تنجلي عن وقوف عند حدود المحاولة. والوقوف عند حدود المحاولة هو من علامات طور الإقبال على الكتابة التي غالباً ما يكابدها الكاتب الجديد بخاصة اذا ما وجد نفسه متردداً بين اكثر من سبيل تعبيري او مدار إهتمام. بيد ان هذا التردد لا يرجع فحسب الى ان مؤلف هذه القصص كاتب مقبل على الكتابة، وانما ايضاً الى انه مقبل على الكتابة، اولاً، من موقع خارج عن المدارات الادبية العربية السائدة والمتوافرة، وثانياً من قلب ميدان جغرافي وثقافي ما انفك بكراً على المخيلة الادبية العربية كأن تستشرف ابعاده وتعيّن ملامحه على صورة ادبية. وهذا من اثر الحقيقة الثانية التي ذكرنا، اي ان رياض بيدس هو كاتب فلسطيني من الداخل. ولئن إتخذ بيدس النتاج القصصي العربيّ مرجعاً، فليس من باب الانتماء العضوي فيه بما يجعله يلتزم تلقاء بأحدث اساليب هذا النتاج وأشده هيمنة وبما ينجم عن تقديم إضافة اليه. وإنما هو اقرب الى الأخذ بجملة من الاساليب التعبيرية الجاهزة التي تسوّغ له إنتقاء ما يشاء منها، او التردد بينها. احسب ان هذا هو التفسير الاقرب للتجاور، مثلاً بين شكلي القصة الفانتازية الكافكاوية نسبة الى كافكا والفلكلورية الفكاهية والساخرة. او مثلاً بين اسلوبي المونولوغ الداخلي النازع الى الإطناب والشرح بما يقرر ويكشف كل ما هناك، من جهة، واسلوب الوصف البالغ الاقتصاد بما يفسح مجالاً كبيراً لمخيلة القارىء لتكتشف وتبتكر ما لا تفصح القصة عنه، من جهة اخرى. او التردد ما بين اللغة العامية والفصحى او المزج بينهما في سياق لغة سردية محليّة النبرة ولكن في الوقت نفسه تتخللها كليشيهات وحوائج إنشائية. الى ذلك فهو يتردد بين هذه الاشكال والاساليب السردية المختلفة من قلب منطقة غنيّة بالتنوع الثقافي وبالتناقضات ولكنها لم تبرح خارج حدود المخيلة الادبية العربية، على ما سبق وأشرنا. وبعيداً من حكاية ما يُسمى ب"الادب الفلسطيني المقاوم"، وهي تسمية تنطوي على قدر من الإختزال التحقيري بمقدار ما تصدح به من احتفاء، فإن ما كُتب من ادب عربي في الداخل لم يبلغ بعد اي مستوى من الشمول بما يرسي اساس مرجعية ادبية مستقلة يمكن الكاتب العربي في الداخل الإستناد اليها والانطلاق منها. ولعل هذا هو السبب الكامن خلف تفاوت منطلقات الاهتمام ومدارات أو مواضع الحدوث في قصص بيدس. فهذه قصص تدور في الريف، او البيئة الفلاحية التقليدية، وفي المدينة ذات الطابع الكوزموبوليتي الحديث، وفي البلاد وفي المهجر. وبعضها يجري في إطار وثيق الصلة بالوعي الشائع للواقع، بينما بعضها الآخر يجري في فضاءات فانتازية قريبة الشبه بفضاءات بورخيس وكافكا. ولعل ابلغ ما يبيّن التردد بين مدارات الحدوث المختلفة هذه هو التردد الكامن في طبيعة الوعي بهذه المدارات ومنطلقات الإهتمام. فمرة يتجلى مدار القصة من خلال وعي إجتماعي محلي لا أثر سياسياً فيه، ومرة يكون الوعي السياسي هو العامل الوحيد في تعيين مدار القصة وسياقها الدرامي. هكذا ينعدم أثر السياسة في القصة التي تحمل عنوان "كلب ابن كلب" مثلاً، إنعداماً يشي بأنها تدور في عالم مجرد من السياسة. في حين نجد ان قصة مثل قصة "البؤرة" يغلب عليها الوعي بالسياسة على وجه لا مكان للتمييز فيه ما بين إطار المواجهة السياسية التاريخية وإطار المواجهة اليومية التي قد تكون إجتماعية وثقافية بمقدار ما هي سياسية. ومثل هذه السمة تتكرر في الكثير من القصص الاخرى بما فيها تلك المكتوبة في فترات زمنية متقاربة وبما يشي ان الكاتب ينطلق من مخيلتين متضاربتين في آن. غير ان هذا التردد لا يبقى من دون نتائج واعدة. وهناك على الاقل ثلاث قصص تبدو وكأنها افلحت في تجاوز التوقف عند حدود المحاولة السردية بما يبشر بنشوء ذلك المعنى الذي يُكمل القصة ويدفع عنها شبهة النقص. فقصة "باكراً في هدأة الصباح" و"الرأس هو العنوان المجنون" و"كلمة واحدة وبس"، وان لم تظهر بالضرورة كخلاصة للتردد ما بين اساليب سردية متفاوتة ومدارات حدوث متباينة، الاّ انها تفلح، كلاً بدورها، في تأسيس لغتها وإيقاعها السرديين الملائمين ومن خلال الاستجابة الى مخيلة قادرة على الإلمام دفعة واحدة بمدارات حدوث مختلفة. فالقصتان الأوليان تعرضان واقع العلاقة بين العربي واليهودي من دون ان تختزل هذه العلاقة الى لحظة المواجهة المألوفة في قصص بيدس الاخرى والقصص العربي عموماً مما يعرض لهذا الامر. فالكاتب وان لم يستبعد التوتر الذي يسم هذه العلاقة الاّ انه يصوّرها في السياق الارحب للحياة وبما لا يفصل مدار الخاص عن العام او التاريخيّ عن الموقت الآنيّ، وانه نتيجة تصوير كهذا يتمكن السرد في تأسيس معناه الكامن أسفل العبارة. واذا ما مالت هاتان القصتان الى إيجاز في التعبير لا يكشف المعنى كاملاً او يرفعه الى سطح السرد، وانما يكتفي بالاشارة اليه، فإن القصة الثالثة لا تتورع عن الكشف والافصاح ولكن من دون ان تبدد المعنى او تبسطه. فالقصة تبدأ من موقف يومي عابر، غير انها سرعان ما تمضي الى الكشف عن بعد نفسي يكمن خلف هذا الموقف. بيد ان السرد لا يتوقف عند حدود الكشف عن البعد النفسي، وانما يشير من طرف خفي الى معنى رمزي عميق يدل على إحساس دفين بظلم تاريخي ملازم للإحساس بالعابر والطارئ من المواقف والعلاقات ما بين الناس في ذلك الواقع بالذات. فهل تكون هذه القصص المكتملة المعنى خاتمة التردد او انها محض مظهر من مظاهره؟