تركت الشاعرة اللبنانية صباح زوين (1955-2014) قبل شهر من رحيلها ديواناً بعنوان «عندما الذاكرة وعندما عتبات الشمس» (دار نلسن- 2014). والأرجح أن هذا الديوان، البالغ تسعين نشيداً مختزلاً، كل نشيد في صفحة، قد كتب خلال معاناة الشاعرة من مرض السرطان الذي أودى بها. لا تلوح صفرة الموت الخفيفة على غلاف الديوان الذي رسمه أمين الباشا فقط، بل إنّ القصائد نفسها أتت خافتة متماثلة كلهاث المرض. وفي الصور الصغيرة التي تملأ الغلاف كفسيفساء، تتجلّى صورة واحدة هي أقرب ما تكون لوجه صباح زوين: وجه ناحل بيضاوي أقرب إلى الطفولة، أبيض اللون فيه صُفرة، وشعر أشقر فوق جبين يميل إلى الاتساع. قبل المرض، كانت صباح زوين، من شدة هزالها وشحوبها، تكاد تنهدم تحت جسدها، وكنت أرى في هذا الشحوب والرقة الجسدية جمالاً خاصاً لا تنطوي عليه الأجساد البضّة للنساء والخدود الممتلئة الحمراء. إنه جمال الضعيف وجاذبيته. وصباح زوين التي ختمت ب «عندما الذاكرة...» كان قد صدر لها أحد عشر ديواناً من الشعر ما بين عامي 1983 و 2011، أبرزها «بدءًا من أو ربما»، «كما لو أن خللاً، أو في خلل المكان» «لأني وكأني ولست»، «هي التي، أو زرقاء في قلب المدينة». وصدرت لها كتب بلغات أوروبية مختلفة: بالفرنسية (في بلجيكا ) والإسبانية (في مدريد)، وأصدرت انطولوجيات مختلفة وترجمت إلى العربية كتباً عن الفرنسية والإنكليزية والإسبانية التي تجيدها. فهي خصبة ومتنوعة الإنتاج. ولكن ما يميزها، هو أسلوبها في الكتابة وطريقتها في تشكيل النص الشعري من نتف الكلمات ونتف الجمل، ودخولها في مغامرة كتابية من الاختزال اللغوي والنحوي معاً، أساسه اللعثمة والجمل الناقصة والتركيب الذي يُضمر أكثر مما يُظهر. وهو أسلوب اختصت به صباح زوين في باب التجريب الشعري الحديث في قصيدة النثر العربية. ونلاحظ ظلالاً على كتابتها من شوقي أبي شقرا، في شكل خاص، ومن أنسي الحاج، ولعلّ أثراً أسلوبياً من العهد القديم والجديد، مترجمين إلى العربية، ظهر في تركيب الجملة في كتابتها، كقولها: «كانت نافذة/ وكانت عتمة داخل النافذة/ أما الرصيف/ فمبللاً بعد مطر كان/ وفي غيابك أنا كنت» (عندما الذاكرة... ص 32). الظاهرة الأسلوبية كتبت صباح زوين عدداً من دواوينها الأولى بالفرنسية، فصدر لها أربع مجموعات شعرية قبل أن تبدأ الكتابة بالعربية، وقامت هي نفسها بترجمة دواوينها التي وضعتها بالفرنسية إلى العربية. لكنّ كلمة «ترجمة» تجاه هذا العمل لا تفي بالموضوع، وربما الأصح أنها عادت فكتبتها بالعربية. يلوح لنا شكل من المتوالية التعبيرية بين لغتين في شعر صباح خراط زوين، ما يعني أن تقنية التفتيت والتفكيك وقضم الجمل من أطرافها وقضم المشاهد والموضوعات، هي صدى لصراع ذات الذات، وهي الذات الشعرية المتمثلة في الذات، على ما يرى نوفاليس ويذكره باشلار في كتابه «شاعرية أحلام اليقظة». إنّ عناوين دواوينها، الآنفة الذكر، وصولاً إلى الأخير «عندما الذاكرة، وعندما عتبات الشمس»، تشير إلى هذه اللعثمة الإبداعية. فثمة بداية في القول ما تلبث أن تحجم أو تستطرد، ما يوقع الجملة في طفلية أو دادائية. ولعلّ وراء ذلك صعوبة الفكر، أو صعوبة الوضوح، أو صعوبة العبارة، فيتشكل بنتيجة ذلك مجتمعاً من كلام (عكس - بلاغي)، نثار كلمات وحروف، نتف جمل، وأشلاء لغة. ولعلّ السبب يتجاوز صعوبة المعنى (والمعنى دائماً صعب وغالباً ما هو مستحيل) إلى الخوف، أي الخوف من البيان. نحن في شعر صباح زوين أمام لغة خائفة شبيهة بطفلة تقضم أظافرها من الخوف، أو تشدّ أطراف ثوبها باستمرار، لذلك لا يصل من هذا الشعر سوى خوفه ودادائيته. تقول: «ذكريات/ هي في عمق يدي لأن وجهك غائب/ ولأنّ لحظات الأصيل/ عندما الشمس في دورانها» ( عندما الذاكرة ... ص 15 ). فالفقرة هي أشلاء فقرة، والشاعرة تنتف الفكرة تنتيفاً. وقد جاء في لسان العرب لابن منظور: « ينتف من العلم، لا يستقصيه». فالنتفة القلة وعدم الاستقصاء محاولة في العربية المعاصرة تسير في اتجاه معاكس للفصاحة والبلاغة بالمعنى الأصلي لهما. وهو جديد وخاص في لبنان، حيث المغامرة على مداها. في الديوان الأخير للشاعرة نحن أمام مقاطع وأناشيد صغيرة متماثلة، بمثابة مراثٍ للحب والوقت والأماكن. وتظهر صباح زوين كأنها امرأة من زجاج مكسور أو قابل للكسر: «انكسر الوقت على نوافذنا المتشققة/ لأنك أنت بالكاد عانقتني / وبالكاد في بريق الغياب» (ص 38). ومن حيث أنها هي «المتألمة»، فإنّ الألم (للمفارقة) نادراً ما يتكلم بلسان المتكلمة (الشاعرة)، بل يصعد مما حولها. من أماكن قليلة مهجورة: باب، نافذة، مقعد، قطار، غروب شمس... وبخاصة من غياب شخص هو «هو». هذا الشخص لا ندري بالتحديد هل مات أم رحل؟ المؤكد أنه غاب. عاشت معه حبّاً قليلاً كجسدها ثم غاب. تقول: «لأنك الغائب/ ولأنك الشاحب» (ص16). وتقول: إنك الغائب/ وإنك المتواري» (ص 44) ، «لم أعثر على أصدائك/ لم يبقَ في يدي أي حرف من اسمك» (ص 45). لقد كان هو «الوقت وملء الأمكنة، يرسم ألوان الشمس على الشبابيك، وعلى المقاعد، وعند الغروب». ما يملأ نصوص صباح زوين إنما «هو»، لا بحضوره الراهن، بل بغيابه، أي بحضوره في ظلال ما كان. في فجوات الذاكرة وكسور الخاطر وعتبات الشمس المنهارة، حيث يحدث فراغ في قلب الشمس. كتابة صباح زوين مؤلمة، وهي ذات رقة تنداح من نص إلى آخر كموجة بحرٍ حزينةٍ متكرّرة في مساء ما. وقصائدها تقرأ لمرة واحدة، وتجذب إليها بمناخ أصفر شاحب. ففي الألم، ترتفع رايات ومناديل وداع وعلامات غياب حزين. ولعلّ من أسرار جاذبية هذه الكتابة أنها كتابة دائرية وغير مكتملة. فالمضمر في الكلام مفتوح وتلبيه الصيغة. وهي إذ يسيطر عليها فعل «كان»، وهو فعل فوات وتذكّر، وفعل رثاء ومرثيات، إلا أن ترداد الماضي وذكرياته لا يأتي بسرد ما لا يحصى ويُعدّ من محطاته وعلاماته. عدد قليل من محطات التذكر، أو أوقاته: شجرة، شمس طالعة، ساقية، سروة، عتبة، كرسي، باب، ولا شيء غير ذلك. ولعلّها تفتح الباب للإضافة المفتوحة من خلال استعمال كلمة «أيضاً» في أكثر من موقع، بخاصة، في نهايات الأناشيد: «كنا نطلّ على أيام وشمس / وعلى أحلام أيضاً كنا» (ص 10). «هو كان هنا/ وفي زجاج النافذة أيضاً كان» (ص 34)... وأيضاً هي مفردة إضافة و استئناف. كلّ نصوص صباح زوين هي نصوص استئناف، وليست نصوص استغراق، إنما متابعة، كأنها نصوص تستعيد ذاتها أو تدور على ذاتها في حركة دائرية لا تبدأ ولا تنتهي. تستطيع أن تبدأ القراءة من بداية أية صفحة من صفحات ديوانها الأخير، وتمشي في النص وكأنك تتذكر سابقه، أو كأنك تقرأ النص اللاحق. وعلى ما نرى، فإنّ أهم ما يميّز كتابات هذه الشاعرة، المارة بسرعة وخفّة مؤلمة على هذه الأرض، هو - إضافة إلى الشجن - طريقتها في ترتيب الكلمات أو طريقتها في ترتيب «الشجن»، وهي طريقة أسلوبية بامتياز. ولعلنا أيضاً، أمام كتابة ظنيّة، أي متصلة بعمق بالشعر، وهي تبعاً لذلك، كتابة لا للإثبات بمقدار ما هي للمحو. أو ربما للغياب: «كانت نافذة/ وكانت عتمة داخل النافذة/ أما الرصيف مبللاً بعد مطر كان/ وفي غيابك أنا كنت» (ص 32).