في هذه المقالة الثالثة والأخيرة، سأحاول أن أُوجِزُ ما قلته للأصدقاء في القاهرة، في أثناء حواراتنا التي عرضتها بإيجاز في المقالتين السَّابقتين. * أوّلاً، لا شكّ أنَّ هناك سَرْديّةً تَطْغى على الكتابة الشعريّة الرّاهنة. وهي سَرْدّيةٌ آخذةٌ في زَحْزحةِ التّخوم الرّاسخة التي أَرْسَاها فَنّ التأمّل الشعريّ، بَصَراً وبَصيرةً، طولَ أَلْفي سنة من تاريخنا، ربّما يُخْبئ ذلك انقلاباً في طُرقِ المقُاربَةِ الشعريّة، سيؤدّي الى انقلابٍ في طرق التّقويم، فنّياً وجماليّاً. لكن، عندما نتأمّل عميقاً في نماذج كثيرة متنوّعة من هذه الكتابات الشعريّة القائِمة أساسيّاً على السَّرد، نجد أَنَّ الآنِيَّةَ أو الرَّاهنيّةَ اليوميّة لا تَتجلّى فيها بوصفها حالةً اجتماعيّة، وإنّما تتجلَّى بوصفها شاغلاً فَرْديّاً خَاصّاً يتمثّل في حالات الفَرْد الكاتب، الحالات التي يعيشَها يوميّاً في علاقاته مع ما حوله، وفي همومه الحياتيّة المباشرة. وهو إذن شاغِلٌ يشير الى "العُزلة" التي يعيش فيها هذا الكاتب، عزلةِ الانفصالِ عن الهَمِّ الجَمْعيّ. وهي ليست عزلة الانفصال عن "الماضي" المشترَك وحده، وإنما هي كذلك عزلةُ الانفصالِِ عن "الحاضر" المشترك. هل في ذلك إنكارٌ للمشترَكِ في المستقبل؟. لكن هل يقدر الشعر أن يتنفَّس حَقّاً إلاّ في الإفلاتِ مِنَ الرّاهنِ الشخصيّ المباشرِ: من تلك "العزلة" نفسها؟ أي في خروج الشّاعر من حدود مشاغله الفرديّة الخاصّة به، مِن "بكائيّاته"، أو من "لذاذاته"، وحدودِها الخاصّة؟ أليس من خاصّيات الشعر الأولى أن يخرجنَا، كمثل الحبّ والحلم، مِمّا نألفُه؟ إنّ إبقاءَه إذن سجيناً داخلَ تخوم عالم أليفٍ يوميّ، يسجّله أو يعكسُه مِرْآثيّاً، عَملٌ لا يقودُه إلاّ الى الاختناق. * ثانياً، ليست الكتابة الشعريّة، بوصفها "مضموناً" ابتداءً، كما يتوهّم بعضهم، وانما هي اسْتِئناف. لا بَدْءَ في المُطلق. أو لنقل: البدْء نفسُه اسْتئنافٌ، أو سلسلةٌ من البدايات. مع ذلك، تكون الكتابة الشعرية ابتداءً، مِن حيث هي أسلوبٌ خاصّ، أو طريقةُ تعبير خاصّة - أي من حيث ارتباطها بصاحبها، بخصوصيّته التّعبيريّة، فيما هُوَ يَسْتأْنِف. ويبطل معنى الكتابة، إذا خلت من هذه الخصوصيّة، لأنّها تصبح إخباراً وَإعلاماً. "ما يُعذِّب حياتَكَ، يُعذّب كذلك أسلوبَك في الكتابة": يقول فلوبير. فعندما لا نرَى في كتابة الكاتب "عذاباً"، فمعنى ذلك أنه يقول ما يقول بشكلٍ إعلاميّ إخباريّ. ولا يكونُ "كاتباً"، وإنّما يكون مُجرّدَ ناقلٍ أَوْ رَاوٍ. والحالُ أنّ معظم النّصوص التي تكتب اليوم احتفاءً بالرّاهن العاديّ اليوميّ تفتقر الى مثل ذلك "العذاب" الذي يَعنيه فلوبير، حَتّى ليبدو كأنّما ليس فيها أو وراءَها "شخصٌ" هي القائمة أساسيّاً، وَفْقاً لادّعاء أصحابِها، على "الشّخْصي"، وعلى "نوازع" الشَّخْص. ومن هنا لا نجدُ فيها مسافةً أو فاصِلاً بين الشَّيء والكلمة، كأنّ اللّغة فيها وَجْهٌ مُلْتصِقٌ بالشّيء التصاقَه بمرآة، وهي لذلك لا تراه. وهكذا تبدو الكتابة كمثل تُرْسٍ مَشْدودٍ على "جسم" الحياة: لا ترى هي كذلك، من الحياة أيّ شيء. أُضيفُ أنّ هذا النّوعَ السّائد من الغَرَق في التّفاصيلِ يؤدّي الى أن تُصبح اللّغة "كسولةً"، مسترخيةَ تَفْتقر الى "اللّهَب" والى "العَصَب". * ثالثاً: إذا كان القَصْدُ من كتابة التّفاصيل في الهُنَا والآن، القبضَ على "الحقيقة الحيّة، كما يقول بعضهم، فالسّؤال الملحّ آنذاك هُو: هل "الحقيقة" هي في ما نعيشه هنا والآن؟ الحقّ أنّ الرّاهنَ اليوميّ ليست إلاّ وجهاً أو جزءاً من "الحقيقة"، عدا أَنّه عابِرٌ زائل. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ في "الرّاهنيّةِ" نوعاً من النَّقْص: نَقص الرّؤية، ونقص "الحقيقة"، ونَقْصِ التّعبير. ولا يكون اكتفاءُ الكاتب بالتّركيزِ على "تَفاصيل" الرّاهن إِلاّ نوعاً مِن نَسْج حجابٍ على "الواقع"، وعلى "الحقيقة". ولا تعود كتابة "التّفاصيل"، في هذا الإطار تحديداً، إلاّ شَكْلاً آخرَ لِحَجْبِ العالَم. ثم إنّ لِلتّفاصيل "تاريخاً". فليس الرّاهِنُ راهِناً إلاّ لأنّه امتدادٌ زمنيٌّ لما مَضَى. هكذا يتعذّر "فهمهُ" حَقّاً إلاّ منظوراً إليه في بُعْدَيْهِ: ما يَجيءُ مِن جهة حدُوثهِ، وما يَجيء من جهةِ صَيْرورته. فلا تكتسبُ التّفاصيلُ - الأشياء قيمتَها أو دلالتَها، إلاّ منظوراً إليها في أفق وجودها، وفي أفُق صَيرورَتِها. فكما أَنّ ما وراء الطّبيعة لا يُفهم إلاّ بالطبيعة، فإنّ الطبيعةَ ذاتَها لا تُفهم إلاّ بما ورَاءَها. هكذا يبدو أَنّ أَخْذَ التّفاصيلِ - الأشياء معزولةً في ذاتِها ولذاتِها، إفْقارٌ لها وتَقْليصٌ. ولا يَجيء التّعبيرُ عنها إلاّ "فقيراً" و"مُقلَّصاً". لأقُلْ بتعبيرٍ آخر: لا يُفهم الشّيءُ - التّفصيلُ، ولا يُعَبَّر عنه تعبيراً صحيحاً إلاّ منظوراً إليه بوصفه زماناً، وبوصفه مكاناً، وبوصفه علاقة. والمهمّ إذن ليس في مجرّد كتابة التّفاصيل، بل في كيفيّة كتابتها. في هذا الإطار، تبدو هذه "النّقلة الكتابية، اليوم، من عالَم "النّاس - الأفكار" الى عالم "الأشياء - الحياة اليوميّة" نقلةً مهمّة مِن جميع النّواحي، وعلى جميع المستويات. غير أَنّها أهميّة مَشْروطَةٌ، فنّياً، بمدى جِدّة الرّؤية للعالم وللحياة وللّغة، وبمدَى شعريّة الكتابة. فهذا هو الأساس، لا النقلة في ذاتِها. * رابعاً، يَتعذّر فهمُ اللّغة الشعريّة العربية الرّاهنة فهماً صحيحاً إلاّ في إطارها الثقافيّ الخاصّ بها - شعريّاً، وجماليّاً. وتأسيساً على ذلك، لا تُفهم الحداثة في لغةٍٍ ما، إلاّ في سياقِ قدَامتِها. كذلك ألا تُفهم الرَّاهنيّةُ إلاّ في إطار الزمنية، ولا تفهم التّفاصيلُ إلاّ في إطار الكلّية الشّاملة. ومعنى ذلك أنّ شعريّةَ الرّاهنيّة أو الآنيّة لا بُدّ من أن تستندَ الى حَدْسِ الدّيمومة، وإلى حَدْس التْعَالي، وإلاّ فإنّها تفقد أدبيّتَها، وتُصبح مجرّد "تَقْرير"َ. * خامِساً، أخشى أن تؤدّيَ النّزعةُ الرّاهنيّة - التفصيليّة، الى سَجْنِ المتعة الجماليَة في قَفَص الإدراك الحسّي العادي المباشر الذي لا شأنَ له في الإدراك الجماليّ، خصوصاً ذلك الذي يَقْتضيهِ الشّعر، مِمّا يؤدّي الى سَجْنِ الشعر نفسه في "فضاء" ضيّق ومحدود. وَمهما تقاربَ الشّعر والنّثر عِبْرَ التفاصيل أو في الكلام على الأشياء الرّاهنة، فإن القصيدة على العكس من النّثر لا تُحيلنا الى الواقع، وإنّما تُحيلنا في أَقْصى حالةٍ، الى "صورةٍ" عن هذا الواقع: صورةٍ خاصّةٍ بمخيّلةِ كاتبها. وعندما نقرأ قصيدةً، فإننا ندركها، في المقام الأول، جَمالِيّاً، ومن دونَ أن نُقارِنَها بالوقائع أو الأحداث لنتأكّدَ مِن صِدْقها أو كذبها. فهي، بدئيّاً، ليست "وثيقة"، بل "تخييل". والإدراك الذي يهدف الى التّوثيق لا مكانَ له في عالم الإدراك الجماليّ. ثم إنّ النّثر يعمل دائماً على التّقريب بين اللّغة والواقع، أو على رَدْم المسافة بينهما، حِرْصاً على الوصول الى المطابقة بين المقولِ والقَوْل. غير أَنّ الشعر، على العكس، يخلق دائماً مسافةً بين اللّغة والواقع، سواءٌ في الرّؤية، أو المخيّلة، أو المجاز، وذلك من أجل أن يُبْقي أبواب الواقع، وأبواب الأشياء والعالم مُشْرَعةً أَمامَ الحاسّة، وأمَامَ الذّوق، وأمامَ المخيّلة وأمامَ الفِكْر. سادساً، مهما انفتحت الذّات على الآخر، تفاعُلاً وتبادلاً، تظلُّ لها خصوصيّتُها التي تميّزها عنه. بعبارة ثانية: مهما ائتلَفت الذّات لا بُدّ من أن تظلَّ مختلفة، وإلاّ تبطلُ أن تكون هِي هيَ. في هذا الأفق، أشير الى فَرْقٍ أجده أساسيّاً بين الطّريقة التي ينتهجُها الشّاعر الغربيّ في مقاربة العالم، والطَريقة التي يَنْتَهِجُها الشاعر العربي. الشعر، بالنِسبة الى الأوّل، كتابَةٌ قائمةٌ على المُحاكاة Mژmژsis، كما وضَعها أرسطو. وتعني المحاكاة هنا أنّ الشعر يُمثِّل، أي يبتكر شيئاً يُمثّل الشّيءَ الذي يحاكيه، بديلاً له، "يعكسه". وهو، إذن، يُصوّر، ويرسم، ويجسّد، ويشخّص، ويعرض، ويبيّن، ويشرح، ويُبْرِز... إلخ. الطبيعة، والحالة هذه، هي في الكتابة الغربيّة، موضوع، وتفترضُ محاكاتُها، بِوَصْفِها موضوعاً، الانفصالَ عنها. فلكي نحاكيَ شيئاً يجب أن يكون بيننا وبينه مسافة. والنصّ هنا عالَمٌ عَيْنيٌّ، أكثر مِمّا هو عالمٌ تَخيّليّ. أمّا الكتابة الشعريّة العربية في ذرواتها العليا، وكما تبدو لي، فلم تكن قائمةٌ على مثل ذلك الانفصال عن الطبيعةِ أو الأشياء. كانت، على العكس، قائِمةً على الاتّصال والاندماج. حَتّى الطّلَل الذي كان يُغَنَّى في الفترة السّابقة على الإسلام، كان يبدو كأنّه جزءٌ من جسد الشاعر الذي يتكلّم عنه. ويصل الاتّصال أو الاندماج الى نقطته العليا في شعر الحبّ، وفي الشعر الصّوفيّ. لهذا لم تكن الكتابة الشعرية العربيّة مجرّدَ تصوير، وإنّما كان هذا التّصوير ينطوي على رؤيةِ العين الخفيّة أو الثّالثة مقترنةً بنوعٍ من النَّفَسِ النّبوئي، ينظّم ما تراه عين الظّاهر، ويشير الى ما وراءه، ويكشف عَمّا يُخبئ، ويأمَلُ بشيءٍ أفضلَ وأجمل. هكذا كان يبدو النصّ الشعريّ كأنّه تفتّحٌ لِكُمونٍ، أكثر مِمّا هو رَصْدٌ لظاهر. كان يبدو نَصّاً يحلم بإقامة نظامٍ آخر للأشياء. فمعظم شعرائِنا رسموا الواقع، غير أنّهم كانوا يرسمونه فيما يشيرون الى الرّغبة في تغييره نحو الأفضل، ودون تبشير. وحيثما رأينا أو نرى في الشعر الغربي ما يماثل هذا النّفَس النّبوئي، عند وليم بليك ورامبو وريلكه، تمثيلاً لا حصراً، فذلك عائِدٌ الى تأثّرهم بالنّفَسِ النّبوئيّ الذي عرفه العالم في البُقْعةِ العربيّة. سابعاً، صحيحٌ أنّ الحداثة ظاهرة كونيّة واحدة، لكن ليس صحيحاً أنّها لغةٌ كونيّة واحدة. العمل على تحويلها الى لغة كونية هو، عُمْقيّاً، عَوْلَمتُها. وهنا، تحديداً، يبدو الانقطاع عن تراث اللّغة العربيّة وشعريّتها، كما يُبَشِّر به بعضهم ويمارسونه، ليس إلا إسهاماً في إرساء هذه العَوْلمة. "قصيدة النثر" هي كذلك ظاهرة كونيّة، أي يكتبها جميع شعراء العالم. غير أنّ لها في كلّ لغة خُصوصيّة هذه اللّغة، وخصوصيّة تراثها الجماليّ. وهي، بهذا المعنى، ليست لغةً كونيّةً واحدة. وهكذا يجب أن تكون لها في اللّغة العربيّة. خصوصيّتها التي تميّزها، وتُفْرِدها. يَجب، بعبارة ثانية، أن تكون عربيّةً في "جوهرها"، وان كانت كونيّةً في "مَظْهرها". هذه الخصوصية هي ما يجب أن يهجسَ به شعراؤُها. وفيما يؤكّدون ذلك، ينبغي أن يُدركوا بعمقٍ أنّ التقدّمَ في تقنية الغرب، ليست ضماناً لعلوّ فنّه. فقد تخلق هذه التّقنية أشكالاً متقدّمة، لكنها لا تخلق بالضّرورة شعراً متقدّماً.