"كيف لمّا في مدينة صغيرة أخرى لمّا في محطة القطار وكيف الصدفة والحياة شاسعة، الحياة وغموض الأشياء، الرموز والإشارات، وكنتُ بعد دقائق إلى الرحيل...". بهذه الإستهلالات الرخيمة، المعطوفة على ما سبقها، في النبر والمعنى، تبدأ الشاعرة صباح زوين مقاطعها النثرية لتعود، إثر القليل من الصفاء الخادع، إلى الحزن والجنون والخراب، إلى الكآبة والوجه الذي لا ينفك الألم عن سحقه مع كل مشهد خارجي، أو كلام غرباء يقال لها. وهي تختار لسياق موضوعها الجديد أكثر الأدوات إمعاناً في تعميق مأساة الإنسان الحديث: القطار، بما ترمز إليه عجلاته وقضبانه الحديدية المتشابكة من تيه وفراق وعدم استقرار. أما الموضوع ذاته فهو الصورة القدرية للألم. وكلما توغلنا في النصّ، وهو موزع بتساوٍ، مقطعاً واحداً لكل صفحة، في جملة واحدة طويلة نسبياً، نكتشف جحيم هذا الألم. إنه أشبه بالقدر الإغريقي القديم، أنتيغونا من هذا العصر، يمكن تخيّلها ببنطلون جنز وحقيبة على الكتف، تبحث بين المدن الكبيرة والصغيرة عن عاطفة حقيقية ومعنى للأشياء، ليس لدى الآخرين، إنما داخلها. تقع أعمال الشاعرة زوين النثرية ضمن ما يمكن أن نطلق عليه "نصوص الألم" التي ظهرت في الأدب الفرنسي نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي. هؤلاء الكتّاب حاولوا صوغ حياة الإنسان في إطار قدر تراجيدي أليم، بعدما جعله اليونانيون مقتصراً على الآلهة القديمة وزوجاتهم وابنائهم، وقد نجح الكتّاب المذكورون في رسم القدر التراجديدي للبشر الأرضيين من خلال تجاربهم الشخصية. وهم عانوا في الواقع آلاماً جسدية هائلة لوتريامون وآرتو أو تمزقات نفسية جينيه واعتمدت نصوصهم لغةً تعبيرية قوية، واسلوباً متميزاً إلى حدٍ ما. ضمن هذا التوجه، رسمت صباح زوين لنصوصها النثرية "لأني وكأني ولستً" ومن قبله "البيت المائل والجدران" ثيمة خاصة بها عن القدر التراجيدي للإنسان الحديث، عبر العودة إلى الجحيم بعد كل خروج. وتمتلك صباح زوين لغة مأسوية، سلسة، ومشرقة في تلاوينها، فهي تكرر العبارة للدوران على المعنى بتنويع الصياغات، وكلها معانٍ تشتعل بزيت واحد: الألم. والألم هنا ليس جسدياً عاهة إنما نفسياً، مع ظلال ميتافيزيقية خفيفة بلا عبء فكري، سببه وعي حاد بالغربة والضياع، والتمزق الناتج من إخفاق المشاعر في التواصل مع الأشياء والبشر الآخرين، وفي بعض اللمسات الوجلة: الخوف من الموت. ويرمز إلى ديمومة المأزق، بالخروج منه ثم العودة إليه، قطار يذرع مسافات أبدية يغتذي وقتها بالحزن، يعبر مدناً تميد وتضيع ملامحها قبل أن تختفي. ويمثل هذا جوهر أسلوب صباح منذ كتابها "البيت المائل والجدران"، وقبل ذلك في دواوينها الشعرية التي كتبتها في الأصل بالفرنسية ثم ترجمتها إلى العربية بنفسها. ومجازات وصور الديوان الجديد أكثر رهافة، وأكثر متانة في بنائها اللغوي والبلاغي: "وبكيت حتى غفوتُ أرضاً..."، أو: "ماذا ينتظرني وكل الأحزان اجتمعت في قلب واحد..."، كذلك: "وأيضاً هناك، على أرصفة أزلية توقف جسد منطوٍ على آلام وموت، تلك معجزة الموت لمّا يتحول نوراً واخزاً كمكان الدم والرؤيا، تلك معجزة النور لمّا يتحول موتاً وحياة في جسد واحد، الجسد المسكين الذي دفعته نحو الجحيم". والشاعرة في هذه الصور وغيرها لا تفكك اللغة كما يدعي البعض عن كتاباتهم هذا مفهوم خاطئ لأن اللغة لا تُفكك بل يمكن تفكيك المعاني إنما تشذّب الصياغات، ويجوز القول إنها تكسر ترتيب العبارة، مع الاحتفاظ بقوة المعنى وجماله، ويأتي الكسر بعفوية من دون جهد لغوي مقصود: "وقلت وقليل من الفرح إلى قلبي، إلى جسدي الممزق، قليل من الفرح وسط ركام الحزن والجنون والفراغ، كيف أتى هذا الوجه وسط خرابي وسط هلاكي وسط موتي كيف وكان الوجه صلةً بتلك المدينة، كان إشارة وايماءة وكلمة، الوجه أتى في اللحظة الأخيرة، وكان وجهي في شحوبه، في كآبته وجهي المهشّم، الذي وجهي ينظر إلى العدم..." ص 25. فاللغة العربية، بصفتها تطوّعت للشعر أولاً، ثم للسجع، تجيز مئات الحالات لتنويع الدلالة النحوية، مثل تقديم أو تأخير موقع المسند والمسند إليه، أو تغيير وضعهما بحذف الأفعال الناقصة، ويأتي تلاعب الشاعرة زوين في ترتيب عباراتها بعفوية، لكن بتحفيز موسيقي صادر عن الرأس، أداتها في ذلك التكرار: "الإنحناء الشديد لم يكفني، وكم تلك الليلة في عزلة الغرفة، الموقتة، الليلة التي في الألم الصميم، والليل في سكونه المخيف، إليّ كان يصل هدير القطارات وتصل معه ذاكرة الأمس والشمس البطيئة، أمس السهول والسهوب والمحطات، وكانت المدن تتكدس في العين الكئيبة، والإنحناء العميق تلك الليلة لم يكفني ونمت في عزلتي ولم أنم ولمّا أستفقت من عدم نومي...". هذا التلاعب يجعل اللغة نفسها تلتاع وهي تركّب صور الألم وتبني معانيه، وهذا منطلق مأسوي يعزز الأسلوب. وفي السنوات العشر الأخيرة ظهرت نصوص نثرية جميلة لعدد من الشعراء العرب الشبّان، استطاعوا بها الخروج من حدّة وجمود قصيدة النثر، التي بدت في الفترة الأخيرة كأنها تدور داخل زمن متوقف، وموضوع بلا أعماق جديدة، ويمكن إضافة نصّ الشاعرة صباح زوين "لأني وكأني ولستُ" إلى هذه النصوص نفسها.