- 1- *(في محاولة مني) ديوان جديد صادر عن دار نلسن للشاعرة والباحثة والمترجمة اللبنانية صباح زوين أكثر الأصوات انخفاضا وتوهجا . بنبر خافت ، بلا مبالغة في تصريف الهواجس ولا تهويل في استلهام ردات فعل قوية .ينكشف القول الشعري عن تمجيد للهدوء التام لارتقاب المرارات على هيئة تقطيع سينمائي وبطريقة مؤثرة وراقية تتشكل المقاطع القصيرة في كل صفحة كبستاني يحرث جنينة الأحزان وتريد بدلا من السقي بالماء النقي بدفع الدموع والندى لكي تتحول إلى سيول وهادئة أيضا : "في اللحظة التالية جلسنا في ردهة واسعة حيث أحاطتنا بعض الأوراق وصور الأصدقاء ، " أما الوقت فكان قد بدأ يميل " هذا نوع من الكتابة لا يحتمل تورية بمعنى ، هي تعرف بالضبط أن هذه الشحنة من العطش لا تحتاج إلا لنوع من الملامسة الحانية فتعود التويجات ثانية للتفتح . أفكر بكل ما يحيطنا وصباح تكتب في أثناء الوجع ، في أثناء التجربة فأعرف أن الألم ، ألم الاشتياقات الصاعق حضر وأتخذ هذا المنحى من الأسى الشفيف . الولع هنا في هذه النصوص كالوداع يبدو مرهقا مهلكا جدا لكنني لا اسمع أي نوع من الحسرات . - 2- " كنا ننحنى كل صباح على صمتنا ولم أعد أذكر كيف كانت الاباريق المهشمة ولا الشبابيك المغلقة كنا فقط نحاول الاقتراب من دائرتنا " نحاول كبت تلعثمنا " رحلة الشاعرة بالقطار اسمع أنينها ألا تصل إلى النهاية ولو بطريقة شعرية أيضا فتبدو الكائنات من حولها ؛ امرأتين ، الزمن ، الوقت ، الساعات الأزل الدمدمة الريق الناشف وذاك العذاب الذي يتجاوز الأربعة والعشرين ساعة . عذاب مؤكد يبدو كالرياضة البدنية جاهز قبل التعرف على (أ) وبعد الرحيل عن (أ) . انتباهات جميلة لما يجاورها ويقلقها وهي تنكب على روحها قبل نصها لكي تنظفه من الصخب فتدفع به لفن العيش المخصص للألم ، بلا تضخيم الافاضة به ولا التبجح أنه من منجزاتها فقط فيبدو الألم في هذه النصوص وبمفارقة غريبة نوعا من الرضى عن الذات وهي في قبضته بعيدا عن جميع نظريات علم النفس الحديث : " لا أذكر إلاّ (أ) ربما لأني احببت الإسم (أ) المحطة ما قبل الأخيرة ، وعلق المطر على الزجاج ، تراكمت اوقاتي المميتة ، وقفنا في متاهة الغرفة ، والصمت والكأس في يدي إلا أن الليل تداعى ناحيتنا " والغد كان للرحيل " 3 عدت لنصوص زوين السابقة : " البيت المائل والوقت والجدران " الصادر في العام 1995عن دار نشر أمواج حين كانت كما تكتب في شمال القطب الجنوبي من العالم والنصوص كتبت كما أحسب في منتصف سبعينات القرن الماضي لكنها كانت تغلي . كنت أتصور وأنا أقرأ أن صباح كانت في فرن ذري تكتب من داخله فأشم شياطها وتفتيتها وانهيارها . لوحات كما أطلقت عليها دونت من جحيم فعلي فظيع تأكدت من يدخله سيتحول إلى رماد يضىء فيما بعد الذات وما حولها . كما في ديوانها (لأني وكأني ولست) عنوان مائل هو الآخر غير منجز يتأرجح ما بين : " الألم الهائل والموت رغبة أو ذلك الجنون من غياب المعنى لمّا توجعت حتى الالتواء وحتى الصراخ الذي لم يطلع " . هذه كتابات اللحظة الأخيرة التي ينبغي أن نقول فيها الدنيا وتقلباتها لا التمويه على المغامرة الأصلية ، في الهجر والترك وبالتالي الموت . صباح تشكيلية أيضا ، لديها بورتريهات تحاول أمامنا أن تعيد تأهيلها . بيدها قلم رصاص وهي لا تفضل الحفر على الأشياء ، تغوص تماما إلى القاع لكنني أرى المخلوقات من وراء ضباب : " في طريق العودة ، لم تكن تمطر كانت زرقة السماء تشير إلى موت ما " أتصور هذا المقطع أو ذاك في جميع نصوص زوين هو بمعنى ما ماضيّ أنا ، وللحظة قصيرة كتبت عنه الشاعرة بدلا عني كتبته سابقا ، كتبت عن الحب والفراق والمحبوب . كتبنا جميعا عن ذاك الوجه الذي يتوجب علينا في ساعة ما توديعه ولا نملك في ركام الكلام أية جملة أو كلمة إلا السكوت . كيف تمتلك جميع هذه الموجودات كل هذا الثراء والتراجيديا ولا تدخل في التبسيط ؟ إن الصلة التي تجمعنا بهذه الكاتبة أو ذاك الشاعر هي تلك اللحظات اليومية المشتركة التي لم يتورط بعضنا استعجالها فبدت أنها شديدة الصلة بنا . 4 " في محاولة مني " كتاب بورق غير صقيل وغلاف شديد التقشف ونصوص بدون تواريخ ولا عناوين . هو تخطيط خفي لشخصيات نراها مرة واحدة في العمر ، في رحلة قطار أو شارع ضيق أو مطعم معتم . نصوص بالغة العمق بزهدها فتستدعي التفاصيل خصوبة نستشفها حين نسمع صرير وقوف القطار أو نرى تلك العروق في يد المرأة أو الشعور بالكمد والغم في فترة اشتعال الرغبة والشوق . كل لقطة في الوجود تستدعينا لانفجار قصيدة أقوى مما في أي كلام نتصوره خطيرا أو نادر الوجود مع بعض المشاهد غير القابلة للتصديق من إيحائها ورهافتها : " بضعة أيام تكفي لدفع لغة صورة قطار تكفي لبناء قصيدة مطر قليل يكفي لامتداد كتابي مشهد امرأتين يكفي لايحاء طويل بضعة أيام في بيت تكفي لتملأني كتابة " لحظة موت تشبه الأزل في مطبخ بارد ".