من بين اكثر الأسئلة احراجاً للمتأملين في الوضع السياسي الراهن للعراق، تلك المتعلقة ب"مستقبلات" هذا البلد، وخياراته السياسية في مرحلة ما بعد رفع الحظر الدولي عنه، ذلك ان احداً لا يريد او لا يرغب، احتراساً وتحوّطاً من سوء الفهم المستعصي، والذي يضرب اطنابه في "ثقافة الحوار" المرتبكة والمشوشة في الوسط العراقي، باثارة الاسئلة والتكهن بالاحتمالات. ومع ذلك فإن اكثر ما يتوجب ان يكون الشغل الشاغل للباحثين والمحللين، وجنباً الى جنب مع بحث الموضوعات والقضايا الملّحة والعاجلة: كرفع الحصار والديموقراطية والانتقال بالبلاد الى مرحلة الشفافية في العلاقات السياسية، وقضايا الدستور الدائم ودولة المؤسسات المدنية، انما هو تصور وضع العراق الجيوبولتيكي، الذي تثار، اليوم، في صدده أقوى الشكوك. احد هذه "المستقبلات" عن وضع العراق داخل النظام العربي، في حال رفع الحظر عنه، يثير اسئلة مقلقة، مثلاً: هل يمكن، في مرحلة تالية، المحافظة على انتماء العراق العربي وبقاء وتوطّد صلاته بمحيطه العربي؟ وفي ظل تفاقم مشاعر اليأس والاحباط، وربما الجزع من خذلان العرب للعراق وشعبه طوال تسع سنوات من العذاب المرير؟ من الجائز، لاغراض التحليل والدراسة المعمّقة، والتكهن بمثل هذا المستقبل، تصوّر امكانية لتطوير هذه المشاعر السلبية وتبلورها سياسياً. وثمة اكثر من واقعة مثيرة، تكشف عن نمط الجزع العراقي من هذا الجمود والخذلان. ففي اكثر من مناسبة تحول الحظر الدولي على العراق الى حظر عربي لنشاط الرياضيين العراقيين. فمثلاً جرى منع هؤلاء من الحضور والمشاركة في دورة بيروت الرياضية، قبل عام تقريباً، واخيراً، جرى نقاش صاخب بشأن مشاركة الرياضيين العراقيين في دورة عمان الرياضية، بل بلغ الأمر حداً مزعجاً ومثيراً للسخط حين حرم احد أبرز المطربين العراقيين من المشاركة في "اوبريت الحلم العربي" في بيروت. وباختصار انقلب الحظر الدولي، في مناسبات عدة، الى حظر عربي علني لكل نشاط عراقي سواء كان ثقفافياً ام فنياً ام رياضياً؟ وفي كل هذه المناسبات كانت السياسة الكويتية تفرض منطقها على العرب، الذين يسارعون الى الاستجابة للشروط الكويتية، وينزلون عند رغبتها في رؤية العرب وهم يجاملون اخوتهم الكويتيين لطرد اخوتهم العراقيين من ملاعب الرياضة وحفلات الغناء، اي من سائر الأنشطة غير السياسية!، وهو امر يكشف، لا عن المدى المأسوي الذي بلغته سياسة خلط الاحقاد بالمطالب الدولية من العراق من جانب الساسة الكويتيين فحسب، وانما ايضاً عن نمط القطيعة الذي يمكن ان يسفر، في النهاية، عن هذا الإحتقان بين العراق والعرب. في هذا الاطار، لا يعدم المرء رؤية اعداد متزايدة حتى من العراقيين المعارضين الناقمين على نظام الحكم، وهم يُعبّرون عن مشاعر السخط على العرب، ربما من دون تمييز بين الحكام والشعوب وهو تمييز تقليدي غالباً ما يتلاشى في اجواء الاحتقان. هذا تماماً ما حصل مع الليبيين، على المستويين الشعبي والرسمي على رغم ما عرف عن شعب ليبيا من قوة في المشاعر القومية العربية. لقد كان الخذلان الذي شعر به الليبيون، وهم يرون طائرات الرؤساء الأفارقة تهبط في مطار طرابلس المغلق آنذاك في تحدٍّ صريح للإدارة الاميركية، كبيرا، وكبيراً جداً، ربما لانهم ظلوا - حتى آخر لحظة من الحصار - يأملون في رؤية زعيم عربي واحد، يحاكي جرأة الجيران الأفارقة. وفي هذه البيئة المثالية من الاحباط ومشاعر الخذلان، ولدَ الخطاب الرسمي الجديد لليبيا، الذي انتقل بها من حاضنتها العربية الى "المُرضِعة" الافريقية بعدما اكتشف الليبيون ان أم الولد تبرأت منه. وهكذا، وحين تحلحلت عقدة لوكربي تفجّرت هذه المشاعر دفعةً واحدة، وتبلور - نهائياً - خطاب سياسي جديد يعيد تعريف ليبيا كبلد افريقي، ويقطع مع المحيط العربي دونما ردّ فعل شعبي معارض. ولذلك، فإن التساؤل الذي يتوجب فحصه والتدقيق فيه - في حالة العراق الراهنة - هو: هل سنشهد ردّ فعلٍ عراقياً على المحيط العربي يرتكز على نمط القطيعة ذاتها؟ وأين يمكن ان يختمر ردّ الفعل هذا؟ في اطار المجتمع ام في اطار السلطة؟ وبعد ذلك: الى اين سيتجه عراق محطم مُختنق بجغفرافيا مُجحفة؟ فالعراق، لا يملك، على غرار ليبيا. امتداداً جغرافياً يوصله بكتلة من الشعوب المتجانسة في الثقافة والبنى الاجتماعية والاقتصادية. بكلام ثانٍ: ان العراق لا يملك "إفريقياه" الخاصة والتي يمكن له ان يندفع صوبها، مُديراً ظهره لعالم عربي رأى اليه طوال سنوات الحصار كبلدٍ منبوذ؟ ما تفترضه هذه المقاربة بين المثالين العراقي والليبي، ان هناك كل الشروط الضرورية لإعادة انتاج ما يمكن ان نسميه هنا مجازاً ومجازاً فقط بالحل الليبي. اي امكانية تكرار نمط القطيعة مع المحيط العربي، وبالتالي حدوث اختراق جديد يُلقي ببلدٍ عربي آخر خارج حاضنته التاريخية. ونحن نرجح في ضوء عددٍ كاف من الأدلة، احتمال ان تدفع الولاياتالمتحدة الاميركية قُدماً بهذا الحل مرتكزة الى بيئة سياسية من النبذ والاقصاء، مارستها قوى نافذة في النظام العربي، جرى في اطارها استغلال السياسة الكويتية التقليدية إزاء العراق. ولأجل ذلك نسوق هنا الحجج التالية: أولاً: لقد اقترن حل ازمة لوكربي، بخطوة سياسية مثيرة من جانب طرابلس، ربما كانت الاكثر اثارة من بين كل خطواتها السياسية ومشاريعها، التي لطالما فاجأت النظام العربي وأربكته وحيّرته، نعني: تلازم الاعلان عن ان ليبيا غدت "بلداً افريقيا" بكل ما يستلزمه ذلك من ارتباطات استراتيجية، مع الاعلان عن نجاح الوساطات الدولية/ العربية في زحزحة الموقفين البريطاني والاميركي من "عقدة" لوكربي، وبالتالي تم التمهيد لتعليق العقوبات الدولية، وهو ما حدث بعد ذلك بأشهر قليلة. هذا التلازم بين الاعلانين كان مثيراً بحد ذاته، فكأن ثمن تعلق الحظر انما هو مغادرة ليبيا للمنطقة العربية والاتجاه صوب افريقيا. وبالفعل فقد كان هذا التلازم ايذاناً بحقبة جديدة لا قبل للعرب بها. ولسوء الحظ، فقد اتسمت معظم التحليلات السياسية لمغزى هذا التلازم، بين حل عقدة لوكربي والقطيعة مع العرب، بقدرٍ قليل من الحصانة وبأكثر ما يمكن من العُجالة والخفة، ولذلك لم يُفهم من خطوة طرابلس سوى مظهرها السطحي: التخلّي عن العروبة. لقد تم تصوير مراجعة ليبيا لخطابها التقليدي عن العروبة والقومية والوحدة العربية، في العديد من المقالات الصحافية، كنوعٍ من "عقاب" لجأت اليه طرابلس رداً على خذلان العرب لها. ولم تكن المسألة على هذا النحو أبداً. في حقيقة الأمر، جاء الاعلان الليبي عن اكتشاف الهوّية الافريقية واقصاء الخطاب العروبي عن المسار الجديد الذي ستختطه السياسة في هذا البلد، كخلاصة منطقية لجملة من البواعث والعوامل والظروف، شكلت شرطاً تاريخياً جديداً امامها، يصعب، وربما يستحيل تخطيّه من دون ثمن مرير. فما دامت طرابلس غير راغبة او ليست مستعدة بعد، للاندراج في اطار العملية السلمية الجارية في المنطقة، والتي التحقت بها، وبقوة، جارات ليبيا، الشمال افريقيات - العربيات: تونس، والمغرب، وموريتانيا، وأخيراً، جزائر عبدالعزيز بوتفليقة، ثم ظهور مكاتب رعاية المصالح الاسرائيلية في عواصم هذه البلدان بواجهات مكان تجارية فإن الحصار لن يُرفع عن ليبيا. وعليها - والحال هذه - ان تختار بين الاندراج في العملية السلمية والمصالحة مع اسرائيل، او مغادرة الملعب العربي الى ملعب آخر. كانت أزمة لوكربي، في الجوهر، أسماً حركياً لعملية واسعة النطاق، لفرض شرط تاريخي جديد على هذا البلد، عبر تكبيله بسلسلة من القيود والقرارات الدولية، وكان ثمن فكّ الاصفاد، تجرّع الكأس المُرّة: اما التناغم مع النظام العربي المتصالح مع اسرائيل، او مغادرة المنطقة العربية. وقد اختارت ليبيا مرغمة خيار القطيعة مع العرب بطبيعة الحال. ان الأمر المثير للتساؤل هنا، عن البُنية التي رصفت لقبول ليبيا هذا الشرط القاسي، هو: لماذا، حقاً، امتلك الزعماء الأفارقة كل هذا القدر من الشجاعة في تحدّي الحظر الاميركي، من دون خشية، تقريباً، من أية عواقب، في حين ظل النظام العربي عاجزاً عن محاكاة الخرق؟ ثم، ألم يكن إغراء هذه الشجاعة المفاجئة للقادة الأفارقة، من القوة، بحيث يقنع الليبيين بلا جدوى الرهان على العرب وانتظار صحوتهم من رقدة التخاذل الطويلة؟ وبعد ذلك: أليس منطقياً الاشتباه بأن هذا التحدي الافريقي كان مُرّحباً به بالفعل في واشنطن، ما دام يسهّل مهمة اخراج ليبيا من الحاضنة العربية؟ لقد كان الملعب الافريقي مُعداً وجاهزاً لاستقبال الضيف: ليبيا الجديدة الحالمة بدور مختالف ومغاير لماضيها العروبي الآسيوي، اذ كانت هناك جرعات كافية من الخذلان العربي، مقابل جرعات كافية من الشجاعة الافريقية. ان ما يُدلّل عن ان واشنطن، تدفع بالعراق دفعاً، لتجرّع الكأس المُّرة ذاتها، هو ذلك التصعيد الغريب لنمط من الحظر العربي، يطال العراق لا نظامه، بل الحضَّ على اشاعة نوع من "استراتيجية" كراهية بين العراقيين والعرب. وفي هذا النطاق المحدود من الفكرة، يقدم المثال الكويتي، دليلاً ساطعاً عن الكيفية التي تستغل فيها الولاياتالمتحدة الاميركية، كل حادث، وبادرة، مهما كانت صغيرة لتسعير البغضاء بين الكويتوالعراق. بل ان النموذج الكويتي يعرض على المحللين والمراقبين المحايدين، تصوراً عن الكيفية التي تستغل فيها الولاياتالمتحدة الاميركية خلافات العرب وتناقضاتهم، وبما يؤدي، في نهاية المطاف، الى نفور ثقافي وسياسي غاية في التراكب والتعقيد. انه لمن المدهش، حقاً، بالنسبة لكل مراقب محايد، ان يلاحظ كيف تتصّيد السياسة الكويتية مثلاً ما امكنها من ذلك، الوقائع عن قيام العراق المحاصر، بتهريب شحنة نفط من هنا او من هناك، لتفتعل حولها ضجة اعلامية، مع ان المسألة التي يركز عليها الكويتيون في نزاعهم مع العراق هي المخاوف من امتلاكه اسلحة تدمير شامل لا النفط وتهريبه. وبرهنت حادثة جرت اخيراً، زعم فيها ان العراق يهرّب حليب الأطفال، عن الطريقة الغوغائية في هذه الاستراتيجية التي لا هدف لها سوى الدفع بالعراقيين خارج وطنهم التاريخي: بلاد العرب. انه لمن الصعب تخيّل إمكانية للنسيان الجماعي، بعد رفع الحظر، لا لمشاهد الموت الأعزل وحسب، وانما كذلك، للسياسات التي برّرته. وهذا امر قد يجوز لنا ان ننسبه لهذا المستقبل المحتمل: أي ان يصل العراقيون الى القناعة ذاتها بأن بلاد الله واسعة، وان هناك قرية اخرى خلف عبَّدان كما يقول المثل العراقي. ثانياً: ان "العقدة الاسرائيلية" في الموضوع العراقي، واضحة، ايضاً، بما فيه الكفاية، وطبقاً للمثال الليبي، فما دام العراق غير مستعد بعد، او غير راغب بالدخول في العملية السلمية، بالأفعال لا بالأقوال، فان الشرط التاريخي الجديد الذي سيكون ماثلاً امامه، هو ذاته: على العراق، اذن، ان يغادر الملعب العربي ليتسنى الاطمئنان الى مسار التفاوض فالسلام النهائي مع العرب. وفي الواقع، هناك تيار قوي في الادارة الاميركية والكونغرس يميل الى استثناء العراق حتى من هذا الخيار، ولا يترك امامه سوى شرط مغادرته المنطقة، وهو يعتقد ان الحل لا يكمن في تكييف وضع العراق مع العملية السلمية وانما في ابعاده عنها. لقد اعطت بغداد، من جانبها، وفي وقت مبكر من فرض الحظر الدولي، اشارات مشوّشة وغير كافية بالنسبة للادارة الاميركية، حول موقفها من العملية السلمية، ربما كانت اهمها على الاطلاق، اشارة نائب رئيس الوزراء العراقي السيد طارق عزيز والقائلة: ان العراق غير معني بمسائل النزاع العربي/ الاسرائيلي لأنه ليس من "دول المواجهة". وكان المطلوب، آنذاك، وسيكون مطلوباً في الغد ايضاً، لا ان تكتفي بغداد بهذه الاشارات الملتبسة، وانما ان تعيد صياغة خطابها السياسي جذرياً، وتعدّل تعديلاً لا رجعة عنه، فكرتها عن الدور المحدود للعراق في منطقة، اختلفت، بدورها، اختلافاً جذرياً. وبكلام آخر: ان يرتكز هذا الخطاب المُعالج الى منظومة من المفاهيم تستوعب هذه المتغيرات، بما يعني ان بغداد، تتحدث ايضاً، باللغة ذاتها السائدة اليوم عن السلام كخيار استراتيجي. ثالثاً: وفي هذا السياق، فإن المعضلة الجوهرية في الموضوع العراقي، بالنسبة للادارة الاميركية، عدا عن مسائل ملّحة اخرى، كالديموقراطية ومراقبة برنامج التسلح بعيد المدى، وحقوق الانسان والقمع، تكمن هنا: في الايديولوجيا التي يعتنقها النظام. ومن غير شك، فإن نزع الايديولوجيا عن انظمة الحكم في العالم الثالث، كان يسير، جنباً الى جنب، عملية نزع الايديولوجيا عن سدس الكرة الأرضية الاشتراكي انطلاقاً من المركز السوفياتي السابق. وفي حالة العرب، فكل ما تبقى عندهم من انظمة عربية عقائدية، بات أقل إزعاجاً، خصوصاً وان بعض هذه العقائديات سقطت سقوطاً مدوياً بفعل عوامل داخلية ضاغطة: في اليمن الجنوبي جرى اسقاط حكم الحزب الاشتراكي الماركسي عبر الحرب مع الشمال. وفي الجزائر، امكن اخراج جبهة التحرير الاشتراكية سلمياً من السلطة تحت ضغط المشكلة الاسلامية. اما في الصومال، فكان تلاشي الحزب الاشتراكي الطبيعة الصومالية من نظام عدن متلازماً مع تلاشي البلاد من الخارطة السياسية. لقد كان هذا الاتجاه المتسارع، والذي لا حدود له، نحو نزع الايديولوجيا عن انظمة الحكم في العالم العربي، سيستجيب لحاجات مرحلة ما بعد الحرب الباردة: نظام العولمة. اي، عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي والماركسية وسائر عقائديات مرحلة التحرر الوطني. وبطبيعة الحال، فإن من الصعب تخيل امكانية لصمود "اشتراكيات الاطراف" بعدما تم الاجهاز على الاشتراكية الأم في "المركز". وفي هذا الاطار، يصبح نزع الايديولوجيا عن النظام العربي قانوناً ثابتاً. ما لا تريد بغداد ان تستوعبه بعد، هو استحالة الجمع بين الخروج من الحصار، وبقاء عقيدة النظام البطيئة، والبقاء في المنطقة، ومقاومة العملية السلمية. ولذلك، تبدو السردية السياسية البعثية في بغداد وكأنها تخاطب نفسها. ولشدّ ما يبدو بعض مسؤولي النظام وهم يتحدثون للفضائيات العربية وكأنهم يخاطبون عالماً بوصفه مقر قيادة الحزب في "الكرادة" - وهي حي كبير في قلب بغداد، لا عالماً متشابكاً من المصالح والأفكار! وفي الواقع فان ما لا يدركه النظام في بغداد بعد، هو انه من بقايا الحرب الباردة بالفعل. والاخفاق الفظيع لهذه السردية، قد يتجلى على أكمل وجه، في دعوة الرئيس العراقي في اعقاب عملية ثعلب الصحراء، الجماهير للنضال ضد الامبريالية واسقاط انظمة الحكم العربية، وهو ما أعاد تذكير العالم المندهش من اصرار السلطة في العراق على الفهم المغلوط للمتغيرات، بحقيقة ان بغداد تنتمي سياسياً الى عالم الخمسينات. لقد دلت هذه الدعوة وسواها، على الكيفية التي تغدو فيها الايديولوجيا عنصراً مكبلاً للوعي السياسي بالعالم، ومن نافل القول ان فكرة العراق عن العودة الى المجتمع الدولي. عبر رفع الحظر عنه، تبدو فكرة غريبة حقاً، لأن السؤال الخطير الذي سيُطرح لا محالة ا مام العراق آنئذٍ هو: الى أي مجتمع دولي، بالضبط، يريد العراق ان يعود؟ ان ذكريات بغداد عن هذا المجتمع، تعود الى عقد كامل مضى، وربما اكثر، عندما كانت هناك "امبراطورية" للاشتراكية المتصادمة مع الرأسمالية، ولذا فان ما يريد العراق العودة اليه، ليس اكثر من مجتمع وهي أرست قواعده سردية سياسية عتيق وبالية، فلا جماهير ثورية، ولا حلفاء، ولا صراع مع الكيان الصهيوني. باختصار:؟ تغيّر العالم وظلت السردية حية. وهذه هي المأساة. رابعاً: بالمعنى المحدد، الآنف، يغدو مطلب نزع ايديولوجيا النظام، لا سلاحه الجرثومي وحسب، مطلباً عربيا يعرضه النظام العربي كشرط لقبول عودة محتملة للعراق. فلكي يعود العراق الى هذا النظام، يتوجب عليه ان يسقط كل ما هو ايديولوجي في خطابه السياسي، وان يضع حداً فاصلاً بين آليات عمل الدولة في حقل السياسة وبين الحزب الذي صارت عقيدته جزءاً من الماضي. ان نظاماً عربياً جديداً يوشك اليوم على التبلور ليس من وظائفه أياً من تلك الشعارات التي تصدح بها الايديولوجيا. انه نظام التسوية والشراكة مع اسرائيل والقبول بالهيمنة الاميركية، وهذا واقع لا يتعين التهرب من قبوله كحقيقة. ان الاقرار بهذه الحقائق، من جانب بغداد، ربما يكشف لها عن وهم العودة الى المجتمع الدولي، ووهم العودة الى النظام العربي الذي هاجمته وحرضت على تدميره. خامساً: وإذن، يرتسم مستقبل العراق في احد هذين المسارين: إما اسقاط الخطاب القومي العروبي وقبول استراتيجية السلام مع اسرائيل، او الانكفاء خارج الحيط العربي، أي: مغادرة الملعب العربي الى ملعب آخر. ان المقاربة بين المثالين الليبي والعراقي، والتي هدفت اليها هذه المقالة، ترتكز الى فرضية ان العراق سيتقبل الخيار الثاني لكل العوامل والأسباب الآنفة: الابتعاد عن العالم السياسي الراهن للعرب. لكن المشكلة التي سوف يصطدم بها هذا الحل الليبي - مجازاً هي انعدام الجغرافيا، فليس ثمة ملعب مُعدّ ومهيأ لاستقبال الضيف الجديد. وهذا صحيح نسبياً. بالطبع، يمكن نظرياً التفكير بالجغرافيا الخليجية التي ينجذب نحوها العراق تلقائياً، بفعل عوامل الثقافة والصلات. والقرابات الأسرية والتاريخية، لكن هذه متمنعة عليه حتى مع وجود عراق آخر، ولذلك ليس من المتوقع ان يتم استيعاب العراق في اي تكتل اقتصادي او تجمع سياسي مستقبلاً، فحساسية الخليج المفرطة ازاء العراق تتجاوز شخص الحاكم في العراق. وثمة اسباب متراكبة ومعقدة تمنع دخول هذا الحقل. يتبقى الخيار الوحيد المتروك للعراق، في هذه الحالة، نعني الاقتراب من حوض بحر قزوين عبر تركيا. وهذا ممكن، لما للعراق تاريخياً من روابط وصلات عميقة مع تركيا. وقد يكون للكرم العراقي ازاء تركيا بعد الزلزال مباشرة، حين عرض مساعدة عاجلة من النفط مجاناً 10 ملايين دولار كدفعة أولى اكثر من دلالة تتجاوز ما زعم انه محاولة من بغداد لاستمالة الرأي العام التركي. في حقيقة الأمر. يكشف هذا العمل الرمزي عن بُعد جديد من أبعاد الاقتراب المحتمل عبر تركيا من حوض بحر قزوين، وهو حوض بشري ثري، يمتلك قدرة عالية على الاستيعاب والتعامل مع مشاريع تكتلات اقتصادية تفتح المنطقة البكر على آفاق جديدة الغريب، ان احدى النظريات الاركيولوجية تعطي دلائل قوية عن ان الهجرات الاستيطانية الكبرى نحو بلاد سومر والجزيرة العربية انطلقت من حوض بحر قزوين. واذا ما أمكن تجاوز العقبات السياسية امام هذا الاقتراب المحتمل، فإن شبكات حديثة من المواصلات، كسكك الحديد مثلاً، تستطيع ان تسرّع في وتيرة الاندماج بكتلة كبيرة من شعوب هذا الحوض، وانشاء تكتل اقتصادي - سياسي ضخم يفتح الطريق نحو اوكرانيا وعبرها نحو اوروبا. ان تجمّعاً اقتصادياً - ثقافياً يجمع العراق بشعوب هذا الحوض التي خرجت للتو من عنق الزجاجة الشيوعي، بعد ان تم نزع سلاحها الايديولوجي، ليس خياراً مستحيلاً، فمن اوكرانيا في اقصى الشمال، الى تركمانستان وقرغيزيا باتجاه الشرق، والى كازخستان في الشمال الشرقي، وصولاً الى جورجيا وارمينيا وأذربيجان، هناك شعوب وجماعات هائمة تفتش عن ادوار لمرحلة ما بعد الايديولوجيا.. وهذا الظمأ الجماعي يمكن ان يكون قابلاً للإرواء عبر البحث عن مجالات حيوية اخرى للتلاقي الاقتصادي والسياسي والثقافي. واجمالاً سيجد العراق نفسه، في حال اختار سبيلاً كهذا، مرغماً ام طواعيةً، انه يقترب من حوض بشري تمتلك اغلبية فيه، ثقافة تركية ليست غريبة عنه ولا عن مكوّناته التركية المندثرة. لا شك ان ثمة ممانعة قوية، ولكن متوقعة، ستكون بانتظار العراق لو انه اختار البوابة الايرانية للاقتراب من بحر قزوين، ربما تضرب بجذورها عميقاً في تربة الاضطراب التاريخي المُعقّد للعلاقات العراقية - الايرانية، فأجواء انعدام الثقة بين بغداد وطهران ابعد من ان تحسب بحساب اليوم، وثمة اشتباك طويل ومرير ومتواصل للطموحات بين العاصمتين، لا يزال زخمه التاريخي يغذي كل اضطراب جديد في العلاقات. وبالنسبة لبغداد، فان المكوّن التركي في الدولة العراقية المعاصرة لم يشكل تهديداً للهوية، والعراق - بالتالي - لم يصبح أناضولياً حتى وهو يرتبط مع سائر الولايات الآسيوية بالامبراطورية العثمانية، بينما يشكل العنصر الايراني في المعادلة الثقافية العراقية، مصدراً من مصادر تهديد الهوية وهذا ما تقول به بغداد. ويبدو ان اصطلاح عراق العجم في التقاليد الكتابية التي تقدم توصيفاً للنفوذ الايراني في العراق بدءاً من العصر الصفوي 1499م يجسد هذه المخاوف من ايران ويعمل على تصعيدها في كل مناسبة يتطلبها التصعيد. واذا ما أضفنا الى جملة هذه الحساسيات الثقافية والسياسية، العامل الشيعي بكل ثقله، فإن تكتلاً يضم ايرانوالعراق معاً يبدو ضرباً من الخيال. وثمة واقعة لها دلالتها في هذا النظاق، فقد ارسلت بغداد قبل بضعة اشهر النائب الاول لرئيس الوزراء العراقي طه ياسين رمضان الى ماليزيا، حاملاً مقترحاً عجائبياً من مقترحات القيادة العراقية، يدعو ماليزيا والدول الاسلامية ودول العالم الثالث الراغبة لانشاء تكتل معادٍ للهيمنة الاميركية، وبالطبع لم تجد هذه المقترحات إذناً صاغية هناك. بيد ان المهم في هذه الواقعة، هو الرسالة التي ارادت بغداد ايصالها مبكراً: الاستعداد للاقتراب من آسيا الاسلامية، بينما يمكن الافتراض ان الهدف الحقيقي للرسالة ليس مقاومة الامبريالية، وانما استكشاف الطريق جيداً للاستدارة صوب آسيا الوسطى. الجغرافيا الوحيدة التي ازعم انها في صلب تفكير القيادة العراقية، لا آسيا الاسلامية البعيدة. سادساً: على ان المشكلة الأهم هنا تكمن في العقدة الكردية، وهذه تشكل في الواقع تحدياً مزدوجاً لبغدادوأنقرة، على رغم ان الاخيرة تنفست الصعداء بعد اعلان حزب PKK القاء السلاح، وهذا أمر له دلالة بالغة الأهمية في توقيته، فهو قد يمهد بالفعل لمحادثات متعددة الأطراف حول مستقبل كردستان العراق. واذا ما نجحت بغداد في التفاهم، هي ايضاً، مع اكرادها في اربيل والسليمانية على اساس الاقرار بخيار الفيدرالية وحق تقرير المصير تالياً، فإن جنوب شرق تركيا سيكون في هذه الحالة ملاذاً آمناً للعراق كي يتجه بحرية اكبر نحو أنقرة وعبرها نحو حوض قزوين. خيار العراق الآسيوي الذي لا يريده احد منا، قد يكون هو الحل الوحيد المتروك لعراقٍ يقوم محيطة العربي باذلاله ومحاصرته بأقسى مما طلبت قرارات الأممالمتحدة أصلاً. * كاتب عراقي مقيم في هولندا.